البارت ١٣

(كيتي) بإبتسامة مشاكسة، وهي تغمز له بعينها :

- حسناً، اخبرني ما استنتجته؟

عضت الشفاه كانت من نصيبه تلك المرة، وهو يقول بصوت أجش من فرط إحساسه الشغوف بها :

- قلت إنكِ تشعرين بي وترغبين في قربي وبجنون كما حالي أنا أيضاً، صحيح؟

أومأت (كيتي) في إيجاب دون تفكير بردة فعله حيال تصريحها هذا.

وما كان منه إلا إنه قد دفع جسدها بخفة، فاستكانت على الفراش إلى جواره وأشرف هو بجسده عليها، وغامت عينيه برغبة موحشة، وهو يكبل يديها أعلى رأسها.

ومن ثم انتفض (أرون) ورعبه لما يدور جعله يهب من مرقده على التخت، وهو يمسد جبينه بأطراف أصابعه، فقد كان حلمه بها أشبه بالنعيم، وما كاد أن يقترب كي ينهل شهدها إلا أن ما اختتم به منامه جعله يفيق مفزوعاً.

فخلال انسجامهما معاً وتجاوبها الحالمي، اندفع باب الغرفة التي أسكنها إياها وتدفق من فتحته جموع من إناس ضخام الجثة يحملون بإيديهم أسلحة حديثة لا يعلم نوعيتها ولا كيفية عملها، يخرج من ثقابٍ بمقدمة تلك الأسلحة ضوء أحمر صُوِّبت أشعتها على كليهما في مقتلٍ.

وعندما تفاجئت (أرون دانييل) بدخول هؤلاء الأغراب، قام عنها لتنهض هي الأخرى تقف إلى جواره بذعر تحتضن ذراعه بكلا راحتيها.

وأكثر ما آلامه هو انتفاضة جسدها القريب إليه، وإحساسه بحتمية فقدانها في موقف كهذا جعل رجفة أوصالها تنتقل إليه، وكأن هناك سائل كاوي يتسرب عبر وريده يُصعق كل عضو يتدفق إليه حتى تجمع بنابضه يتآكله كماء نار سُكِب على قطعة لحم، وذلك عندما تأهب حاملي السلاح للإطلاق ودوى صوت شد أجزاء ما بإيديهم ليهز صداه جدران الغرفة.

فتنبه (أرون) على الفور يتقدمها، دافعاً جسدها الضئيل ليخبئها خلفه، ولكن حدث ما كان يخشاه إذ انصرفت عنه الأنظار، وخُفِضت فوهات الأسلحة لتتوجه جميعها نحو جسدٍ آخر دخل من تلك الفتحة اللعينة التي لم يشغلوا بالهم بغلقها.

إذ حضر إليه (أصلان) ككل ليلة؛ ليقص عليه ما تجسد أمام عينيه من وقائع بشأن شخصيات قد لا يعرفها، وربما تلك الشخصيات رآها الصبي على شاشة ذاك الجهاز الذي يسمى بالتلفاز فقد أحضره إليه (أرون) منذ ثلاثة أسابيع كوسيلة ترفيه لفتى صغير في مثل عمره.

وذلك عندما تسلل (أرون) في غسق الليل إلى أقرب مكان يعج بالحياة، يُبادل أحد أصحاب المحال الصغيرة مقترحاً عليه أن يعطه هذا الجهاز مقابل سبيكة ذهبية، فرحب الرجل على الفور ولم يسأله عن مصدرها بل لم يجادله من الأساس، فقيمة السبيكة تعادل ثمن عشر أجهزة مما وقع اختيار (أرون) عليه.

أما بالغرفة المجاورة، استيقظت تلك الغافية بعد لقاء تناغمي بينها وبين هذا ال (أرون) والذي وللأسف انتهى حلمها به على أصوات جلبة في الجوار لا تعلم مصدرها.

تململت في الفراش، وألم هاجم كل خلية بها، فرأسها وكأنه دُفش أسفل عجلات مقطورة عملاقة، وريقها مُر كالعلقم، وجسدها يتصدع من شدة الوجع.

الظلام يخيم على الغرفة إلا من بصيص نور تسلل من خلال مفارق تلك النوافذ المغلقة مصاريعها، أرادت أن تعرف كم مر من الوقت وهي في هذا المكان الغريب كلياً عليها، لذا رفعت يدها تنظر إلى الساعة المطوقة لمعصمها، ولكنها استمعت إلى صوت آهات ألمٍ مر وقت حتى تدرك أن الصوت مصدره شفاهها.

رفعت حاجبها باندهاش عندما لم تجد الساعة، وحركة حاجبها تلك زادت من ألم رأسها، رمقت أصابعها المتورمة التي بدت وكأنها طحنت بمطرقة تتحسر على ما أصابهما.

مرت بذاكرتها بعض مشاهد مما حدث قبل أن تسقط بأحضانه فاقدة للوعي، وأخذت عيناها تجوب جميع أنحاء الغرفة باستكشاف، ومن ثَم اتسعت حدقتيها بذعرٍ، وهي توقن أنها في مخبأ هذا الليث، بل والأكثر إرباكاً إنها ليست بعرينه فحسب بل وعلى فراشه أيضاً.

مدت (كيتي) يدها بعجز ترفع عنها ذلك الغطاء الملقى على جسدها بإهمال، تُقِيم جذعها زاحفة إلى الوراء بصعوبة كي تستند إلى ظهر التخت، وليتها لم تفعل!!

إذ اعتلت الحمرة وجنتيها، وعينها قد التقطت شيئاً لم تدركه إلا عندما انحصر الغطاء عن جسدها.
إنها ترتدي ملابس نوم رجالية، رفعت الغطاء إلى أسفل عنقها بفزع ومن حدة حركتها تأوهت نيابة عن جسدها المحتج لما فعلت.

أخذت (كيتي) تعتصر ذاكرتها في محاولة منها لاسترجاع بضعة من المشاهد ذات الصورة المشوشة، وأصبحت فكرة معرفة مَن قام بتبديل ثيابها عنها هي جل ما يهمها الآن.

أغمضت عينيها المتثاقلة جفونها، تبعد عن رأسها فكرة أنه الفاعل، فمجرد مرور تلك الخاطرة بذهنها أصابتها بالغثيان، أخذ منها الأمر عدة دقائق كي تصد عنها فكرة أن (أرون) هو من بدل لها ثيابها وهي فاقدة للوعي.

بعد وقت رمشت (كيتي) بأهدابها تمعن النظر بمحتويات هذه الغرفة الواسعة التي يتوسطها التخت الذي يحتله جسدها، وتلك الحوائط المطلاة جميعها باللون الرمادي الفاتح.

وهناك بعض من البراويز المعلقة على جدرانها تحمل صور جميعها تعود لنفس الفتاة التي تجهل ماهيتها، أما عن الأرضية الخشبية السوداء فلا شيء مميز سوى بساط صغير فُرِشَ ليغطي مساحة صغيرة من أرضية تلك الغرفة الشاسعة التي ابتلعت أساسها بسبب كِبر حجمها، إنها غرفة بمساحة منزل بأكمله من غرفٍ ومطبخٍ ومرحاض.

وإلى جوار التخت يوجد مصباحيّ إنارة من الخزف، وبالجهة المقابلة للفراش أُسند إلى جانب الحائط خزانة باللون الأسود ذات أدراج لها مقابض كريستالية براقة، وكذلك خزانة ملابس عملاقة لها نفس اللون، ومن بساطة تكوين الغرفة علمت أنها لرجل، فقد افتقرت محتوياتها إلى أي لمسة أناقة أنثوية.

تحاملت على نفسها تعتدل وقد أنزلت قدميها أرضا، تقف بتعثرٍ، تسير بخطى حثيثة مترنحة قاصدة الجهة الأخرى من الغرفة، فهي بحاجة ماسة إلى استخدام المرحاض، وفي منتصف الطريق تجمدت بأرضها تستند إلى الحائط الحجري، وسؤال لولبي تبادر إلى ذهنها أصابها بصاعقة، ألا وهو :
- كيف علمت أن هذا الباب هو باب المرحاض؟ لِم لا يكون باب الغرفة مثلاً أو باب ملحق لغرف مجاورة؟

ومن هنا اشتعل جسدها بحرارة كالجمر وكست وجنتيها حمرة قانية، وهي تسترجع بعض الذكريات القريبة التي علمت من خلالها أنه قام بإحضارها إلى هنا، وخيالات ضبابية لها وهي محمولة بين ذراعيه يصعد بها درج حجري، ومن ثم حط بها أرضاً، وبعدها مباشرة شهقت بتفاجئ وكأنها عادت إلى الحياة عندما سُكب أعلى رأسها ماء بارد فانتابها فواق لحظي.

التفتت تلصق ظهرها إلى الحائط خلفها تبتلع رمقها بتوتر وهي تستعيد تلك اللحظات عندما استندت إليه بعفوية بل بضعف شديد، تضع رأسها الثقيل على كتفه ليبدو التباين الملحوظ بين بشرته البرونزية التي اكتسبت لونها بفعل حرارة الطقس في هذه البقعة النائية، وبين بشرتها ناصعة البياض.

تنهر حالها وتلومها على عدم احتجاجها عندما طوق خصرها بذراع يتقدم بها ناحية حوض الاغتسال المعلق بجدار الحمام.

ومن ثم أفرج عن حصار خصرها وهو يتمتم إلى جانب أذنها يقول بخشونة وهو يمسك إحدى يديها بلين يضعها على عمود معدني مثبت بشكل أفقي إلى جانب الحوض ذلك الذي يستخدم لتعليق المناشف، يطالبها بالآتي :

- تمسكي بهذا جيداً (كيتي)، فلابد من أن أطهر جروح يديك.

فعلت ما قاله ولكن بشكل تلقائي وليس استجابة لطلبه، فمن كان يصقل جسدها قد تنحى، ووقتها لم تعِ ما أو مَن هو، ولكن مَن كان يسندها بحماية غادرها ليعود من جديد.

ولكن هذه المرة أحست بدفء جسده، خلف خاصتها الذي يرتجف من شدة الوجع، ومن ثم التقط يدها الحرة وذراعيه حولها على كلا الجانبين.

والأَمَرُ من هذا أنها ما إن أحست بداعمها خلفها ألقت بحالها عليه فالتصق جسديهما معاً، وما تشعره من خزي الآن قد تضاعف عندما تذكرت ما ألقاه على مسامعها بعد فعلتها غير المقصودة تلك، إذ قال :

- لا (كيتي)، استقيمي حباً في الله، فكيف سأفعلها وأنت تُحَمِلينني ثقل جسدك أيضاً ؟!

- عاودي التمسك بالحامل.

ما بها في هذا الوقت أوقف كل قدرة لديها على الاستيعاب، فلم تمتثل لما يقول، لذا شدد من حصار خصرها يتراجع بها إلى الوراء يجبرها على الانحناء، ولكن عن أي إجبار تتحدث؟! فهي كانت بين يديه كالدمية يحركها كيفما يشاء وكأنها فقدت الروح.

جلس على أرضية الحمام وهوى جسدها يحتل المساحة ما بين ساقيه، ورأسها ارتطم بقوة أعلى كتفه فتأوهت بتصدع بعد أن رمقته بنظرة مشوشة والغريب أنها تتذكر ذلك التعبير الذي ارتسم على وجهه الممتعض فقد كان مجبر على مساعدتها أو ربما مستاء لما يفعل، وبدى هذا جلياً وبوضوح بسبب بروز خطوط فمه القاسي المستقيم وعينيه اللتان أطل منهما الغضب ليتجلَ ودون شك مشاعره النافرة لها.

وسؤال جال بخاطرها ذُيِّل بإجابة لا تحتمل الشك (ليس هناك سيدة بالقلعة خاصته)، لا زوجة!
وتأكد حدسها بسبب نقص اللمسات الأنثوية، فما من زوجة ستكن متسامحة كل هذا القدر وتدع زوجها يقم بمعاونة أخرى في وجودها، و حتماً شخص متعجرف كهذا، المرأة التي تشاركه نزواته لن تكن عنصراً أساسياً بحياته، فهو حقاً لا يحتمل.

تلك الحقيقة التي أقرتها تناقض تماماً حلمها به في غفوتها وأحست بتحولٍ غريب في مشاعرها تجاهه.

ولكن ما حدث لا يمكنها إصلاحه، ستتغاضى عن أي شيء دار وهي في حالة الضعف التي كانت عليها، فبعد أن ترحل من هنا حتماً ستنسى.

استكملت طريقها تلج إلى المرحاض، توصد الباب خلفها بحدة محكمة غلق مزلاجه حتى لا يقتحم هذا البغيض خلوتها وهي تقضي حاجتها، يكفيها ما بها من حرج ولا تعلم كيف ستأتيها الجرأة لتواجهه بعد ما حدث!!

انقضت حاجتها للمرحاض فتأهبت للخروج، وقد بلغت روحها الحلقوم من مجاهدتها لمجرد قضاء حاجة، تأفأفت بضيق فكيف لها أن تصل إلى حيث التخت، وتمتمت بغيظ :

- قاعد لي في فدان!! الواحد حاسس أنه على ما يوصل هيكون طلعت روحه!

ولِحظِّها العسر فتحت المزلاج، وهي تستند على غير هدى إلى الجدار المجاور للباب، فأطاحت يدها دون عمد بتلك الخزانة الصغيرة المعلقة على الحائط لتقع أرضاً،. وتتناثر محتوياتها وعلب الأدوية التي بداخلها تبعثرت كل واحدة في اتجاه، فعقبت بامتعاض :

- يا سنة سوخة يا ولاد! هو أنا ناقصة؟!

- طب هلم أمهم إزاي دول، وأننا مش قادرة أقف مش أوطي أجيب واحدة م الشرق وواحدة م الغرب؟!

التفتت تتراجع عن الباب ولأول مرة تخدمها الصدفة؛ فما إن استدارت توالي ظهرها للباب، حتى وجدت من استفاق من غفوته التي كانت هي ضيفة شرفها يقتحم عليها المرحاض كما توقعت فلو لم تتنحَ لكان جسدها يفترش الأرض، وما إن رأها ........
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي