البارت السابع عشر

ما نراه اليوم ليس كما لا نراه غداً ولا نعلم ماهو وكيف يكون، لكن لنكن على حذر فيما نخطيه اليوم حتى نضع اساسا صحيحاً لبدايات غداً.

عندما كانت سهيلة في صالون التجميل تستعد لقضاء ليلتها الاخيرة في منزل والدها بفرحتها التي لاتوصف، كانت لا تفكر سوى في تلك اللحظات وتلك الفرحة التي تراها في اعين الجميع، كانت تعتقد بأنها لن تنتهي هذه الفرحة وستظل ترافقها الى الابد.

ابتسمت سهيلة بفرحة عارمة وقالت:
-حمدا لله على ذلك، لقد تم الامر يا رباب.

فرح الجميع وقامت رباب تزغرد فرحا، تخطت الساعة السادسة مساءاً واصبحت سهيلة جاهزة، اتى عمها بسيارته الفخمة ومعه آثر ليصطحب سهيلة، خرجت سهيلة على آثر في طلتها الاولى كعروس في يوم حنتها وكأنه يراها للمرة الاولى، تطل بفستانها الذي يشبه فستان السندريلا، بلونه الفيروزي، الذي يتخلله نقشات تشبه اغصان الشجر الرفيعة باللون الابيض.

ترتدي حجاب بنفس اللون وتضع تاج يشبه تاج الاميرات فوق رأسها مرصع بالكريستال الذي يشع ضوءا، انها حقا تشبه الاميرات، كان آثر ينظر إليها فاتحاً فمه شاردا في طلتها وجمالها، هذه الفتاة التي كان يتنمر على شكلها الكثير لتوسط جمالها وسمار بشرتها، كانت ملكة متوجة في يومها.


يقال أن الله تعالى يضع نورا في وجه العروس يوم زفافها، يراه زوجها دون سواه، ويراها بدرجة جمال لا يراها بها الجميع.

تقدم سهيلة على آثر، تفكر في خاطرها وتقول:
-تلك المرة الاولى التي اراه فيها كزوج لي، يا الهي لا استطيع وصف شعوري كم هو رائع هذا الشعور.

اقتربت منه تضمه إليها وتهمس باذنه:
-مرحبا يا زوجي العزيز، واخيرا لقد اصبحنا زوجين الآن.
ابتسم آثر وضمها برفق خجلا من عمها الذي كان يقف خلفه:
-اجل يا عروسي الجميلة، لكن مهلا يقف عمك خلفي، لو لم يكن هنا لحملتك بين زراعي وضممتك بشدة.

ابتسمت سهيلة وقالت:
-لقد اصبحت ملكي الآن.
اجابها قائلاً وهو ينظر في عيناها بحب مبتسماً:
-لقد اصبحتِ ملكي الآن.

في زفة بسيارة عمها إلى المنزل بعد التقاط الصور، اوقف والدها السيارة أمام المنزل قبل أن تنزل سهيلة وقال لها من خلال النافذة:
-سهيلة قبل أن تدخلي إلى ساحة الحفلة اصعدي إلى غرفة الضيوف للتوقيع على قسيمة الزواج، ينتظرك المأذون الكثير من الوقت.

-حسنا يا ابي.

صعدت سهيلة إلى غرفة الضيوف وجلست للتوقيع على قسيمة الزواج، كانت الهواتف المحمولة تلتقط الصور دون توقف حتى والدها، كان يلتقط لها الصور ايضا لتكون زكرى لديه لاخر يوم لها في منزله.

وبعد قضاء ليلة فرحة يملأها الفرح والرقص والاغاني والزغاريد، تخطت الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل وانتهت الحفلة، دخل الجميع المنزل لترتيب اغراض سهيلة وحقائب ملابسها التي ستأخذها معها.


جلس آثر برفقة عائلته بغرفة الضيوف، دخل والدسهيلة مرحبا بهم، بالرغم من خلافاته مع سهيلة الا أنه كان حزينا لفراقها، ورغم كل ما حدث من آثر كان والدها يقف على خدمة اهله باكمل وجه، في نهاية الامر هم ضيوفه وإكرام الضيف من عادات الكراماء وواجب لا يمكن تركه.

وقف والد سهيلة على طاولة طعام عائلة آثر وخاصة والده الذي كان يناديه بالعم لكبر سنه، اهتم بهم كثيراً واقسم على والد آثر أن يدخل لينام مستريحا في غرفته، بها مكيف ومرتبة ومنظمة على أكمل وجه، لكن والده رفض وتصر على النوم أمام المنزل في حديقة المنزل، كان الهواء الطلق يريح الاعصاب، قام والد سهيلة بوضع سجاد وفراش للنوم على الارض لاجله، بينما دخلت منال وشهد زوجة أكرم للنوم بالداخل في غرفة سهيلة.


طلبت منال من سهيلة جلباب ترتديه للنوم، فقالت سهيلة:
-تعالي الى هنا.

اخذتها إلى الغرفة وقامت بفتح حقيبة ملابسها الجديدة التي لم ترتديها بعد، وقالت والدتها:
-البسي ما شئت يا ابنتي، انت الآن مثل سهيلة، وملابسها لا تكثر عليكِ.

هذا الموقف الشهم الاصيل الذي قامت بفعله سهيلة ووالدتها لمنال، كان من المفترض أن يظل برأسها حتى الممات، كيف عاملتها هذه العائلة في اول مرة تدخل فيها إلى منزلهم، لكن الطبع يغلب التطبع، والاصالة لا تشترى بالمال.

بالرغم من حسن معاملتهم لها الا ان الغيرة والحقد كانت تملأ قلبها من سهيلة وعائلتها.

ارتدت منال عبائة من ملابس سهيلة الجديدة، وقالت لها منال بعد تبديل ملابسها:
-سهيلة، اريد أن أطلب منك طلبا؟
بكل سعادة قالت سهيلة:
-بالطبع يا منال اطلبي ماذا تريدين؟
-لقد اخبرني الطبيب أن اشرب كوبا من الحليب كل ليلة مع الحبوب التي اتناولها كعلاج لتقوية المناعة، رجاءا اريد كوبا من الحليب الدافئ.

تعجبت سهيلة من تلك المقدمة الطويلة التي تبرر فيها رغبتها لتناول كوبا من الحليب، فقالت سهيلة على علمها بأنه لا يوجد حليب في المنزل:
-لم كل هذه المقدمة يا بنيتي، فقط قولي اريد كوبا من الحليب، لكن ليس هناك حليب في المنزل، كم الساعة الآن يا آثر؟

نظر آثر بساعة يده وقال:
-انا الواحدة والنصف صباحاً، لن يكون هناك محالا تجارياً مفتوح الآن، انتظري يا منال حتى الصباح.

قالت منال بغيظ من آثر:
-لا داع لأن يكون هناك محلا مفتوح يا آثر.

ثم اشاحت بنظرها إلى سهيلة وقالت:
-لقد كانت خالتك تجلب حليبا في الصباح عندما اتيت الى هنا.
قالت سهيلة باستغراب:
-حقا؟! لم أكن اعلم؛ لاني لم أكن هنا في الصباح تعلمين كنت في صالون التجميل.
-اجل اجل اعلم ذلك، ستجدينه في الثلاجة، لقد كنت اجلس برفقتهم حينها لذلك اخبرك بما رأيت.

-حسنا يا منال سادخل لارى.

اردفت سهيلة تعطيها ظهرها تتعجب، ثم قال آثر عند خروجها من الغرفة:
-سهيلة، ماذا ستفعلين الآن؟
نظرت إليه مبتسمه، لن افعل شيئاً يا آثر فقط ساذهب لرؤية الحليب لمنال واحضر حقائبي واغراضي للسفر صباحاً.

-حسنا سارتاح هنا قليلاً حتى تنتهين، اريد التحدث معك.
-لا تقلق يا حبيبي لدينا عمرا آخر نقضيه معا ونتبادل الاحاديث، سانتهي من عملي واوقظك.
-حسنا لا تدعيني نائم ايقظيني عندما تنتهين.
-حسنا.

دخلت سهيلة ويتردد في ذهنا حديث منال وتلك التفاصيل التي لاحظتها، تقول في خاطرها:
-لقد علمت اين مكان الحليب ومن جلبه الى هنا ووضعت عينها عليه، ما هؤلاء البشر ياربي، حمدا لله أن آثر ليس مثلهم.

دخلت سهيلة توقظ والدتها وتسألها عن الحليب الذي قالت عنه منال:
-امي؟ امي؟
بصوت نائم ومتعب:
-ماذا يا سهيلة؟
-اعتذر اني ايقظتكِ، اين هو الحليب الذي جلبته خالتي صباحاً، اريد كوبا منه.
-عن اي حليب تتحدثين يا حبيبتي؟
-امشي ركزي معي رجاءا لقد جلبت خالتي حليب في الصباح ووضعته في الثلاجة.

-اه اجل نعم لكنها اخذته معها إلى منزلها، إنه لها، وضعته في الثلاجة عندما اتت لترانا لبعض الوقت، ثم اخذته عندما غادرت معها.

-حسنا امي عودي الى النوم، عمتِ مساءاً.

عادت والدتها إلى النوم، خرجت سهيلة إلى آثر تخبره حتى يخبر منال:
-آثر لم أجد الحليب لقد اخذته خالتي معها عندما غادرت، انها له وليس للمنزل، اخبر منال حتى لا تسيء الفهم.

امسك آثر بيدها وقال:
-دعكِ منها انا سأخبرها.
لاحظت سهيلة اقترابه منها، دفعته بعيدا وهي تبتسم بخجل قائلة:
-لا لا لا الزم حدودك ايها اللئيم، مازال هناك وقت.

رفع يداه على رأسه يتمنى مرور الوقت بسرعة البرق:
-يا لهذا الوقت الذي لا يمر، ليتني امتلك ساعات الدنيا لكنت مررت اليوم بثانية واحدة.

ضحكت سهيلة بخجل وغادرت من أمامه مسرعة إلى غرفتها؛ لتحضير الحقائب برفقة رباب واسيل.

نام الجميع حتى السادسة صباحاً، استيقظت الفتيات جميعا، اخواتها ورباب واسيل والامهات جميعاً، إنه يوم مغادرت سهيلة من منزل والدها إلى حياة مبهمة، لا تعلم عنها شيئاً سوى انها راحله مع حبيبها آثر، أما ما دون ذلك في اعتقادها أن كل شيء يهون برفقته.


قام الفتيات بتحضير الإفطار للجميع، ثم جلس وال آثر وباقي العائلة في غرفة الضيوف، دخلت سهيلة تلقي عليهم السلام وقالت مازحة لوالده:
-صباح الخير يا عمي، اتمنى أنك استمتعت بنومك جيدا برفقة البعوض.
ضحك ثم قال:
-انه ليس ببعوض يا سهيلة بل جاموس.

ضحك الجميع وقالت سهيلة بجدية:
-الم يخبرك ابي أن تنام في غرفته، لم لم تفعل ذلك، لقد كانت الغرفة فارغة، كان يلقيها من أجل راحتك.

وافقها آثر قائلاً:
-اجل بالفعل لقد اخبره والدكِ كثيراً بذلك.

قال والده:
-لا لقد كنت مرتاح، كان الهواء جميل بالخارج اردت النوم فيه، هيا تحضروا للسفر متى ستأتي السيارة؟

قالت سهيلة وهي تهم بالخروج:
-لقد اتصلت بزوج اختي زينب هو يعرف السائق، وسيخبرني بعد قليل، تناولوا الإفطار حتى تأتي السيارة.

اردفت سهيلة تخرج ولحقها آثر يمسك بزراعها قائلا بصوت منخفض:
-سهيلة اخبريني كم سيتقاضي السائق مقابل السفر؟ تعلمين أني من سادفع التكاليف.
قالت باستغراب لسؤاله، طرأ في خاطرها، لم الجميع يتسآئل عن كل شيء وعن التكاليف:

-لا اعلم يا آثر، مهما كان ما سيتقاضاه فهو لن يعاملني كالغرباء.
اصر آثر أن يعلم كم بالتحديد فقال:

-لا اريد ان اعلم كم سيتقاضى تحديداً، اتصلي بزوج اختك واسأليه؟
قامت سهيلة بإخراج الهاتف من جيبها واتصلت بزوج اختها زينب، اجابتها:

-يا هلا بالعروس، كيف الحال؟
-مرحبا بك يا صديقي العزيز، اردت أن اسألك كم سيتقاضى السائق لايصالنا إلى منزل آثر في القاهرة؟
-سيتقاضى الف ومائة جنيه.

قالت لآثر بصوت منخفض وهي تضع يدها على الهاتف تكتم الصوت فقال آثر:
-هذا آخر ما لديه، لا يمكنه انزال المبلغ قليلاً؟
رمقته بنظرات الاستغراب ورفعت الهاتف على اذنها وقالت:
-شكرا لك يا صديقي حسنا ستتحرك بعد ساعة من الآن، اخبره بذلك.
-حسنا يا سهيلة وداعاً.
-وداعاً.

قال آثر بضيق:
-لم لم تخبريه بما قلته لك.
دفعت يده بضيق عندما تألم زراعها وقالت:
-لقد احرجتني بسؤالك امامه، ليس معتاد مني على التحدث بالمال، لقد آلمت زراعي، اترك يدي.

حاول آثر اخفاء ما يقصده بقوله:
-حبيبتي سهيلة ما اوفره من مال سيكون لاجلك انت.
قالت سهيلة بتنهيدة:
-حسنا يا آثر، لا يحتاج محمود زوج زينب إلى حديثي، هو يعلم ما عليه فعله، ساذهب لاحضر نفسي، اخبر عائلتك أن تتحضر بعد الإفطار.

دخلت سهيلة ولملمت اغراضها كالضيف الذي ظل فترة طويلة في مكان ما وحان وقت رحيله منه، قبل الزواج تكون الفتاة لها الحق في كل شيء بمنزل والدها، بل تكون ملكته تأمر وتتأمر كيفما تشاء، اما بعد الزواج تأتي كضيفة غريبة، تقضي بعض الوقت وتأخذ ضيافتها وتغادر.

هذا هو اول شيء غالي يسلبه الزواج من الفتاة، ثم تتوالى الاشياء شيء تلو الآخر حتى تتجرد من كل حقوقها كفتاة، وتبدأ حقوقها كامرأة في مكان آخر، هكذا هي الدنيا وهذه هي سنة الحياة، تسلب منا حقوق؛ ليعوضنا الله بغيرها، نترك منازلنا التي نشئنا فيها لنسكن منازل اخرى لم نسكنها من قبل، تتبدل القابنا من فتاة إلى امرأة متزوجة ثم إلى أمهات.

دخلت رهف إلى الغرفة لترى إن كانت سهيلة تحتاج إلى شيء ما، وجدتها تبحث في جميع أنحاء الغرفة، وقفت وقالت باستغراب:
-سهيلة عن ماذا تبحثين لقد أتت السيارة بالخارج؟
وقفت معتدلة من اسفل سريرها وقالت:
-ابحث عن عبائتي التي كانت ترتديها منال شقيقة آثر، لا اجدها بالغرفة.
-حسنا إذا اسأليها عنها أين وضعتها؟
-لقد سألتها يا رهف وقالت أنها نزعتها وتركتها هنا بالغرفة، حتى عبائتى الاخرى التي كنت ترتديها منذ قليل لا اجدها ايضاً.

وقفت رهف قليلا تفكر لثوان ثم قالت:
-الم تكن رباب تتحدث كعكِ بالامس عليها، كانت تريد اخذها.
-اجل لكني اخبرتها اني لا أملك سواها من هذا النوع، ولن اعطيها لاحد.
جلست رهف على السرير جوارها وقالت:
-ربما اخذتها دون علمك، تعلمين رباب عندما تهوى شيئاً تأخذه وان كان من وراء صاحبه، الم تفرغ حقيبتك من قبل وتأخذها بالرغم من رفضك؟!

فكرت سهيلة قليلاً وقالت أجل ربما لديكِ حق، لكن إن كانت هي الفاعلة لن اتركها لها، ساجلبها رغما عن انفها، يالافعالها المزعجة، اخبريهم اني قادمة.

لقد دقت ساعة الرحيل، الساعة التي لا ترغب بها اي فتاة وفي ذات الوقت ترغب بها بشدة، تلك اللحظة التي تجمع بين النقيضين، بين لقاء وفراق.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي