الفصل السادس

وها وقت التنفيذ، كلبوني ذاك القساة وألقو بي في تلك البحيرة بكامل عزمهم.
لكن ما حدث جعل الرؤس تشيب والنبضات تتوقف...

الجميع يصتفون حول البحيرة في انتظار تغير لونها بدمي بعدما بنهشني الوحش، مرت دقيقة فقط وخرجت لهم من فمه مبصوقًا على الأرض، ألقيت بثقتهم كوني خائن خلف ظهورهم.

ربت على كتفي العجوز كوش مردفًا:
- هذه طقوس يا ولدي، ليست بقسوة منا.
ـ ماذا كان سيحدث لو ابتلعني الوحش.
ـ لا شيء، كنت ستسد حاجة جوعه، منذ خمسة عشر يومًا لم يأكل قط، آخر خائن دلف إلى هنا كان هزيلًا.

ـ أراك تمزح يا شيخي
ـ نعم لما لا يمزح يا سيد نيل.
التفت خلفي تجاه مصدر الصوت وإذا بتلك المخادعة الجميلة إسرىٰ هي من تتحدث.
شعرت بالراحة فور رؤيتها لكن سرعان ما تبدلت لغضب مشحون بالخذلان من تصرفها.
وجهت حديثي للشيخ متجاهلًا إياها:

ـ أحتاج أن أنظف نفسي من هذه الملابس الملطخة بلعاب الوحش فضلًا، فمعدتي تؤلمني من بشاعة المنظر.

ـ اصطحبيه يا إسرى للحمام، وعقب انتهائه تكونين أعدتي له الطعام لنتحدث سويًا.
ـ حسنًا يا جدي سأفعل، هيا أيها الصغير الغاضب.
ـ لا علاقة لكِ بي يا إسرى، ما أحتاجه سيعاونني فيه جدي.
ـ ها، أصبح جدك الآن، إذا لا تريد مساعدتي؟!
ـ لا.
ـ حسنًا، اذهب أمامي وإلا ألقيت بك في البحيرة مجددًا، وهنا سيأكلك الوحش حتمًا، فرصة النجاة لديه واحدة.
ـ كم أنت مستفزه.
ـ كم أنت صغير العقل أرعن.
فاض صبر الشيخ صارخًا:
- كفاكما أنتما الإثنين، إسرى هناك فارق عمر أكثر يقارب ضعف عمره، لما هذا العناد الطفولي.
ـ لا تعاتبها يا شيخي استبدلت عقلها بقطعة بطاطا.
ـ نيل، إلزم أدبك معها، هي في مقام أختك الكبرى.
ـ ألا ترى ما يفعل؟؟
ـ لا أريد رؤيتكما هيا.

بعد انتهائي من الإغتسال وتبديل ملابسي، خرجت من الحمام على رائحة طعام شهية، تشبه رائحة طعام أمي.
تلك العبرة الخائنة التي تحتل مقلتاي فور ذكري لاسمها أجاهد التحكم فيها عنوة عن نفسي، لكن سرعان ما تخونني وتسقط.
التفت إسرى فور شعرت بوجودي خلفها ويدها الطعام:
- هيا يا صغيري أعدت لك طعامًا لن تذق في حلاوتة طيلة حياتك، نيل! أتبكي؟!
ماذا حدث؟ مازلت غاضبًا مني؟ أنا حقًا أعتذر، لكن لو شرحت لك كامل الوضع لن تذق عيناك النوم من الخوف، ثم أنني أثق أنك لست بخائن، وأعلم أنك ستنجو من الإختبار، وما ذلك أعتذر منك على ما بدر مني.
ـ أفتقد أمي، أشعر بريبة حيال أمرها، تركتها مع أسوأ إمرأة في العالم، آخر مرة رأيتها كانت في حالة يرثى لها،كانت تتألم وبشدة، قلبي يعتصر من الألم فور تذكري لها وهي مكلبة في الشجرة، كانت تنخر جلدها وهي تكتم آلامها ببسمة حتى لا تزعجني.

اقتربت مني باكية هي الأخرى، تربت على كتفي بحنو:
- ستكون بخير لا تقلق بشأنها.
ـ وهي تحت براثين تلك المرأة؟
محال يا إسرى، أنتِ لا تعر فينها، لا تعرفين مدى خداعها وشرها.
ـ كاثرين قوتها بوجودك.
قالت بها هامسة، حين عاودت السؤال ثانية:
- ماذا قولتِ؟! من أين تعرفينها؟.

ـ منك، من أين لي بمعرفتها يا نيل، نحن بعالم وهي بآخر.
ـ لكني لم أخبركِ عن إسمها.
ـ ها، كيف ذلك، أخبرتني أمس ونحن بالطريق إلى القرية ألا تذكر؟؟
ـ ممكن، أو حتما ما تقولين، انت بعالم وهي بآخر.
ـ بالضبط هكذا، هيا تناول طعامك الأن لنجلس سويا ونرى كيف سيدلنا هذا الكتاب على مكان والدك.
..
كانت جلسة طويلة بيني وبين إسرى والشيخ كوش، مررنا بين صفحات الكتاب كاملة لنعثر على اي دالة، أو خيط بداية الطريق، لكن لم نجد.
الكتاب بالغة الهيروغليفية، نفهم ما يحويه، حتى الإشارات المفهومة مكتوب تحتها بنفس اللغة.
خيم اليأس أمالي، وأصابني تيه العالم أجمع، ما أمر هزم جل فرائسي وأنا في بداية الطريق.
حاولت إسرى والشيخ مواساتي وبث الامل داخلي من جديد بأنهم سيبحثون على كتاب مترجم لهذه اللغة، لكن عليهم الذهاب إلى قرية كوارتس، فالمتحف القديم يقبع هناك.

لم أشعر بالطمئنينة لحديثهم البتة، كأن أمر الذهاب إلى هناك من المستحيلات.
تركتهم يتحدثون وهممت بالخروج من البيت مستنشقًا بعض الهواء النقي، وأنا افكر في كيفية الذهاب لهذه القرية، كما فهمت من إسرى أنهم على عداوة بغضاء معهم بسبب اختلافهم على الحكم، أحيانًا ما كانت تقوم الحروب بينهم، وما هدأ الوضع بينهم هي تلك المعاهدة بألا يدلف أحدًا منهم لقرية الآخر ولا يتعدى الحدود المعترف بها بينهم.

اقتربت الشمس على المغيب وأنا مازلت على جلستي وهم بالداخل يتشاورون بالأمر، قاطعت ذلك النقاش عقيم الحلول متمتمًا:
- أنا سأذهب بنفسي للقرية وأبحث عن الكتاب المترجم.
صمت خيم المجلس بعدما أردفت للتو، ناظرين لي بصدمة عارمة، لأكرر حديثي ثانية:
- نعم أنا من سيذهب لهذه القرية و...
قاطع حديثي دلوف أحد الحراث يلهث، النجدة يا شيخي، أحد شباب قريتنا تشاجر مع شاب من قرية كوارتس ودارت بينهم.

كيف ومتى حدث هذا؟ سيل من الأسئلة انهمر على الحارث وهم يهرولون دأب بعضهم للخارج.
وإذا بشاب يدعي "ستيفاني " يجلس برواق وهدوء والقرية حوله ترتعد خوفًا من الغارة القادمة إليهم، على عكس ذلك الفتى الذي يتوسطهم وضحكة النصر تزين محياه على ما فعل بمستشار زعيم قرية كوارتس.
هذا الرجل بعصرنا فارس لا يهاب إنسًا ولا جان، عملاق البنية، حاد الملامح، واثق الخطوة، متزن الحديث، فطن المنطق.
كانت هذه معالم شخصيته المستواحاة من هيبته وحديثه عما فعل.
كان الجميع يسمع عتاب الشيخ له وأنه فتح أبواب لا يملكون سدادها في هذه الوقت بهذا العدد من الناس ووسائل الدفاع، لكن ستيغاني كان يهدأ من روعه بقليل من الكلمات وأنهم لن يقدوا على الهجوم ما دام الخطأ بوادرة كانت من خلال عميلهم.

فاض بالشيخ كوش هو يقنعه أنهم خونة، لا عهد ولا مبدأ لهم، وهو مازال على قناعته وثقته بأنهم لن يخال لهم إعلان حربهم في هذه الوقت.

لم يأن لأهل القرية الإطمئنان لحديثه إلا وصدح بوق الإنذار في القرية معلنًا عن بداية الخرب واقتراب الخطر.

هرولة أهل القرية حولى وأنا ثابت في مكاني مصنم الأوصال لا أقدر على الحركة من هول ما أرى.
لم أكن أتوقع قط من هذا الشعب مسالم العشرة أن يكونوا بتلك القوة، قواذف اللهب، قنابل بالونية، قنابل خرسانية وأخرى حارقة يدوية، خرجت من تحت حوزتهم، لا حصر ولا عدد للسيوف والرماح التي تتريس عواتقهم.
سحبتني إسرى من يدي للداخل ووضعت على كتفي السيف وبجيبي قنبلة يدوية صغيرة مردفة:
- إن شعرت باقتراب الخطر منك احمي روحك يا نيل، لا تجازف بها لأجلنا، هناك أمك هي خير لك وأبقى.
حركت رأسي للأعلى والأسفل مؤيدًا ما قالته دون جدال أو نقاش.
تركتني وتجهزت هي الأخرى وجل نساء القرية يختبأون خلف أسوار أسطح البيوت، يحمون ظهور رجالهم.
الجميع حولي يهرول من هنا وهناك بشجاعة لم أتوقعها البتة منهم، قرع أقدام خيول جيش كوارتس تتسابق مع هرولة أقدامهم ليدلفوا للقرية بشعلتهم وبدأت المعركة بينهم.
كنت على داخل البيت أرتعد خوفًا، أشم رائحة الموت تقترب، صراخ الرجال وحماسهم، غيرتهم على أرضهم واثبات ملكيتهم، كانوا يقاتلون بكل ما لديهم من عزم وقوة.
جلعني أبصق على نفسي خجلًا، وجودي بينهم والموت معهم أشرف لدي من دس نفسي بين أزقة جدران الغرفة هكذا، لم يأن لي أن أوصف حالي بالنسوة؛ فحتى النساء على ظهور بيوتهم يدافعون عنها.
أخيرًا ولم يطل كثيرًا وكنت خارجًا بينهم، لا أعلم كيفية استخدام ما بحوزتي، لكن أنا الأن وسط المعركة وما عليَّ هو القتال.

وقف أحد المهاجمين أمامي رافعًا سيفه بوجهي، كان فعلته هذه كفيلة في إزهاق روحي والاستسلام للموت مقابلًا إياه، فهو بالأخير يبحث عني مذُ البداية وها نحن التقينا.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي