البارت٣

في مكان آخر لم نذهب إليه من قبل، وهو إحدى فروع شركات (ألفريدو) تلك السلسلة التي يتخذها رجل العصابات الصقلي (چاكوب ألفريدو) واجهة لأعماله المشبوهة من تجارة المخدرات والسلاح، الكل يستغرب أفعاله بالفترة الأخيرة، فبعد أن قرر الانفصال عن زوجته (ناتاشا) وهو نازق، قليل الصبر.

من مبتدأ الحال وهو حاد الطباع شديد في تعاملاته، يدير شئون تلك العائلة بإجادة، يحكم رجاله بقبضة من نار، الكل يهابه إلى أن أتت من بدلت حال الدون (چاكوب) من الشدة والجبروت إلى اللين والرفق وهي (ناتاشا)، فمنذ مقتل أبيه على يد رجل عصابة أخرى بمعاونة أتباعه.

وقد حمل (چاكوب ألفريدو) على عاتقه مسئولية الثأر لمن قُتِل غدرٌا وقبل وفاة أبيه الذي دوماً ما كان يناشده بأن يترك شغفه اللعين بالجنس الآخر ويلتفت إلى عملهم ولكنه هام بتلك الخائنة ولم يصغ لأحد من أفراد عائلته المحتجين على زواجه منها وللأسف كانوا محقين.

حسناً حتى ولو أخطئ فسيحرص على ألا يكرر نفس الخطأ مرةً أخرى وسيلتزم بوصية الفقيد ففي هذا المجال الكل يكيد للبعض، فخاخ ومغارز تحاك ضد من يشتد ساعده حتى لا تهيمن سلطته على البقية.

ومن شمخ رأسه وتعنت رافضاً التضامن مع عائلة أخرى وهو والد (چاكوب) قاموا بتصفيته برصاص الغدر ولقى بعض من رجال عائلة (ألفريدو) حتفهم أثناء المذبحة التي دارت بين العائلتين.

وذلك بعد أن التقطت عينا (چاك) تلك الحسناء تلهو على شاطئ الجزيرة التي عقد على سطح أعلى أبراجها جلسة تفاوضهم مع العائلة المعادية وانتهى الاجتماع بين العائلتين نهاية مأساوية إذ توفى والد الدون (چاكوب) على الفور ونفس الرصاصة التي اخترقت جسد الأب نفذت لتنال من الابن، فسقط الهَرِم أرضاً وإلى جواره ولده الذي تمكن مَن تبقى من رجاله حياً بإسعافه.

لا ينكر أتباع (چاكوب) الطبيعة الهادئة لقائدهم الحالي، ولكن هذا كان في السابق.
أجل فالدون (چاكوب) قليل الكلام، كثير الفعل ولكن هذا قبل خيانة (ناتاشا) له، تلك التي ظل يبحث عنها لسنوات ورآها صدفة واحتجزها عمداً وتخلى عن كبرياءه مرضاة لها، ولكن الغدر والخيانة تسري بعروق النساء وهذا رأي الدون بعد قصة حب ظن فيها أنه أمتلك قلب حواء.

خطت قدماه المدخل الرئيسي للشركة، وعُصبة من رجاله المسلحين على أعلى مستوى يحاوطونه من كافة الاتجاهات، الكل رهن الإشارة.

تقدم ومن خلفه حرسه الخاص، كان (چاكوب) يرتدي زي عملي ليحافظ على وجهته كرجل أعمال محترم، في حين أن الجميع بما فيهم الحكومة الفيدرالية يعلمون مصدر أمواله وأساس ثروة عائلته، ولكن ما من أحد يمكنه التفوه بكلمة، ومَن يتجرأ على التجاوز حتى ولو كان بالهمس بينه وبين ذاته فليحتسبه الجميع ضمن شهداء الحماقة والغباء.

إذا أحب الدون شخص فقد فُتِحت له طاقة من النعيم هذا إذا كان هناك معنى لتلك الكلمة في قاموسه بعد خيانتها، وإذا كره وهذا هو المصطلح السائد في حياته الآن فلن تتسع الأرض لكلاهما هو ومَن عادى.

إذا جاءك تهديد منه فاعلم أنك تعني له الكثير لذا لا تتحامق، لأنك لو لم تكن كذلك ما كانت التحذيرات هي لغة الحوار بينكما، فاللغة الوحيدة التي يجيد تحدثها هي صوت البارود الحي المطلق في المليان، فنشانه لا يخيب وقاصده لن ينجَ ولو عاد جنين برحم أمه.

الأرض تهتز لخطاه والقلوب تقرع دقاتها بِهدرٍ حينما تلمحه الأبصار، تبادل الدون (چاكوب) تحية مقتضبة كانت على هيئة إشارة دون استعناء منه إلى موظفي المؤسسة وكان ردها أن أخفض الجميع رؤوسهم بخنوعٍ يجيبون تحية لم ترِد على لسان الدون بأخرى مهذبة في طاعةٍ واحترام.

دخل الدون إلى مكتبه الخاص وأخيه الأصغر (ماركوس) يتبعه كظله، توقفت الحراسة بالخارج وكل فرد يعسكر مكانه على بعد محسوب ممن يليه، الأعين تتوسط الجباه فحياة الدون أصبحت على المحك، إذ أعلن  (سيمانز) عشيق زوجة (جاكوب) الحرب على غريمه، بعد أن حنت (ناتاشا) إلى نعيم لن تطأه قدماها مجدداً، وهذا بعد أن اكتشفت أن نار الدون ولا جنة (سيمانز).

وهذا هو حالنا جميعاً نحن البشر لا نعرف قيمة ما بإيدينا حتى نفقده، وإذا لازال قلب (چاكوب) معلق بها إلا أن كبرياءه حائل صلد بينها وبينه، لقد انتهت قصتهما معاً وهذا قرار لا رجعة فيه.

وما إن ولج الدون و(ماركوس) الذي أغلق باب المكتب خلفه، حتى صب (چاكوب) جم سخطه وهو يتخصر بكلا يديه يزفر أنفاسه الحانقة رافعاً رأسه لأعلى، فها هو بحضرة الشخص الوحيد الذي يمكنه تفهمه، ولن يخجل (چاكوب) من أن يفضي إليه بما يعتمل به صدره، إذ قال بغضبٍ مكبوت، وهو يتميز غيظاً:

-أتعلم (ماركوس)! أنا أشعر بألمٍ ها هنا.

قالها وهو يشير بسبابته إلى صدره جهة اليسار ومن ثَم استكمل:

-الوجع هنا لا يحتمل.

هذه المرة نبرة صوت (چاكوب) واحمرار عينيه يفصحان حتى ولو لم يقولها صريحة عن كم العذاب الذي يعشش بداخل الدون الذي يهابه الجميع وتسببت به امرأة.

أردف (ماركوس)، قائلاً بتضامن:

-اهدأ أخي، ما من شيء يستحق أن تصل من أجله إلى هذه الحالة!

-هل الذي خلقها لم يخلق سواها؟! انساها (چاكوب) وعش حياتك يا زعيم.

(چاكوب) وهو يلقي بحمل جسده على تلك الأريكة المكسوة بالجلد الموجودة بإحدى زوايا المكتب العملي الأنيق ذو الأثاث المودرن، يميل بجذعه إلى الأمام عاقداً أصابعه معاً يستند بساعديه إلى فخذيه مطرقاً رأسه، يقول بحنق وتنهيدة حارقة صدرت عنه توحي بقلة حيلته:

-ليت الأمر بيدي (ماركوس)! مهما حاولت يحدث شيء يعيدني إلى نقطة الصفر.

-أتعلم مَن اتصل بي اليوم؟

(ماركوس) بحيرة:

-مَن عساه أن يكون؟!

رفع (چاكوب) رأسه، يقول باستشاطة من بين شفاهٍ مزمومة، وقد استحالت تعابير وجهه من الانهزام إلى العدائية، ومَن يراه يجزم بأنه على وشك ارتكاب جريمة:

-إنه ابن العاهرة (سيمانز).

-أتعلم لِم اتصل بي، وماذا قال؟!

(ماركوس) بقطع:

-شيء ضايقك بالتأكيد.

(چاكوب) بتهكم:

-هذا المخنث اتصل بي ليدعُوني إلى حفل بمناسبة حمل زوجتي منه!! هذا ال..

قاطعه (ماركوس) يقول باستنكار:

-السابقة! زوجتك السابقة! وحتى لو كانت تلك الرخيصة التي قبلت أن تعيش معه دون زواج على ذمته، فقط إشارة منك ويصبح (سيمانز) الأرمل الأتعس على الإطلاق وذلك من بشعة الموتة التي ستلقاها تلك الملعونة وأمام ناظريه.

-أنت مَن تحُول دون زيارة عزرائيل لها.

(چاكوب) بتأكيد:

-ولازلت هكذا، وإن فعلها أحد دون إذن مني أياً مَن كان هو، سيكون بذلك قد خط شهادة وفاته بيده، هذا إذا وجدوا له رفاة من الأساس، حتى إذا كنت أنت الفاعل (ماركوس)، فلن أتهاون.

(ماركوس) بضيق:

-لم (چاكوب)؟! أنا حقاً لا أفهمك!

-فإذا كنت تحبها إلى هذا الحد، وقد جاءتك نادمة أكثر من مرة وأنت الذي نبذتها، اخلص منها ومنه وارح قلبك يا أخي.

هز (چاكوب) رأسه برفض:

-لا (ماركوس) لن أقتلها، فالموت راحة لها.

-أعلم أنها ندمت فعلاً، ولكنني لا ألتقطت فتات غيري، هو مَن يلملم ما يقع مني، لست أنا الرجل الذي تقوده امرأة.

-كل مرة تأتيني فيها طالبة الصفح يندمل جرح قلبي، وأشعر بناري تثلج، فلِم أحرم نفسي من إحساس كهذا؟

-سأرسلها إلى جحيمها بيدي ولكنني الآن مستمتع.

(ماركوس) بسخرية:

-أنت تختلق الأسباب، لو كان الأمر هكذا ما كنت لتغضب بسبب اتصال هذا الوغد بك.

(چاكوب) بإنكار متخاذل:

-لا (ماركوس) كل ما في الأمر أنني فق.......

قاطعه (ماركوس) قائلاً:

-اخدع حالك كما شئت، ولكن لا تبرر لي، فأنا لا أقتنع بأسبابك.

-دعنا من مبرراتك الواهية وقل لي بمَ أجبت على دعوة هذا الخنزير؟!

مال رأس (چاكوب) إلى اليسار، ضاغطاً بقواطعه على شفته السفلية، يقول باستمتاع:

-هل هذا سؤال (ماركوس)؟!

-بالطبع سألبي الدعوة.

(ماركوس) بعدم تصديق:

-ماذا؟! وهل تضمن هذا النجس؟! ربما يدبر لك مكيدة.

(چاكوب) مبتسماً بزاوية فمه، يقول باستنكار مصطنع:

-خسئت (ماكوس)!! ربما؟! لا شك إنه يدبر لشيء ما.

-ولكن إذا لم أذهب سأحرم نفسي من الاستمتاع بمراقبة هذا الوزغ الذي أعتقد نفسه تمساحاً وهو يحيك ويخطط وأنا أفوِّت عليه متعة الانتصار، ضارباً بكل ما رتب إليه عرض الحائط.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي