الحادي عشر

بوابة النجوم "صدمة اللقاء".
عدت إلى القرية أجر قدماي، هلك جسدي من السير، الطريق بين بحر الظلمات والقرية شاق وليس هين طوله، طيلة الطريق وأنا أفكر بحديث أمي، تلك التي عودتها كعودة الروح لقلبي من جديد، بالرغم من أنني لم أراها أو لمست وجودها، لكنه غير بي الكثير، أيقنت أنني لم أكن وحدي وتلك الهالة التي كانت تحميني هي أمي.
حديثها يتردد في أذناي، أنا أستطيع أن أفعلها، سأخوض المعركة متنحيًا عن مخاوفي وهواجسي، لكن هناك شيء واحد عليَّ فعله في بادئ الأمر.

لم يعذبني الأمر كثيرًا في الوصول إلى بيت ستيفاني،  فجل القرية تعرف منزله، طرقت الباب مرتين وإذا به يقف بهامته الطويلة وشعره الحريري الذهبي يتناثر على جبهته العريضة بحرية، عاري الصدر مفتولة عضلاته.
بإمكانك أن ترى وصفي فيه مبالغ، لكن دوافع إعجابي به هي المتحدثة، معجب بهيئته وبنيته القوية، شخصيته الأقوى، أريد أن أكون مثله يومًا ما، عن جفا معاملته لي فقد فهمت سببه، هو غيرته لتقربي من إسرى حبيبته، اسنادًا لذلك قررت استغلال الوضع لمساعدتي.
ـ ستظل هائمًا في وجهي كثيرًا، ماذا تريد من بكرة الصباح؟
تنحيته قليلاً بيد ترتعد من الخوف يجلوه برود مصطنع:
- منزلك جميل، لكنه يريد بعض الترتيب، ربما يد أنثوية أدهى بذلك.
ـ  وما شأنك أنت؟! من طلب رأيك فيه؟!
ـ ارخِ حبل غضبك قليلاً أنا هنا  لمساعدتك.

التفت يضحك مستهزاءً:
- أنت!  تساعدني!  أنا؟ والله إنها لعجيبة في هذا الزمن،  لا مراء لك الآن، أرني عرض أكتافك وأخرج من هنا.
جلست بثبات مزيف على أحد الكراسي الذي شككت أنه إن غضب أكثر سيكسره على رأسي، فجلوسي عليه بعض من الأمان حتى يبحث عن ما هو أهون:
- استمع إليَّ ولن تندم، أنت تريد إسرى وقلبها أليس كذلك، سأساعدك في هذا الأمر، لكن عليك عليك مساعدتي أيضًا.
اقترب مني قابضًا كلتا كفيه بقوة، بملامح يشوبها غضب عاصف:
- انظر إلي يا فتى مجهول المصدر أنت، أمقت ما لدي هو الإستغلال والمساومة، وأنت هنا بنصف بيتي فعلت كلاهما، الشيء الوحيد الذي سيرحمك من الموت تحت يدي هو جدي كوش، اخرج من هنا وإلا لن تجد قدميك لتخرج عليها.
كان الثبات أمام هذا الوحش الثائر كالحرب، لكن عليَّ التمسك للنهاية على وتيرة الهدوء واللامبالاة غير عابئ لحديثه:
- تقصد أن احترامك للجد كوش فقط هو من سيمنعك من أزيتي، وليس حبك لإسرى وغضبها عليك إذا حدث لي مكروه.
ـ اعااا، لا، أنا خاطئ، لا أحد في العالم يمكنه منعي من قتلك الآن.
لم يأنِ أن أدرك ما تفوه لأجد نفسي معلق بين الأرض وسقف منزله من ملابسي على قرنين غزال مدببين في الحائط.
ـ في هذا المكان ستيصلب جسدك، عملي طيلة اليوم هو ضربك في ذهابي وإيابي، سآخذك تسلية الايام حتى تموت.
ـ ماذا؟ لست بهذا القسوة مؤكدًا، أنت فارسي وقدوتي، لا يمكنك أن تكون ظالمًا جائرًا هكذا.
ـ بالطبع نعم، فأنا عاتي أيضًا إن لزم الأمر  للتعامل مع أمثالك، هيا أخبرني ماذا كنت تقول قبل قليل؟!
ـ حسنًا، أنزلني رأفة منك وسنتحدث رجل لرجل.
ـ بالله تضحكني، من أنت لتقارن نفسك بي؟ بالله عليك انظر لنفسك ولمكانك الأن قبل أن تتحدث.
ـ حسنًا، أنت تأبي مساعدتي في جعل إسرى تسامحك على فعلتك هذا خيارك، وأنت أفقه بحالك مني، أما عن موتي فأنا سألت أهل القرية أجمع عن منزلك، حتى تستطيع إسرى الوصول إليَّ في أسرع وقت دون عناء.
ـ أشم رائحة تهديد عاقبتها ندمك يا مجهول المصدر أنت.
ـ ليست كما تظن، أنا حقًا أريدك أن تعلمني ركوب الخيل والرماية، أريد أن أصبح مثلك تماما.

دلفت إسرى راكلة الباب بقدمها صارخة:
- تريد أن تصبح مثله، في جحوده وقسوته؟
من فم واحد خرج أسمها مني أنا وستيفاني بصدمة من رؤيتها، ما قولته لـ ستيفاني كان مزاح لا أكثر، لا أعلم من أين عثرت عليَّ.
صرخت ثانية فور إدراكها أنني معلق على الحائط من تلابيب ملابسي، ركضت إليَّ تحاول مساعدتي، فنحها ستيفاني وساعدني النزول.
لتهب بوجهه كنيران مشتعلة:
- من أين لك بذلك القلب عقيم المشاعر والحس، ماذا فعل معك لتفعل به هذا أخبرني؟
انت...
ـ كفاكِ، كفاكِ صراخ وسب كلما رأيتني، كفاكِ لوم عتاب على ما حدث، لم يكن لي شأن فيه أخبرتك مرارًا، "البدر" لم يختفي بسببي، أنا لا أعلم عنه أي شيء منذ أخر لقاء جمعنا سويّا.
انتفض جسد إسرى فور ما أردف ستيفاني، تبادلت نظراتها بيني وبينه مشتته تجهل الرد على حديثه، لأتخذني من يدي خارجة بي من المنزل.
من هو البدر وما علاقة هذا الرجل بخلافهم، أمر جديد جاء ليتمم تيه عقلي أكثر.
ـ من هذا الرجل المدعوا بـ البدر يا إسرى؟
ظلت تجرني من يدي خلفها دون أن تتفوه بكلمة واحدة.
كررت سؤالي ثانية والشك يداهم عقلي بقوة، لكنها مازالت على نفس وتيرتها الصامتة تمشي وتجرني من يدي خلفها فقط، شعرت حينيها أنها تريد إبعادي عن ستيفاني وما كان سيقوله وحسب، رأيت الخوف في عينها حينما لفظ ستيفاني اسم هذا الرجل، أجهل السبب حقًا لحالتها تلك، لكن ما كانت سوى تأكيد أن الأمر يتعلق بي أو بما أعجزه عن قوله " يتعلق بأبي"
هنا قولتها واضحة:
- الرجل الذي يتحدث عنه ستيفاني هو أبي؟
التفتت إليَّ سريعًا:
- من أين لك بهذا الهراء؟ هذا خلاف قديم بيننا لا علاقة لك به ولا ولوالدك.
ـ آمل منكِ أن تصارحيني بالحقيقة، لا تسيئي ظني وتخسفي بثقتي فيكِ أرضًا أستحلفك، أعلم أن الرابط بيننا هو الانسانية لا أكثر لكنني أشعر معكِ بالكثير من أن أتيت إلى هنا، أصبحتِ تعني لي إلى أبعد ما تتخيلين، أنا هنا منذ أيام معدودة، مر فيهم أحداث قد تمر على شخص خلال سنوات، الشيء الوحيد الذي يطمأن قلبي هو وجودك جانبي، وأمان رفقتك، لطفًا منكِ على ذلك أخيك الأصغر، صارحيني ودليني على الطريق.
تركت يدي وهي تطالعني والدمع يملأ مقلتيها، اقتربت مني تمد يدها تزيل عبراتي بحنو بالغ، هنا لم أجد نفسي سوى بين أحضانها جثة.
ضربة أصابت رأسي من حيث لا أدري، أخر ما سمعته هو صوت صراخها بإسمي مرة واحدة ومن ثم انقطع.
ها أنا الأن في مكان لا أعرفه كـ بقية الأماكن في هذه القرية، غرفة مظلمة كاحلة بصيص بسيط من النور مقدار عقلة اصبع لا غيره بالمكان، ألم شديد أثر تلك الضربة يدوي برأسي، وقفت أتحسس الجدران صارخًا مستنجدًا، لكن لا أحد يرد عليَّ سوى صدى صوتي فحسب.
الظلام مخيف جدًا، كدت أختنق، نوبة هلعي أصبحت على المشارف، فأنا كما ذكرت سابقًا أخشى المرتفعات والأماكن الضيقة ومؤكدًا الظلام.
بدأت نبضاتي في التشتت، وضعت يدي على قلبي لا أعلم إذا كانت تسرع أم تبطأ، فرعشة يدي فشلت في إدلالي.
بدأت أصرخ مستنجدًا برفيقة قلبي وحانيتي أمي، أمي، كررت اسمها لعدد لا حصر له، أخبرتني أنها لن تتركني، ها أنا وحدي وسط جل مخاوفي وهي ليست معي.
بدأ الهواء ينقص بجسدي تدريجيًا حتى وقعت على الأرض مرة أخرى.
مر الكثير وأنا أطالع سقف الغرفة بصمت، مسطح على الأرض بجسد مصلب أثر النوبة، ظننتها النهاية وأنني سأغادر الحياة، ماصدمني هو أن الحياة هي الوحيدة التي مازالت تتمسك بي.

صرير باب عتيق يفتح، خيال بنية طويلة رسمت على الحائط المقابل، قرع أقدام ثابتة الخطى تقترب مني، واحدة تلو الأخرى، جاهدت التعرف على ذلك الوجة لكن الظلام كان قوي، حتى بصيص الضوء اختفى، أظن أن الليل قد حل.
اقترب الرجل أكثر فأكثر مشعلًا تلك الزجاجة المعلقة على الحائط منيرًا الغرفة، أو السجن كما اتضح.
انتفضت واقفًا، دبت الروح في جسدي من جديد بعدما كنت مناجيًا الموت، اتسعت عيناي متفحصًا وجهه بدقة مردفًا:
- أبي..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي