الفصل الرابع

بوابة النجوم

كدت أجلس في مكاني لأرى أين أنا وأبحث خلف صوت أمي.
أين أنا؟  وكيف جئت إلى هنا؟ وأمي؟!
يا أمي، يا أمي.
كررتها مرارًا وأنا أدور حول نفسي لكن من دون فائدة.
أسمعها تناديني من بعيد، عيني لا تراها قلبي يتلهف لرؤياتها،  كاثرين يا ترى ماذا فعلتِ بها أيتها المخادعة الأشرة؟
صرخت بإسمها  حتى كادت تنقطع أحبالي، هنا دوى بالمكان صوت لضحكة ماكرة.
إنها كاثرين تلك المخادعة التي لم تألفها أمي قط، وها نحن ما فيه سبب عنادي وانصياعي خلفها.

-تريد أمك أليس كذلك يا صغيري؟

ركلت ما أمامي من خشاش الأرض ثائرًا وأنا أضرب على صدري:
- ولا أريد سواها.
ـ إذا عليك تنفيذ ما آمرك به بأدب وأعلى مراتب حسن خلقك، لتنعم أمك بالراحة معنا.
شعرت الريبة عليها تحديدًا بعد آخر ما تفوهت فسألتها والخشية تكسوا نبرتي:
- أسمعها تناديني، هي بخير أليس كذلك؟
زرف الدمع عقبها لتردف الأخرى بقسوة:
ـ لا، لا، بطلي الصغير، البكاء فال شؤم على ما نحن دالفين إليه، هدأ من روعك، كل هذا سيزول عن قريبًا
، بعد مغادرتك عالمنا هذا والعودة بأبيك والكنز معًا.

مسحت دموعى محاولة ترتيب أنفاسي:
- أطمئن على أمي أولا، لن أبرح حتى أراها سالمة.
ـ هههه، كنت أود مجاراتك في الحديث لكن لا وقت لذلك،  دعك من أمك الآن ونظف عقلك لتعي ما أنت قادم عليه.
شرط المرور من البوابة هو أن يكون العابر من نفس سلالة جاكسون ودمه، ولا أحد غيرك في هذا العالم يصح له العبور.
هذه هي حاجتي بك لا أكثر، أما عن أمك فلا حاجة لي بها لذا أرسلتها للمنزل لا تقلق، ركز معي الآن ولا تجدال، هذا ليس لن يفيدك، بالأخير لا خيار لك غيره.

ـ لكن أمي أ.....
صاحت غاضبة:
- نفد صبري عليك، هو أيضًا والدك، عودته من مصلحة الجميع، انظر حولك أنت معي على هذه جزيرة الظلام يا غبي، لا مجال للعودة أو التخير، أنت معي هنا للتنفيذ فحسب، هيا خلفي.

ذهبت عني مقدار خمس أقدام ومازلت أقف أمامي، لتمد يدها وهي في مكانها بطول المسافة جالبةً إياي من رقبتي.
_ لا وقت أمامنا لنضيعه هيا.

تحدثت وأنا أسعل أثر قبضتها متسع الأعين كيف فعلت هذا، هي ساحرة!؟ أم لديها قوى خارقة؟!.
ـ مصدوم أليس كذلك؟!
انتظر هناك ما هو أعظم.
ضمت نفسها محتضنة جسدها لتخرج جناحين من ظهرها كـ طير العنقاء، محلقة في السماء تدور حول هذا الشيء المغطى بعيدًا.
تدور وترنم بكلمات لا أفقهها، أظنها تعويذة لحدث مفجع، بعدما بدأ قرع طبول يدق بجُل الغابة حولي، وصدى ما تقول يتردد خلفها بقوة راهبة.
حديثها يذداد سرعة والأصوات ترتفع خلفها وتعقبها بقوة عارمة حتى انزاح ذاك الوشاح الأسود أرضًا من على الشيء الذي كنت أعجز عن تفسيره.
عجلة دوارة يحيط حوافها نيران مشتعلة، ذات ثلاث مقابض دوارة تشبه تارة السفينة، هناك بعض الرومز المفحورة في جوانبها الأربع، هي نفسها التي رأيتها أسفل بيتنا بغرفة القبو.
هنا فهمت عندما حدثتها في ذلك الليلة فور خروجي من القبو لأقص لها ما رأيت لماذا طلبت مني وصف الرموز بالتفصيل، تبًا لغبائي فأنا من قدمت لها روحي وروح أمي سُدى.
هبطت للأسفل وهي تلهث بشدة مشيرة إليَّ التقدم نحوها، فترجلت في خطوتي لتجذبني رافعة إياي على ظهرها وتصعد للأعلى ثانية وهي تحدثني:
- ترى منتصف العجلة هذه هو من ستقط عليه بالمفتاح.
أنا على ظهرها أرتعد خوفًا، فأنا أخشى المرتفعات، تحدثني لكني لا أعي ما تقول، فقت عليها تنهرني:
- أحدثك يا الأصم ، تجاهل خوفك الأن وانتبه، لا مجال للخطأ، حان وقت التنفيذ لا مجال للتراجع.
ألقيت بخوفي حدفه متذكرًا أبي وأمي، عليَّ التمثل بالقوة لأجلهما لمرة واحدة على الأقل.

علقت على رقبتي القلادة التي يتوسطها المفتاح، وسحب نفسها من تحتي لأرى نفسي معلق في الهواء وحدي وهي تناظرني جانبًا.
لا أعرف كيف فعلت هذا، لكني فعلا كنت أطير بجناحيها وهي بالأسفل تأمل نزولي.
أجفلت لبرهة، من ثم شعرت بقوى داخلية أنستي ما حولي.
صببت تركيزي فقط على بؤرة المنتصف، بيدي المفتاح وجهه العمودي متجه وسط العلجة، مُهمًا بالسقوط.
توسط المفتاح فعلًا قلب العجلة لتدور حول نفسها، أنا بالوسط أدور معها معلق به بجسد متطاير من عليها، فقط يداي المعلقة بالمفتاح وهي تدور وجسدي يتأرجح كالورقة.
كنت أسمع صراخ كاثرين وهي تحثني على الثبات مردفةً:
اصمد ولا تفرط بجسدك، هن فقط إحداى عشر لفة تبقى سبعة، ستة لأجل أمك، سبعة لأجل أبيك، خمسة حتى تعود وتنعم برفقتهما سوايا العمر محققًا أحلامك، أربعة إياك وأن تقع ستصبح اسطورة العبور فهذا هو العبور الأعظم، ثلاثة وستنتهي، اثنان تمسك لأجل الكنز، واحد هو نفسك وحياتك احمها قبل أي شيء، السلامة دربك يا نيل.

انفتحت البوابة وسقطت داخلها، سبع سموات مررت بها وأنا أرى نفسي بين السحب أطيح.
صرعت عيناي لما هو قادم بعدها، أنه بحر لا حدود له! تبا!  انه الموت يقترب حتمًا.
سأموت من الخوف لا محال، أظنها كانت تعويذة خاطئة من تلك الساحرة.
اعاا، اقتربت منه، اقترب، حسنًا هو الموت...
انفتحت البوابة وسقطت داخلها، سبع سموات مررت بها وأنا أرى نفسي بين السحب أطيح.
صرعت عيناي لما هو قادم بعدها، أنه بحر لا حدود له! تبا!  انه الموت يقترب حتمًا.
سأموت من الخوف لا محال، أظنها كانت تعويذة خاطئة من تلك الساحرة.
اعاا، اقتربت منه، اقترب، حسنًا هو الموت.

أجفلت عيناي بشدة وأنا أصرخ باسم أبي، لا أعلم من أين خطر على عقلي لأنادي باسمه، شعرت أنني في عالمه حينها، ليبتلع البحر جسدي الصغير بداخله.
المياة قارصة البرود، أفاقتني من صدمه أنني أتنفس تحت الماء! كيف هذا؟!
كلما تعمق جسدي السقوط انخفضت درجة الحرارة أكثر فأكثر، المياة شديدة الكدرة لا أرى أي شيء حولي، لكني أتنفس وأرى دون أي عائق.
هنا توقف عقلي تزامنًا مع أطرافي التي لم أعد أشعر بهما جزئيًا.
كان علي التفكير وإدارك أن هذا برد هذا البحر سيزهق بروحي، عليَّ التحامل بجسدي للأعلى لأخرج من هنا.
بدأت أثني وأفرد جسدي رافعًا إياه للأعلى، فأنا أجهل بأمر السباحة ولم تأتِ فرصة واحدة لتعلمها أو الدفع من أجل أي مهارة لأجلي.
ظللت أكرر ما أفعل ونشوة الفرح يغمرني أننا أرتفع لأعلى حقًا، إذًا فعملي جيد، كما بدأت حرارة أطرافي بالإرتفاع كلما صعدت أكثر.
استغرق أمر الصعود أضعاف وقت الهبوط مؤكدًا، فكان أمر وصولي للأعلى أشبه بالمعجزة، لكنه أخيرًا ما حدث.
وبالعكس تمامًا عن ما رأيت وأنا أقع، الشاطىء على مقربة جيدة مني، هذا ما بث الفرح في قلبي ودبت الحياة فيه من جديد.
فأنا الأن غايتي القصوى أن أخرج سالمًا من الماء، هربًا من إدراك الموت لوجودي.
خرجت من البحر بملابس مثقلة من المياة، توقعت الإختلاف لما أنا كنت فيه في جل الأحوال وبالطبع أولها هو الفصل، نحن هناك بمنتصف موسم الشتاء على العكس هنا، الشمس فوق رأسي قرص ملتهب ينير المكان ويحيطه بدفئ مهدأ.
قدماي تسري بين الجبال، نعم جبال غير مستوية وحدي في هذا المكان الخالِ، أسمع فقط صوت أنفاسي وصوت الغربان تتريس الأشجار من حولي.
هناك صخور خضراء قاتمة اللون تعرقل السير، لكن ما عليَّ الأن هو السير مستدلاً بعقلي ونصرة القدر.
وقعت عيناي على المرمى البعيد جسرًا بين جبلين عاليين، الجسر مصنوع من الخشب المتفرق، بين الواحدة والأخرى قدم ونصف تقريبًا.
لا، لا يمكنني العبور من عليه، لا أظن أنني سأفعل.
لكن ما خشيته في بداية الأمر صادف خاتمته، انتهى سيري لطريق مسدود ولا خيار أمامي سوى العبور دون النظر للأسفل.
كانت أصعب وأشق في البداية، فبدايات العشق وحدها هي الممتعة، لكن ختام الوصول كان تزامنًا مع سماعي لصوت ما يأتي من خلف الصخور أعلى الجبل.
هممت الصعود بخطوات حانية وإذا بحديث غنج يخترق مسامعي:

- لا، كف عن هذا المزاح يا صغيري، لا يمكنك فعل هذا بي هنا، طيلة الوقت وأنا أجري خلفك.
صوت ما يشبه أمي قليلًا، لا أعلم إن كان يشبهها أم حديثها مع ولدها الذي يقارب الخمس أعوام يختبأ منها خلف أحد الصخور وهي تغمي عينيها بتلك العصبة الصغيرة، لعبتي أنا وأمي المعتادة بيننا.
زرفت دمعة اشتياق ووحشة مدموجة بالقلق عليها، لكن سرعان ما تبدل للفجع فور ما رأيت.

الطفل يجري من أمه بظهره وهي معصوبة العينين لا ترى، وإذا بالطفل تتزحزح قدماه ليسقط.
اقتربت سريعًا محل سقوط الصبي وأنا أصرخ في تلك التي مازالت تدور حول نفسها، لأراه عالقًا في جزع شجرة يناجي بصمت، قدماه الصغيرتين تضرب الهواء ويداه تمسك إحداها غصن الشجرة والأخرى تشير نحو شيء ما في الفراغ.
صراخ الأم بدأ يدوي وأنا بالأعلى أبحث بعيناي عن غصن يحملني لأقف عليه وأنقذ حياته.
بالفعل حدث ودليت بقدماي لأقف على الشجرة ممسكًا بيدي غصنها الأعلى والأخرى مددتها للطفل حتى يتشبث بها قبل أن يقع طرحية الموت، لكن ما أثارني هو نظراته المعلقة على ذلك الشيء الأبيض بالأسفل، ددقت النظر لأجدها قطة، اظنها أليفته.
هنا فهمت لما يأبى أن يصعد، لكن لا وقت لذلك بدأت أسمع أنين الغصن ينكسر تحت قدماي تزامنًا مع صرخات أمه وعويلها، تركت ما أنا عالق به وملت بجسدي نحوه حاملًا إياه رغمًا عنه.
مالت الأم بجزعها ملتقطةً إياه داخل أحضانها بقوة متمتمة بهستيرية:
- حبيبي، أنت بخير، ماتت جاكسي، لا تحزن سأبحث لك عن أخرى وستكون لك رفيقة أفضل.
طالعها بمقلتين دامعتين، قص فيهما الكثير دون أن يتحدث.
عن أي عوض أو استبدال تتحدثين يا خالة، في هذه الحياة من أحبونا بصدق يرحلون بروحين الأولى لهم والأخرى لنا، نعيش عاقبة الدمار خلف رحيلهم، لا تشفى أنفسنا إلا بتواجدهم، كما تثقين في استحالة عودتهم، عليك بالسماح لعلقك أن يصدق فكرة عدم عودتنا كما كنا، فالمكسور لا يجبره سوى الروح التي يألفها.

"سينكسر الجزع هيا" هذا ما أردفته جعلتني أنتفض لحالي، متعلقا بيدها لأصعد أعلى الجبل ثانية بسلام.

جلست جوارها اتطلع ملابسها القديمة، من هيئتها أنها سيدة متوسطة الحال، لكن نوع ملابسها لا يروق لي لسيدة في هذا العصر.
كدت أجزم أن ما أخشاه حقيقيًا، تبادلت نظراتنا في الصمت، هي أيضًا تطالعني من رأسي حتى أسفل قدماي بندهاش جلي:

- أنت غريب عن هنا أليس كذلك؟
ـ نعم، من بلاد مصر.
رفرفت أهدابها مشيرة برأسها للأعلى:

- أين تقع مصر هذه، لم أسمع عنها البتة، كيف جئت إلى هنا؟

تشنجت أفكاري لا أعلم ما أخبرها علي التفكير بسرعة للرد عليها حتى لا تشك بأمري وأيضًا أحدثها بشيء منطقي:
- لا أخفي عليك سيدتي، أنا هنا تائه، جئت للرحلة اكتشاف مع معلمي لتمتع بمناظر هذه الغابة الخلابة، لكن تبًا لقدماي، هي من حملتني لأتي إلى هنا وأضيع الطريق.
ـ كيف ضيعت الطريق؟، وأصدقاءك معلميك لم ينتبهوا لفقدانك ويبحثوا عنك.

استادرت بظهرها لا تصدق حديثي:

- جود صنيعك مع ولدي سيجعلني أتركك تعود من حيث أتيت في سلام، قل لقبيلتك التي أرسلتك لن نبرح أراضي" ألفا "، مهما أرسلت من خونة للإقاع بيننا لن تنجح في هذا، فتحن يد واحدة رغم قلتنا التي ترهب قلوبهم.

صرخت لإيقافها قابضًا على يدها بعيون راجية لتنصت إليَّ:
ـ أنا هنا غريب أقسم لكِ، لكن لا علاقة لي بأي قبيلة، جئت هنا عبر بوابة زمنية للبحث عن أبي،" ألبير جاكسون".
صمتت
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي