البارت الثالث

وجوه مخبأة.

دائما ما نرى القسوة بوجهها الحاد، فنحن لا نرى في الاحجار سوى صلابتها، لا ندرك أن تلك الاحجار بالرغم من صلابتها تنكسر، فالجبار تتفتت بقطرات من المطر.


لم ترى سهيلة من قسوة والدها الخوف عليها، ومن والدتها عدم القدرة على الاستغناء عنها وحبها لها، بل رأت فقط تلك الصورة التي رسمها لها آثر في حدتها.


رسبت سهيلة في عامها الجامعي الثالث وكان ذلك بسبب آثر، للمرة الاولى تهمل دراستها ويكون الفشل حليفها؛ لتواجده معها، حزنت سهيلة كثيراً وبالرغم من ذلك إلا إنه قلب الامر لصالحه عندما اخبرته إن والدها يريدها أن تكمل دراستها الجامعية:

-الو مرحباً يا آثر.
-مرحبا يا قلبي، ماذا هناك؟ لم يبدوا صوتك حزين؟
-لا شيء ماذا تفعل؟
-دعكِ مني الان يا سهيلة واخبريني، هل قام احد بإزعاجك؟ هل تحدث اليك والدك او والدتك؟

-لأ يا آثر انا من قام بازعاجهم.
-لأ افهم ماذا تعنين؟!

قالتها سهيلة وهي في قمة الحزن والندم باكية:
-لقد رسبت يا آثر لقد رسبت.

لم يهتم آثر لذلك هو في حقيقة الامر لا يريدها ان تكون افضل منه واعلى منه في المكانة الاجتماعية، كيف لها ان تتم دراستها الجامعية وهو فقط وصل للمرحلة المتوسطة ولم يستطع أن يكمل دراسته؛ بسبب قسوة والده وإجباره على العمل معه.

قال آثر باستغراب:
-ألهذا تبكين؟ هل هذا ما ازعج والديك يا سهيلة؟!
-نعم يا آثر لقد حلم ابي دائما بأن اكمل دراستي واجتهد، لا تنسى أني الوحيدة في اخواتي من اتم تعليمها إلى المرحلة الجامعية، حزنت كثيرا؛ لاني خزلته وخاب امله بي.

همهم بسخرية مبتسما بجانب فمه وهو يتحدث عبر الهاتف، تتضح في عينها الصورة التي يتحدث بها من نبرة صوته المستفزة:
-وانا اعتقدت انك تحدثت إليهم عنا وعن زواجنا، تخبريني أنكِ نادمة على رسوبك؛ لان الامر يعنيهم؟! يا الهي وهل تخافين على مشاعرهم؟ هل راعى احد مشاعرنا؟

حاولت التحدث سهيلة بعدما صدمت من رده لكنه لم يمنحها فرصة التحدث، بتر حديثها قبل أن تتكلم:
-كنت اعتقد اني اهم شيء في حياتك الان يا سهيلة، لكن اكتشفت ان دراستك تعني لك اكثر مني بمراحل، تبكين لاجلها ولا تبكين لاجل بعدي عنك.

-آثر ليس الامر كذلك انا فقط حزنت لانني للمرة الاولى ارسب فيها هذا العام لم اشا ان يحدث هذا معي، في نهاية الأمر انها مصلحتي.

زفر بضيق وقال بانفعال:
-مصلحتك معي يا سهيلة، انا فقط من يعلم فيما تكون مصلحتك.
-اعلم يا آثر ولكن.

بتر حديثها بحديثه الشيطاني وفقرات السحر الخفي التي يلقيها عليها من فمه:
-لكن ماذا يا سهيلة؟ هل تعني لك الدراسة اكثر من وجودي بجانبك؟ لقد اخبرتك اني على اتم الاستعداد بأن اتخلى عن كل شيء في حياتي لاجلك، واكتشف أن هناك ما هو اهم مني في حياتك.

-آثر ليست هناك مقارنة في ذلك.

لم يعطيها فرصة للحديث وقال بسرعة يتصنع الحزن:
-اخبريني يا سهيلة إن قام اهلك بتخييرك بيني وبين دراستك اي منا ستختارين؟

حاولت التحدث وبتر حديثها بصوت مرتفع ومنفعل:
-آثر من فضلك ليست هناك مقارنة انا..
-فقط اخبريني ماذا ستختارين يا سهيلة؟

تنهدت سهيلة وقالت وهي واثقة بانها لم تخسر دراستها، لكنها صدمت من رده عليها، لقد اوقعت بنفسها في شباك مكره وعليها ان تتحمل تلك اللعنة التي اصابتها:
-انت يا آثر ساختارك انت.
-حسنا إذا لتخبري اهلك انك لن تذهبي إلى الجامعة مرة اخرى، وإنه ليس هناك اهم مني في حياتك، اتركي الجامعة يا سهيلة إن كان هذا هو العائق الذي يتحجج به اهلك بيننا.

انتابها الصمت للحظات تتقطع كلماتها لا تعلم ماذا تقول فهي من اعطت له تلك الفرصة الذهبية حتى يسلب منها كل ما تحب شيئا تلو الآخر، ويجعلها وحيدة من كل شيء سواه؛ حتى لا تجد غيره امامها:
-آثر أناااا، لكن، لم تقول ذلك؟! انها دراستي، هذا لن يؤذ احد من اهلي لكنه يؤذني.

وها هي فقرة السحر الخفي التي يتمكن منها خلالها ويسيطر عليها بتلك الكلمات العسولة التي حلاوة مذاقها تفقدها كل غالي و نفيس:
-تعلمين ماذا اريد أن أفعل الآن؟ اريد أن احتضنك بشدة، لم أكن اعلم أنك تحبينني إلى هذا الحد، وانا لو كان لدي الخيار بينك وبين الدنيا لاخترتك وفارقت الدنيا.

-ادامك الله لي يا آثر انا ايضا احبك كثيراً.
-سهيلة انا لن امنعك من إكمال دراستك الجامعية، انتظر فقط حتى يستسلم اهلك لحبنا، وساجعلك تفعلين كل ما تريدينه حبيبتي.

-حقا يا آثر؟!
-بالطبع حبيبتي اقسم لك بذلك، انت حياتي وقلبي وقطعة من روحي، لن اسمع لشيء يزعجك وان كان هذا الشيء هو انا، ساضرب نفسي حينها.

ضحكت سهيلة ونسيت خسارتها الفادحة، وتخدرت بمخدر قوي دام تأثيره لسنوات.

كان اغلب حديثهما عبر الهاتف لبعد المسافة بينهما، لم تكن سهيلة تعلم عنه شيئا سوى حديثهما عبر الهاتف، لم تكن تراه سوى كل ثلاثة او اربعة اشهر، لكنها كانت تراه عبر صور المراسلات.

كانت هناك مقولة تقول أن الشخص الذي يبعد عن عينيك يكن بعيدا عن قلبك ايضاً، لكنه في حقيقة الامر يحدث العكس، عندما يتخلل الحب إلى القلوب وخاصة الحب الاول، تظل القلوب تنبض بحبه مهما بعدت المسافات ومرت السنوات، وتظل تتزكر زكرياته وان مرت عليها سنين.


في حقيقة الامر ان ما يبعد عن العين لا نعرفه جيدا، إن لم نكن نعرف اصل الاشخاص ونشأتها تلك هي الكارثة الكبرى، فإن وضعت مقارنة لزواج فتاة من شخص تعرفه، تعرف عائلته وحبذا إن كان من نفس البلدة او المكان الذي تعيش فيه، وبين شاب يعيش في مكان آخر غريب عنها وعن عائلتها لا تعرف عنه شيئا ولاتراه سوى على بعد فترات زمنية، بالطبع اخبرها بأن تختار من هو قريب منها من بلدتها تعرفه اصله واصل عائلته وان كانت تحب الآخر.


دائما ما تكون هناك وجهة نظر بعيدة المدى للوالدين خاصة فيما يخص زواج ابنائهم.


عندما اخبرت سهيلة والدتها انها لن تذهب لخوض امتحانها صدمت الام وكادت أن تفقد عقلها وقالت بانفعال وغضب:
-ماذا حدث لك يا سهيلة؟! لقد كنت الوحيدة التي تفضل دراستها دوان اخواتك! ماذا فعل لك هذا الولد؟

ادارات ظهرها إليها وقالت بخجل تخفيه:
-امشي من فضلك ليس له علاقة بالامر، انا من قررت ذلك لن اذهب ولن اكمل جامعتي.

تضرب والدتها كفا على كف:
-ولم ذلك؟! اخبريني لم كل ذلك؟ ستندمين ندم عمرك يا سهيلة، اسمعيني يا ابنتي الرجل الذي يجبر امراة أن تتخلى عن احلامها لاجله لا يسمى رجلاً، الرجل هو من يقف سندا لزوجته ويكون حافزا لها ومشجعا، يتقاسم معها كل شيء، يتفهمها وتتفهمه، لقد غيرك هذا الشخص حتى على عائلتك، من انت؟! انت تلك الفتاة التي كانت لا تفارقها الضحكة، انظري الى وجهك كيف يبدوا منذ انت تعرفت إليه.


امسكت الام بيدي ابنتها وقالت وهي تبكي على ما وصلت إليه ابنتها، وتبكي سهيلة؛ لانها تعلم من داخلها إن والدتها على حق فيما تقول:
-هيا يا ابنتي قومي واذهبي إلى جامعتك وخوضي امتحانك بكل شجاعة كما اعتدتي، هيا يا ابنتي، استعيدي بالله من هذا الشيطان الذي تخلل إلى رأسك بافكاره، يريد والدك أن يراك احسن من اي احد في الدنيا هيا يا عزيزتي قومي.

وبالفعل استجابت سهيلة لوالدتها وللمرة الاولى تشعر انها تخطت الحدود التي رسمها اليها، كأنها افاقت من غيبوبة، قامت وبدلت ملابسها وذهبت إلى جامعتها، وفي طريقها إليها رن جرس هاتفها وإذا بآثر يتصل، ارتبكت وتوترت، وشعرت بالقلق، كيف الا تجيبه، سيلعم انها خرجت دون إذن منه، وإن اجابته سيعلم انها بالخارج، ظلت تفرك جبينها بتفكير ماذا تفعل؟


وقررت أن تذهب الى صديقتها رباب في منزل زوجها، بعد فترة طويلة منذ زواجها لم تراها التقت بها وتزكرا معا تلك الأيام التي كن يقضينها معا، أخبرت رباب بما يحدث لها ورفض والدها للزواج من آثر، وقالت رباب بكل جرأة:
-تزوجيه دون علم والدك.

صدمت سهيلة من ردها اعتدلت في جلستها وقالت لها بضيق:
-لست انا من افعل ذلك يا رباب، هل كنت ستفعلين ذلك عندما رفض أخاك زواجك من مالك؟ لم تفعلي صحيح؟! لماذا تريدين أن أفعل أنا ذلك، بالطبع وتحديث كذلك لانك لست مكاني وأصبحت متزوجة الان من الشخص الذي اخترته.

قالت لها ببرود:
-حسنا وماذا ستفعلين؟ إذا انصاعي لأوامر والدك وتخلي عنه ونحن كم تمنينا أن تحصلين على رجل مثله، هل سينظر اليك اخر بهذا القدر من الجمال يا سهيلة؟

-من الذي يتحدث انت يا رباب انت من تقولين ذلك؟!
-انا اتحدث اليك بصراحة يا سهيلة وانت تعلمين ذلك.
قامت سهيلة منتفضة وقالت وهي تحمل حقيبتها تستعد للذهاب:
-لم اختر شكلي يا رباب يمكن اني لا امتلك الجمال الخلاب لكني راضية عن نفسي كل الرضا، وامتلك من الجمال الداخلي ما لاتمتلكيه انت او احد غيرك، سأذهب.

امسكت رباب بيدها وقالت:
-على أزعجك حديثي يا سهيلة لم أقصد أن أزعجك.

-لا عليك انا سأذهب الآن لقد تأخرت.
-وماذا ستفعلين مع آثر.
-لا تحملي هما ساتدبر الأمر وداعاً.


مازال الهاتف يرن وقررت أن تقف على جنب وتجيب بصوت منخفض تدعي النوم:
-الو آثر.
-هل مازلت نائمة حبيبتي؟
-اوه نعم نتحدث عندما استيقظ.
-حسنا يا عزيزتي وداعا.

عادت سهيلة إلى المنزل حزينة مما سمعته من صديقة عمرها، الا يقال أن الصديق تجده وقت الضيق، لكن ليس دائما يكون وجوده مفيدا ولا وجوده كما نتمنى أن يكون، تلك هي الدنيا ليس دائما ما نتمناه نحصل عليه، وليس دائما من نرغب بوجودهم والحصول عليهم يكونون الافضل.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي