البارت التاسع

مواقف


إلى متى سيتمادى الشخص باخطائه، والى متى سيظل يعالج الخطأ بخطأ آخر؟!

أتعجب من تلك الأشخاص التي لا تدرك اخطائها إلا بعد فوات الأوان، ليس هناك شيئاً سيعوض خسارتهم، ولا شيئاً سيضمد جراحهم، لن تُجبر كسورهم بسهولة، لن يعود شيئاً منكسر كما كان قبل الانكسار.



أقنعت سهيلة آثر بقدومها إلى القاهرة؛ لرؤيته، هل حقاً بدأ يستيقظ الرجل بداخله؟! غارت الرجولة على نفسها واستيقظت من رقودها! ليس هناك شيئاً مستحيلاً على الله، إنه يهدي من يشاء.


في يوم ما في الصباح الباكر استيقظت اسيل ومنة وايقظوا سهيلة للاستعداد للخروج، لكن خاب ظنها في انهم سيجعلوها تذهب إليه إلى القاهرة، كانت منة تعتقد أنه سيأتي إليها إلى الإسماعيلية واسيل كذلك، سهيلة كانت تعتقد أنهم سيساعدونها في الذهاب إلى القاهرة ويقومون بالتغطية عليها حتى تعود.

بعد خروجهن واستقلالهن سيارة اجرة،اثناء ذهابهم في طريق موقف السيارات قالت منة:
-سهيلة أين سينتظركِ آثر؟ انا واسيل سنذهب إلى مدرستي لإكمال بعض الاوراق الخاصة بالامتحان خاصتي، ومن ثم سنأتي إليكِ لاخذك للعودة إلى المنزل بعد الإنتهاء، سيكون هناك متسعاً من الوقت تقضينه مع آثر.


قالت سهيلة باستغراب تضم حاجبيها:
-من الذي سيأتي؟! آثر لن يأتي الى هنا بل انا من سأذهب إليه، وسآتي قبل عودتكن إلى المنزل، وإن تأخرت اخبريهم في المنزل أنني ذهبت مع بنات خالي "شاكر"لقضاء اليوم برفقتهم، لن يشك أحدا في ذلك.


بانفعال وتعجب من طريقة تفكيرها تتحدث منة:
-تلك الفتاة التي كانت يمدح بعقلها الجميع ورزانتها، ماذا حدث لها؟
-بالطبع لا لن اترككِ تذهبين إن كان يريد رؤيتك فلياتِ إلى هنا، لن اترككِ حتى اسلمه إياكِ في يده، ماذا إن اكتشف أحدا الأمر وكشفت كذبتنا؟! ستكون كارثة كبرى وليست أنتِ فقط من ستتحمل العواقب.


امسكت سهيلة بكتفيها وقالت برجاء:
-منة رجاءا لن يتأذى أحدا اعدكِ بذلك، قفوا جانبي يا فتيات رجاءا، تعلمون اني لم أراه منذ وفاة عمي، ولم يجعلوني أذهب في عزاء والدته، صدقوني لن اتأخر، رجاءا انها المرة الأولى والأخيرة أعدكم بذلك.


بالرغم من رجاء سهيلة وتحايلها عليهن إلا أن منة واسيل أصروا بشدة الا تذهب وتتصل به؛ ليأتي إليها.

بالفعل اتصلت سهيلة بآثر وأخبرته بوجهة نظر الفتيات، هي أيضا ترى أنهن على حق، لكن صاح بها آثر عبر الهاتف غاضباً وقال:
-ماذا تقولين، لقد أخبرت الجميع بقدومك، حتى ابي ينتظر مجيئك، حتى أنه أخبر منال بأن تحضر طعاماً لأجلك، لقد أخبرتك سابقا بألا تأتي من البداية وانتِ من اصر على ذلك، اتركي هولاء الحمقى واصعدي إلى السيارة الآن، سآتي لاخذك من موقف السيارات.


حاولت سهيلة أن تتحدث إليه بهدوء وتحاول إقناعه حتى أنها أخبرته أنها ستتحمل تكلفة مواصلاته لكنه صاح بها بشدة واجبرها بتهديداته أن تنفز طلبه وتترك الفتيات.

ظلت في حيرة من أمرها بين هذا وذاك، لكن كالعادة كان هو المنتصر وكلامه قيد التنفيذ على الفور، صارت مشادة بين اسيل ومنة وبين سهيلة، تركتهم وذهب إلى السيارة المتجهه إلى القاهرة وذهبت إلى آثر، حاولوا أن يغطوا عليها ونجح الأمر وصار ما اتفقنا عليه معهن.




وصلت سهيلة إلى موقف القاهرة ومنه إلى المترو برفقة آثر حتى وصلت إلى المنزل، دخلت للتعرف على شقيقته منال، فهي تراها للمرة الأولى وجها لوجه، رحبت بها وكان آثر سعيدا بقدومها، جلست سهيلة على كرسي ودخل آثر إلى المطبخ بعدما أشارت إليه منال.


سمعت سهيلة صوتهم مرتفع قليلاً وكأن آثر يلزمها على شيء ما وغضب منه، خرج إلى سهيلة وعلى وجهه علامات الإنفعال، والغضب، تتسائل سهيلة بعدما جلس جوارها:
-ماذا هناك؟! هل هناك خطب ما يزعجك؟

حاول اخفاء الأمر مبتسماً:
-لا لا شيء فقط كنت اتحدث إليها بشيء ما.
-حسنا.

تجولت نظرات سهيلة في أرجاء المنزل قليلاً، حيطان مكسرة، ومهدمة من أسفل، تملأها الشقوق والأتربة، اثاث متهالك وفراش مرقه يغطي الأرض، طرأ في خاطرها أن هذا هو منزل رجل مليونير؟! كما يقول عن والده، ما هذه الحالة التي يعيشون بها؟! لمّ لم يخبرني آثر بهذا؟!
قال آثر عندما لاحظ شرودها ونظراتها التي تتجول بين حوائط المنزل باستغراب، حاول جزب انتظارها وتركيزها إليه بدلا من التدقيق في المنزل:

-معذرة يا سهيلة المنزل في حالة استعداد للتجديد؛ لذلك تريّ حالته على هذا الوضع، لقد قرر ابي أن يقوم بتجديد المنزل وترميمه بالكامل بعد وفاة امي، كل ما ترينه الآن ليس ما نعيش به عادة.


اقتربت منه سهيلة قليلاً تهمس إليه بصوت منخفض:
-حقا يا آثر لقد استغربت كثيرا من حالة المنزل هل هذا المنزل الذي تعيش به؟! لكن من الجيد انك اخبرتني، اين هي غرفتك إذا أريد رؤيتها؟

وقفت سهيلة لتدخل إلى المطبخ، تجر منال حتى تريها الغرفة التي يرقد بها آثر، حاول منعها بحجة أن الغرفة ليست مرتبة لكنها لم تستمع إليه، ودخلت إلى المطبخ، عند اقترابها منه سمعت بضع كلمات بين منال وفاطمة وعلمت ان الحديث عليها، حيث كانوا يتنمرون عليها وعلى شكلها الخارجي، "فاطمة" هي ابنة خالة منال كانت تقيم معها لبعض الوقت بعد وفاة والدتها؛ لمساعدتها في اعمال المنزل وتسليتها لبعض الوقت؛ حتى تعتاد على غياب والدتها.


قالت منال يتهكم:
-أرأيتِ شكلها؟ لا اعلم كيف يراها؟!

اجابتها فاطمة باستغراب وسخرية:
-اجل رأيت، ما هذا؟ انها تشبه الغراب.


دخلت سهيلة وقالت بكل رقي ولطف، حتى بعدما تيقنت من حديثهم انه عنها:
-على هناك شيئاً تودين مساعدتي به؟

ابتسمت منال وقالت:
-شكرا لك يا حبيبتي لقد انتهيت، اعذريني لانني لم استطيع الطبخ لاجلك، لقد مرضت عيناي بالامس وذهبت للطبيب فمنعني من التعرض للادخنة والحرارة؛ لذلك فاطمة هنا انها تعينني وتساعدني على اعمال المنزل.


ابتسمت سهيلة بلطف، بكل رقي وزوق تحدثت، تنظر إلى آثر باستغراب تزكرت على اصواتهم وجمعت في زاكرتها بعض الكلمات وقامت بربطها بما قالته منال:
-الهذا كنت غاضبا يا آثر؟

عاودت النظر إلى منال وقالت:
-عزيزتي منال انا لا اهتم بهذه التفاصيل البسيطة، لا اهتم بامر الطعام مطلقاً او الشراب، يكفيني رؤيتكم بخير، لقد كنت او الاطمئنان عليكِ وعلى آثر وها انا ذا فعلت، آخر ما يعنيني هو المأكل والمشرب يكفي حسن استقبالكم لي وترحيبكم.


تبادلت عينا فاطمة ومنال النظرات الخجلة، فقد احرجتنم بذوقها وادبها، ليس دائما من يملك جمال الشكل يملك جمال الروح والطباع، فهناك من يدعون بالملوك لجمالهم، ولا تسوى طباعهم.


فرح آثر بحديثها، لبرهة شعر أنه ربما كان قاسيا عليها بتعامله، وأنها لا تستحق تلك المعاملة السيئة، قالت سهيلة وهي تشد منال من زراعتها:
-هيا تعالي واريني غرفة آثر.

حاول آثر منعها وقال:
-لا لا مرة اخرى، الغرفة ليست مرتبة يا سهيلة وليست منظمة.

فقالت فاطمة وهي تقف خلف آثر بتلقائية:
-هذه هي الغرفة التي امامك.

اردف ينظر إليها بضيق وقام باكملها في كتفها وقال:
-لم اخبرتها ايتها الغبية، الا ترين كيف هو حال الغرفة؟

سمعت سهيلة صوت اللكمة ونظرت خلفها فرأت الموقف، شعرت بالغيرة والضيق معا، كيف له أن يمزح مع ابنة خالته بيده، ويلمس جسدها وان كان مزاح، فهو لم يقبل بمزاحي مع احد حتى بالكلام، علمت سهيلة في هذه اللحظة أن هناك الكثير يخفى عنها لبعدها عنه، وأن يفعل ما لا يقول ويقول ما لا يفعله، رمقته بتلك النظرات الغاضبة بعض الشيء، لاحظ تغير ملامحها ثم قالت:
-ما هذا الذي فعلته؟ كيف لك أن تمد يدك عليها بهذه الطريقة؟! لا تفعل ذلك مرة اخرى.

ابتسم آثر باحراج وخجل وقال:
-لم اقصد كنت امزح معها، هي معتادة على مزاجي هذا.

قالت سهيلة بضيق وثقة:
-ليس بعد الآن.

دخلت الى الغرفة ونظرت إلى فراشه المتقطع، الذي تخرج من مراتبه قطع القطن الممزقه، تذكرت ما قاله بخصوص تجديد المنزل، قالت في خاطرها ربما، ترمي بنظرها إلى الجانب الآخر من الغرفة فتجد جهاز عروسة كأنه جديد، مغطى بالاكياس البلاستيكية والقماش، تسائلت لمن هذا فاخبرتها منال انها جهازها، لقد انفصلت عن زوجها بعد شهر من زواجها.


تناولت سهيلة الغداء البسيط برفقة منال وآثر وفاطمة، همت بالذهاب بعد حديث دار بينها وبين منال وآثر عن والدتها ويوم وفاتها وكيف اتصلت عن زوجها، وبعض الحواديت التي لا يصدقها عاقل، وانما يسمعها من أذن ويخرجها من الأخرى حتى لا يحرج من أمامه.


كانت سهيلة فتاة زكية للغاية ولديها حاسة سادسة وهي قراءة وهي قراءة ملامح الوجوه، ومعرفة إن كان الشخص صادق ام كذاب بحدثها، وايضا كانت لديها حدث قوي حيث كانت تشعر بالاشياء قبل حدوثها، ربما هذا من صدق نواياها وحسنها يكن الله جانبها دائما لقربها منه.

احيانا كانت تعلم بكذباتهم وعدم صدق مشاعرهم تجاهها، الا انها كانت تمرر ذلك بإرادتها، غادرت سهيلة منزل آثر، ودفعت جميع المصاريف في الخارج إلى أن عادت إلى المنزل، كان ذلك في وقت متأخر من الليل تخطت الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل، ولسوء حظها رأت خالها يجلس أمام منزله مع أحد أصدقائه، لم تكن تعلم كيف ستدخل إلى المنزل في وجوده، لكنها دخلت على اعتقاد منها بأنه سيكون منشغلا مع صديقه في الحديث، عندما وضعت قدمها امام المنزل وظهرها اليه، نادى بصوت ارتجف له قلبها:
-يا فتاة؟

أدارت ظهرها إليه مبتسمة بقلق وقالت:
-اجل يا خالي هذه انا سهيلة.
-أين كنتِ إلى هذا الوقت؟!
-كنت في بيت عمي، قد توصلني ابن عمي الى هنا وغادر.

-اممممم حسنا، اصعدي يا عزيزتي.

بعد ان غادر صديقه تحرى عن الأمر من زوجته، أخبروه الفتيات انها كانت بالفعل هناك.

بعدما دخلت وبدلت ملابسها حاولت التحدث إلى الفتيات ومصالحتهم، لكنهم كانوا منزعجين منها لتصرفها السيء، كررت الأمر عدة مرات وخرجت لرؤية آثر، حتى انتهى بها الأمر في إحدى المرات بالتخلي عنها من منة واسيل، لقد قامو بتحذيرها عدة مرات من أنه ربما ينكشف أمرها ويلاحظ الجميع غيابها، لكن سحر آثر كان أقوى من ذلك بكثير.

في إحدى المرات التي خرجت فيها واخبرت اسيل في الصباح الباكر انها ذاهبة لرؤية آثر، لكن أنكرت اسيل الأمر وقالت إنها لم تعلم اين ذهبت ولم تخبرهم بخروجها.


احيانا يتخلى عنا الاصدقاء ربما لصالحنا وربما حقدا علينا، لكن المواقف الصعبة تبين لنا من هم الاصدقاء الحق، ومن هم اصدقاء المصلحة؛ لذلك دائما ما يقال اختر الصديق قبل الطريق، لكن في حقيقة الأمر إن صلح الصديق سلك الطريق.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي