البارت العاشر

أحياناً تخوننا مشاعر الحب داخلنا وتتمرد علينا، بالرغم من أننا نحن من منحناها قلوبنا لتسكن بها، تكسرنا أحياناً وتجبر كسورنا أحياناً اخرى، تكون سبباً في سعادتنا وتكون النقيض ايضاً وسببا في حزننا؛ ربما لهذا جُعل مسكن الحب هو القلب؛ لتقلبه وعدم استقراره على حال.


انقلبت الدنيا رأسا على عقب بحثاً عن سهيلة، اتصل بها خالها وأخبرته انها مع آثر؛ لأنه لم يرد استقباله في منزله فخرجت لرؤيته في الشارع، وصل الأمر لوالدها وأشعلوا النار بينه وبين سهيلة أكثر مما كانت.

كان والدها دائماً ما يلقي اللوم على والدتها في تربيتها لبناتها، كانت مغلوبة على أمرها تسمع وتصمت وتكتم في قلبها؛ لأجل أولادها، لم يفكر ولو لمرة قط أنه لو كان قريباً من بناته يحتضنهم ويحن عليهم بدلاً من زواجه بأخرى لأجل إنجاب الولد، والتقليل من شأنهم كإناث، عندما تتلقى الإبنة الحب الكافي من والدها والقرب الذي لا يجعلها تحتاج لرجل في حياتها، تنشأ على ثقة بنفسها ومشاعرها ولا تتقبل بسهولة وجود رجل اي كان في حياتها، بل وتكون نفسياً وذاتياً مكتفية بمشاعر الحب والحنان.


شعرت سهيلة بالوحدة وأن الدنيا جميعها تقف ضدها إلا آثر، شعرت بأنه بالفعل مظلوم كما كان دائما يظهر أمامها، لقد وصل لغايته وتيقنت أنه على حق وبدأت تنقلب على عائلتها؛ جراء أفعالهم معها ومع آثر، في حقيقة الأمر من عليه اللوم الوحيد هنا فيما وصلت إليه سهيلة هو عائلتها التي لم تفكر تحتضنها وتتفهم مشاعرها ولو لمرة واحدة، اسلوب التهديد الدائم والعنف الأسري الذي تراه بين والدها ووالدتها، الضغط المتكرر، تحمل المسؤولية قبل أوانها، والأهم من جميع ما سبق نشئتها على أن مشاعر الحب هي خطأ كبير وعيب يكاد أن يصل إلى العار؛ عندما تحب احداهن شخصاً تخفي وتداري وتختبيء خوفا من أن يعلم أحداً بمشاعرها، تشعر بالذنب؛ لأنها في نظر قانونهم المخزي ارتكبت جرماً، لا يعلمون أنه ليس على القلوب سلطان لأحد سوى مالكها، يقلب القلوب كيف يشاء.


قرر آثر أن يعيد سهيلة إليه مرة أخرى عندما لاحظ الضغط عليها من اهلها، فأخبرها أنه سيتركها؛ لأنه سئم معاملة اهلها له ولن يستطيع التحمل اكثر، بالإضافة إلى أنه لم يعد لديه مال ليلبي طلباتها كخطيب لها، حزنت سهيلة كثيرا وبكت بدلاً من الدموع دما، كانت في حالة يرثى لها، بالرغم من ذلك إلا أن عقلها كان مازال يعمل ويفكر وأخبرته بما سيعيده إليها ويكشفه امامها ككتاب مفتوح تقرأ به ماتشاء وكيفما تشاء.


في مكالمة عبر الهاتف:
-اجل يا سهيلة ماذا فعلت مع خالك بالامس، هل أزعجكِ؟
-أجل يا آثر لقد كان الجميع ضدي بالأمس ولديهم الحق في ذلك، انا فتاة في بلد غريب وسافرت بمفردي، أنهم يخافون عليّ يا آثر.


غضب عليها بصوت واضح وضيق يتحدث:
-وهل أنا لم أكن خائفاً عليكِ يا سهيلة؟!
-لم أقل ذلك يا آثر، لكنهم اهلي خوفك عليّ لن يكون كخوفهم، تعلم ذلك.

-اممم أجل بالطبع نعم فهم عائلتك التي تحبك وانا شخص غريب كما يقولون دائماً.

-آثر ليس..

بتر حديثها بانفعال:
-اصمتي، لا تقولي آثر لقد علمت أنهم سيقنعونك بحديثهم، تعلمين كل شيء وترين كم اتحمل لأجلك منهم، وفي نهاية الأمر تصتفين بجانبهم، حسنا إذا لتبقي بجانهم طوال العمر ايتها الأميرة الحسناء، من اليوم أنتِ من طريق وانا من طريق آخر، كل شيء مقدر انها القسمة والنصيب الا نكون معا.


انهارت سهيلة من البكاء وهي تستمع إليه، بقلب منفطر شعرت لبرهة انها ستفقده وتستسلم للأمر حتى ترضي اهلها، من داخلها تعلم أنهم على حق، وصراع آخر يدور داخلها أيضاً وهو عشقها له، والفكرة التي سيطرت على عقلها، من سينظر إليها بعدما يتركها شخص جميل الشكل، فهي ليس بهذا القدر من الجمال الذي يجعل الشباب تتهافت عليها، دائما ما تردد:
-حافظي عليه يا سهيلة، لن ينظر إليكِ أحدا أن تركته يذهب، تحملي قدر ما تستطيعين، سوف يتغير بعد أن نتزوج.



يا الهي يا سهيلة على تلك الحالة التي وصلتِ إليها، من نلوم وعلى من نلقي اللوم، فالجميع مذنبون بما فيهم أنتِ.


وها هي سهيلة تقلب الآية وتلقي هي السحر هذه المرة، السحر الذي سيكشف حقيقته أمامها ويجعلها أيضا تسيطر لبعض الوقت، فمن عاشر القوم تطبع بطبع منهم كل يوم:
-انت تريد تركي يا آثر؟!

بصوت باك وحزين وكلمات متقطعة من شدة البكاء:
-انت تريد تركي وانا افكر بك، افكر كيف اوفر لك بعض المال، لقد ذهبت انا وزوجة خالي لابتاع قرطي الذهبي؛ حتى اعطيك المال وتصرف منه حب تى يتحسن الوضع معك، لم يهمني ماذا سيقول اهلي وكيف ساخبرهم بالأمر، حسنا يا آثر كما تشاء، تريد تركي؟! اتركني إذاً.


تنتظر سهيلة نتيجة السحر الذي القته، وبالفعل نجح الأمر، تقلقل في حديثه وبدأ يهدأ من انفعاله ويلطف الأجواء بكلمات حنونة وصوت هادئ:
-ماذا يا سهيلة؟ لم فعلتِ ذلك؟ ماذا سيفعلون اهلك عند علمهم بالأمر؟ لا لا يا سهيلة لا تفعلي ذلك، انا أخبرتكِ باني ساترككِ من سوء معاملتهم لي.

-وهل انا المذنبة يا آثر، ما ذنبي في ذلك؟ أحاول جاهدة أن اصلح بينكم، لقد تعبت ايضاً.

-حسنا يا حبيبتي اهدأي، لا تبكِ ارجوكِ، تعلمين كم احبك، وإن كنت تركتكِ كنت سأظل احبكِ حتى الممات.

ابتسمت سهيلة ابتسامة ساخرة بجانب ثغرها، بالرغم من أنها كانت تبكي تقول في خاطرها:
-ايها الحقير ستظل تحبني ام انك تحب مالي؟!

بصوت واضح تجعر بحديثها وتقول:
-اعلم يا آثر لكنك كسرتني بحديثك، انا افعل المستحيل حتى نكون معا وانت تفعل ذلك بي.
-لأ تغضبي مني ارجوك، ولكن اخبريني كيف ستبيعين اقراطكِ؟! الن يلاحظ والدك اختفائهم ووالدتكِ؟

-اجل لكني لن ابيع الاثنين، سابيع قطعة واحدة منهم واخبرهم بأنها ضاعت مني أو سقطت في ماء البحر وانا أسبح.

-وهل تعلمين أحد التجار هناك؟ اين ستفعلين ذلك؟ انتظري لدي فكرة ما رأيك في أن تلأتي الى هنا ونذهب معا لشخص اعرفه، سيخدمنا في هذا الأمر.

يا الهي ويا له من تخطيط ماكر وسحر قوي، يحتاج فقط لآلة عازفة تعزف اوتارها على كلماته سمفونية سحر وكذب لا مثيل لها.

علمت سهيلة بحاستها السادسة ما يدور في رأسه، قرأت أفكاره من خلال نبرة صوته وهو يتكلم، فهو يريد أن يحصل على المال في الفور ويضمنه بيده فور بيعها لقطعتها الذهبية التي جلبها لها والدها منذ صغرها.


لو انتظرت سهيلة قليلاً وفكرت في الأمر، لأدركت أنها تعالج الخطأ بخطأ أكبر منه، ليس من حقها أن تبتع شيئاً جلبه لها والدها من أجل رجل لا يعرف معنا للرجولة، ولا يملك منها سوى ذكورته، بالأحرى كان لابد أن يحاول منعها من أن تفعل بحكم رجولته،فهذا تصرف لا يليق برجل ولكن سلاماً على الرجولة في زمن أصبحت فيه المباديء سلعة تباع وتشترى بارخص الاسعار.


لكن خانه الحظ فعندما ذهبوا لبيع فرد قرطها، لم يرد أحد من أصحاب المحلات قبوله سوى بوجود فاتورة تثبت ملكيته ونوعه وأنه حقا قطعة ذهبية، جرحتها نظرات التجار إليهم، شاب وفتاة يريدون بيع فرد قرط من الذهب، هل هما سارقان؟ ام أنهم أتوا بمصيبة يريدون حلها؟! ام ماذا؟

من داخلها حمدت الله سهيلة وعادت إلى منزل خالها، ولم تقبل بروايته مرة أخرى ولا بالسفر إلى القاهرة مرة أخرى، تحججت بأنها مريضة جداً حتى اقترب موعد رجوعها إلى منزلها، تحججت بأنها لم تستطيع المجيء؛ لأنها ستسافر في اى وقت.


انتهت رحلة سهيلة بخسارات بسيطة، فقط عدة كسور وجروح قلبيه، وتغيرت صورتها في نظر الجميع لحديثها عبر الهاتف معه طوال اليوم وانعزالها عن الناس بالرغم من أنها ذهبت لتغيير جوها الحزين.


بعد عودتها دار شجار بينها وبين والدتها على أفعالها، وما قاله لها اخواتها عن أفعال سهيلة هناك، بينما كانت تبدل سهيلة ملابسها دخلت والدتها:
-ما هذا الذي فعلته عند خالك، هل فقدتي عقلك بسبب هذا الحقير؟ لو انه رجل حقا لكان خاف عليكِ ولم يقبل بذهابك إليه، هل هناك انثى تذهب الى الرجل ام أن الرجل من يذهب إليها؟

سمعت سهيلة حديثها بصمت وبرود ثم قالت بهدوء:
-ماذا تريدين يا أمي؟
انفعلت والدتها وقالت:
-الم تفكري في والدك، لقد اتصل به خالك وأخبره بما فعلته، حتى عمك أخبره انك لم تذهبي إليه، واجهي إذا نتيجة أفعالك.

وضعت سهيلة ملابسها في خزانتها وقالت وهي ترتدي ملابسها:
-ليس الأمر كما تعتقدين يا أمي، كل ما اخبروك به خلاني ليس ما حدث بالفعل، انهم يبالغون حتى يلقوا اللوم علي وعليكِ كالعادة، دائما ما يقولون بنات عبلة بنات عبلة.

جلست والدتها على سريرها وقالت:
-وماذا حدث إذا، ساخبر والدك بكل ذلك ومنكِ إليه.

انفعلت سهيلة وصرخت في وجه والدتها بغضب قائلة:
-لقد سئمت افعالكم لقد سئمت الأمر وتعبت مما تفعلونه معي، ماذا تريدون مني، جوال حياتي أضحي بما اريد لأجل راحتك ولأجلكم جميعاً، لم أجبروا أحدا من اخواتي على شيء، لقد كنتِ بجانبهم جميعاً في اختياراتهم لمن يحبوا، اما انا فليس لدي الحق لاحب او اختار، فقط تريدين بقائي جانبك لخدمتك وخدمتهم، يكفي الى هنا سأذهب بعيدا واترك لكم المنزل.


سمع والدها صوت شجارهما وحديث سهيلة ولم يعيرها انتباه، سمعوا اخواتها شجارهم وقاموا مسرعين إلى غرفة سهيلة، فوجدوا والدتها تمسك بها من شهرها وتضربها ضربا مبرحا، تصرخ سهيلة باعلى صوتها، تحاول شقيقتها الكبرى التخليص بينهم وشقيقتها الأصغر منها أيضاً، حتى ارتمت سهيلة على الأرض تصرخ بهستيرية، انهارت والدتها من البكاء على تلك الحالة التي وصلت إليها ابنتها، وعلاقتهم التي اصبح بينها سورا لا تعلم أين نهايته.


فجأة صدم الجميع مما رآه، لقد تغير صوت سهيلة إلى صوت خشن و متعجرف، يشبه صوت الرجل، غليظ ومخيف به بحيح، مرتفع للغاية ومزعج، لم يستطيع تحمل قباحته احد، صارت تضم قدميها إليها ويتطور جسدها حتى انطوت حول نفسها ككرة ودخلت اسفل سريرها في ركن، ومازالت تصرخ بصوت غليظ.


علمت إحدى اخواتها التي تصغرها سنا وهي"امل"، متزوجة وتحمل ببطنها طفلتها الأولى أن سهيلة ليست طبيعية، لقد تزوج ثلاثة بنات من اخواتها الكبرى واثنتان اصغر منها سنا امل و زينب، كانت سهيلة الوحيدة في البنات التي يسمح سنهن للزواج التى لم تتزوج بعد، كان هذا الأمر يوثر عليها كثيراً، دائما ما كانت حاجتها الاولى انها مازالت تكمل دراستها.

لقد لبست سهيلة بجان من حزنها وحالتها النفسية وصراخها المتواصل لفترة من الزمن، وقفت شقيقتها امل أمام السرير الذي توجد أسفله وبدأت تقرأ القرآن بصوت مرتفع وهي صامدة، تمسك بها والدتها حتى أبعدها خوفا عليها وعلى حملها من أن تصاب بأذى، دفعت يد والدتها وقالت بخوف وقلق:
-لأ تقلقي يا امي، لكن لا يمكنني تركها سيأخذها اسفل الأرض ونخسرها إلى الأبد، قومي بالاتصال بزوجي "وائل" واعطني إياه على الفور.

تبكي والدتها وهي تمسك الهاتف تتصل به، بينما تقف زينب وشقيقتها الكبرى رهف على باب الغرفة خائفين، واخواتها بنتين اخرتين صغار السن وولدان أصغر منهما، خائفين خارج الغرفة.


أعطت والدتها الهاتف لها وتحدثت امل بقلق وتوتر:
-وائل انها انا أمل.

لاحظ وائل نبرة صوتها القلق:
-ماذا هناك يا أمل؟ هل انتِ بخير؟!

-اجل يا وائل لكنها سهيلة ليست بخير، اعتقد انها لبست، من فضلك اذهب الى الشيخ "سعيد" واجلبه الى هنا على الفور.
-حسنا حسنا سآتي وداعاً.

بالفعل بعد لحظات قدم وائل ومعه الشيخ سعيد، اخرجوا سهيلة من اسفل سريرها، وبدأ يقرأ عليها القرآن واضعاً يده على رأسها، أرسلت سهيلة إليه رسالات بعد بعد عودتها إلى وعيها دون حديث، وتلقى رسائلها عبر عقله.


حالة غريبة وعجيبة شخص يتحدث دون صوت ولا كلام، ويسمعه الآخر دون أن يتحدث، قالت سهيلة وهو يضع يده على رأسها:
-اخبرهم أن يتركوني بحالي، انا بخير ولست مصابة بشيء فقط تعبت، أخبرهم أن يدعوني احل الأمر بطريقتي، اعلم أن الأمر خطأ.

سمع رسالتها وقال الشيخ بعدما انتهى من قراءة القرآن عليها:
-ما اسمكِ؟
-اسمعي سهيلة.
-قول حمدا لله يا سهيلة، واشهدي أن لا إله إلا الله وان سيدنا محمداً رسول الله.
-الحمد لله رب العالمين، اشهد ان لا اله الا الله وان سيدنا محمداً رسول الله.

وقف الشيخ سعيد يستعد للذهاب وقال:
-الحمد لله انها بخير، دعوها فقط تحل الأمر بمعرفتها، هي تعلم ماذا ستفعل، اتركوها وشأنها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي