البارت السادس

حزن ومعاناة.

عندما يتخطى الطمع أقصى درجاته، ولا نلقي بالا لمشاعر الأشخاص، تتملكنا رغبة الحصول على ما نريد، لا يهم كيف ولا متى ولا النتائج المترتبة على ذلك، فقط نفكر فيما نريده، نصبح بلا قلب بلا ضمير بلا مشاعر.

لا نفكر أن هناك شيء يسمى الغيب والمجهول لا نعلمهما، لا نعرف ماذا يخبئ لنا القدر، تلك الثقة المفرطة التي نحصل عليها من سيطرتنا على شخص ما، ربما تنقلب علينا الى اقصى درجات الضد، فتصبح كالشجرة التي ظلت تنمو بثقة في ارضها لسنوات، وجاء احدهم إقناعها من جذورها؛ لانها لا تناسب مكانه.

عندما خطط آثر الكثير من الخطط الشيطانية؛ للحصول على سهيلة، لم يفكر قط في ماذا لو لم تجدي تلك الخطط نفعا؟ وماذا لو لم احصل على ما اريد؟ ما بال مشاعر تلك الإنسانة التي وثقت بي وسلمتني روحها ومشاعرها وجعلتني في مكانة لا تقارن فيها بأحد؟ ربما يستيقظ ضميره بشيء ما ولكن متى يا ترى؟ ربما ينجيه القدر أو يخسف به الأرض بفعلته.


كانت تقفز الفرحة في قلب سهيلة كالاطفال في ليلة عيد، بالرغم مما فعله معها ومعاملته السيئة لها إلا أن عشقها له كان يجعلها تتغاضى عن أخطائه عند سماع بعض من الكلمات المحلاة بالعسل، يجبر بها خاطرها المنكسر، هو صياد ماهر علم نقاط ضعف فريسته ونصب لها شباكه بمهارة قصوى، حتى جعلها تذهب إلى فخه بقدميها دون تردد ولا خوف.

اشتد مرض عم سهيلة كثيرا وأصبح في فراش الموت، قدم والد آثر بعد قبول آثر بشروطه وتحمل تكاليف سفره وإخوته، في يوم التاسع عشر من شهر يوليو عام ألفين وخمسة عشر ميلاديا، كانت خطبة سهيلة على آثر في منزل والدها، بلا حفل خطوبة وبلا زغاريد وبلا فستان، فقط اقتصرت فرحتها على وضع دبلة الخطبة في إصبعها، والتي كانت الطوق الذي سجنت في طوال حياتها.


حاولت رباب أن تفرح قلب صديقتها سهيلة بزغاريد، وعندما فعلت وضعت والدتها يدها على فمها وكانت صوتها؛ خوفاً من ملامة الناس لها، فابن عمها وشقيق زوجها في فراش الموت، وهي تحتفل بخطبة ابنتها، حالة غريبة ليس لها وصف.

اقبلت عليها والدتها تضمها إليها بشدة تهنئها بخطبتها قائلة بحزن وقلة حيلة:
-لقد حصلتي على آثر يا سهيلة الآن؟

ضمتها سهيلة إليها باكية دون كلمة واحدة.

بعد مرور حوالي ساعتين من تناول الغداء غادر آثر وعائلته، في نفس اليوم تلقى والدها مكالمة واردة من أخيه الأصغر يخبره فيها بوفاة أخيه الأكبر، كانت صدمة بالنسبة إليه، وفي اليوم التالي أتوا بجثمان عمها إلى منزل العائلة والذي كان يقطن به جدها وزوجته واعمامها من زوجته وزوجاتهم.


حزنت سهيلة كثيراً لوفاة عمها، زمها الجميع بعد معرفة خبر خطبتها وخاصة الاقارب، قالوا إن وجه خطيبها شؤم على العائلة وبقدومه إليها ذهبت روح عمها، لامها الكثير على طريقة خطبتها دون علم أحد وفي فترة مرض عمها، حتى ظن البعض أن هناك امر خاطئ حدث ولا يعلم به احد.


رن هاتف سهيلة بمكالمة واردة من آثر، اجابت بحزن وصوت مبحوح:
-مرحبا آثر.
تعجب لصوتها الحزين في اول يوم لهما بعد الخطبة التي طال انتظارهم لها:
-ما الامر ما به صوتك يا سهيلة؟
بصوت باك وحزين:
-لقد توفي عمي يا آثر، لقد رحل الى الابد.

صدم آثر من الخبر واخذت منه شقيقته الكبرى "منال"الهاتف، تحدثت إلى سهيلة بأسى:
-سهيلة البقاء لله يا عزيزتي، تحلي بالصبر.
-شكرا لك يا منال ونعم بالله.
-سياتي اليك آثر لحضور العزاء، سيرحل الآن.
-لا، لا تجعليه يأتي، لم يرتاح بعد من تعب السفر، لقد كان هنا الامس يا منال، لا عليكِ.
-ماذا تقولين يا سهيلة إنه واجب لا يمكن تركه، صدقيني لو لم تكن امي مريضة لكنت اتيت معه ايضاً.
-لاعليكِ يا منال اوصلي سلامي إليها.

-انها جانبي وتريد التحدث اليك خذيها.


اخذت والدة آثر الهاتف وتحدثت إلى سهيلة:
-البقاء لله يا عزيزتي سهيلة.
-شكرا لكِ يا امي ونعم بالله.
-لا تحزني يا عزيزتي، إنه كأس سيتزوقه الجميع.
-الحمد لله على كل حال، اخبريني كيف هي صحتك الآن؟

-الحمد لله انا بخير، كنت اود القدوم إليكِ لكن اقسم لك يا ابنتي اني لا استطيع، اشتد عليّ مرض السكر.
-شفاكِ الله وعافاكِ يا امي، اعتني بنفسك فقط.
-حسنا خذي آثر يريد مكالمتك.
-حسنا وداعاً.

اخذ آثر الهاتف وخرج من غرفة والدته وشقيقته، والدته السيدة "هالة" تعيش مع ابنائها الخمسة وابنة وحيدة هي منال، انفصلت عن زوجها والد آثر منذ سنوات؛ لقسوته على ابنائه وعدم اعطائهم ما يكفيهم من المال، بل وجعلهم كالخدم لديه كل منهم يعمل بأجره، لم يستمع إليها ولم يبني لهم منزلا بل العكس، ابتاع ما كان يمتلكه؛ حتى لا يترك لهم شيئاً ورائه.


اما منال فهي الابنة المدللة لأبيها والتي تشبهه كثيرا في طباعها، انفصلت عن زوجها وهي حامل منه في شهرها الأول، لم تتحمل معاملته السيئة لها وبخله عليها وهذا ما كانت تشكي به إلى الجميع، وربما في حقيقة الأمر تكون خباثتها وطباعتها السيئة هي السبب في طلاقها.


لم تكن سهيلة تعلم كل هذا عن عائلته، علمت الكثير عنها بعد خطبتها، تحدث إليها آثر واخبرها انه قادم إليها، وبالفعل اتى آثر، وعندما دخل إلى المنزل خرجت إليه سهيلة بجلباب جديد اخضر اللون مطرز بالورود الزهرية والبيضاء، نظر إليها آثر ولم يلق بالا لذلك فسألها بضيق:
-أين هو والدك يا سهيلة، ألم يعلم بقدومي؟ ألم تخبريه اني اتيت؟

تعجبت سهيلة من طريقة حديثه، هو لم يسالها حتى عن حالها، ولم يلاحظ مافعلته لاجله، لقد ارتدت ثوب ملون بالرغم من انه من المفترض أن ترتدي زيا اسود اللون حزنا على عمها، اعتقدت وطرأ في خاطرها انها المرة الاولى التي يراها فيها آثر بعد خطبتهم، وسيكون فال سيء إن دخلت عليه باللون الاسود.


فكرت سهيلة به ومشاعره رغم حزنها الذي لايوصف، وهو يفكر في ان يصنع لنفسه مكانة وقيمة بين عائلتها، واعتقد أنه بخطبتها قد امتلك الكون واصبح له ما لا يحاسبه عليه احد.


خرجت سهيلة تنادي والدها وعندما رآها بتلك الملابس، نظر إليها من اسفل الى اعلى ولكن لم يتحدث؛ لانه به من الهم والحزن ما يجعله لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم.
دخل والدها غرفة الاستقبال ورحب به وخرج على الفور.


بعدما خرج والدها أمسك آثر سهيلة من زراعتها بقوة وقال بصوت منخفض بغضب وضيق:
-ما به والدك، لم يعاملني بهذه الطريقة؟ لقد جئت لاجله من آخر الدنيا، وهو لا يقدر ذلك، لقد اخطأت في مجيئي الى هنا انا ذاهب.

دفعها وهم للخروج، امسكت به بخوف وتوتر وقالت:
-آثر والدي لم يفعل شيئا إنه فقط حزين من اجل عمي، انت ترى ذلك لكني اعرف والدي جيداً، هو لم يقصد ما تقوله.

دفعها بعيدا عنه وقال بتهكم:
-عائلة رخيصة، ماذا فعلت بنفسي، دعيني اذهب.


خرج آثر وذهب إلى إحدى المقاهي في البلدة وجلس عليها، حاولت الاتصال به مرارا وتكرارا؛ حتى لا يلاحظ والدها غيابه من العزاء الذي قدم لأجله.


حزنت سهيلة كثيراً لكنها رأت أن ما فعله آثر تصرف لا يليق بالطرف الذي هم فيه، وقررت أن تبدل ملابسها وأن لا تعره إهتمام، فقط قامت بالاتصال به لمرة اخرى وعندما اجابها تحدثت إليه بضيق قائلة:
-ما هذا الذي تفعله، من المفترض أنك تكون بجانبي في هذا الظرف القاسي، لكنك تفضل خلق المشاكل بدلا من ذلك، ماذا اقول لابي إن سألني اين هو آثر؟ من المفترض أن تكون هناك بين عائلتي تأخذ العزاء معهم؛ لانك اصبحت فردا من العائلة، لكن لسنا نحن العائلة الرخيصة بل افعالك، إن لم تأتي الآن ساخبر والدي بما حدث ولا تأتي مرة اخرى.

شعر آثر بالإهانة لحديثها، تعجب من جرأتها لمحادثته بهذه الطريقة وهذه النبرة، يا لها من جرأة مفاجأة، لقد اغلقت الخط في وجهه، قام آثر منفعلا وذهب إلى منزلها، وجدها تستعد هي واخواتها بالزي الاسود للخروج، والذهاب إلى منزل جدهم لرؤية عمهم للمرة الاخيرة قبل مغادرته إلى مرقده الاخير.


بعد دخوله إلى المنزل تسائل اخواتها اين كان فقالت بعد أن سمعت صوت ندائه:
-ربنا كان في منزل جدي ليحضر العزاء، سأرى ماذا يريد، دخلت الغرفة وعندما نظر إليها وهي تعقد يداها واقفة أمامه بضيق وقال وهو يخرج سيجاره ويشعلها:
-هل انا افعالي رخيصة يا سهيلة؟

تزفر بضيق وتتغاضى عن سؤاله وتقول بحزن وهي تشير إليه باصبعها:
-لقد توفي عمي اليوم ولست في حالة مزاجية لما تفعله الآن، بدلا من أن تختلق الخلافات بيننا في هذا الظرف، هون عليّ ولو قليل، انا ذاهبه إلى منزل جدي؛ لارى عمي قبل رحيله، إن كنت تريد الذهاب معي فاستعد وإن لا فافعل ما تشاء.


همت سهيلة بالذهاب وخرج خلفها، امسك بزراعها قبل أن تخرج من باب الغرفة مسرعاً، بدأ يبدل طريقته القاسية وافعاله، رق قلبه قليلاً عندما رأى دموعها تتساقط حزنا كقطرات المطر، جزبها إليه بقوة حتى ارتطمت بصدره، تبادلت عيناهما النظرات، للمرة الاولى التي يرى فيها آثر اعينها عن قرب، بالرغم من أنها بنية اللون والتي يطلق عليها اعين عادية، إلا انها لها جازبية خاصة، تخطف الأنظار والعقول والقلوب ببرائتها وسحرها.

خجلت سهيلة من هذا الوضع وطأطأت رأسها خجلاً، حاولت إبعاده وهي تمسك يديه وتسقطها من على خصرها، تفاجأت بانه لا يستجيب لها، حاولت ثانية ولا يستجيب ايضا، في كل مرة تحاول إبعاده بقوة اكثر من التي قبلها، تزداد قبضته عليها قوة اكثر، حتى تعنف عليها يحاول التقرب منها وهي تحاول ابعاده، بصوت منخفض يقول لها:
-أخواتك بالخارج لا تدري صوتا والا سيقولون ماذا يحدث، ستضعي نفسك في مأزق كبير وانا معك.

-ابتعد عني يا آثر ماذا تفعل، هذا ليس مزاح.

ابتسم بجانب فمه يسخر منها وقال:
-من قال إني امزح يا سهيلة، لما انت غاضبة مني الى هذا الحد، انا آثر حبيبك، لن اتركك حتى تتصالحين معي وتبتسمي لي.

نظرت إليه بتعجب وغضب وقالت بتأفف:
-ماذا تفعل؟! يا إلهي ها انا اضحك الآن، دعني وشأني.

دفعته بشدة حتى ابعدته عنها واسقطته على الاريكة، نظر إليها ضاحكا وقال:
-يا الهي كم أنت قوية، لم أكن اعلم أنك لديك تلك القوة بالطبع انتِ فتاة قوية.


قام إليها مسرعاً وقبض عليها مرة اخرى وقيد يداها من خلف ظهرها بيديه، لم تستطيع الحراك ودفعها بقوة حتى تسقطها على الاريكة واااا.

سمعت سهيلة صوت اختها الكبرى تنادي:
-سهيلة هيا بنا لقد تأخرنا.

تدفعه سهيلة من جانبها وتقوم باعين حمراء من شدة البكاء، وخرجت من الغرفة، هو يبتسم تلك الابتسامة الشيطانية التي تعني الإنتصار، وكأنه حصل على كنز من كنوز الدنيا.


وصلت صرخات واصوات حزن، بكاء ونواح وشارع ملئ باللون الاسود واصوات البكاء وصرخات الالم تملأ المكان، ودعت سهيلة وجميع العائلة نعش عمها، والله وحده يعلم ماذا ودعت سهيلة ايضا مع عمها في هذا اليوم.

انتهى العزاء وسكت الجميع، اصبحت الاجواء هادئة، الحزن داخل القلوب يعلمه الله، والوجوه شاحبة وبحالة يرثى لها، اصبع انواع الفراق أن تفقد شخصاً روحا وحيدا معا الى الابد، وبالرغم من ذلك فهو اريح انواع الفراق، على قدر قسوته والمه يكون القلب مطمئناً لمعرفة نهاية علاقته.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي