البارت٨

في قلعة صياد الوحوش

علت نظراته ليأسر عينيها بخاصته، وهو يقول:

-أعلم أنك لا تعنين ما تقولين، فلا داعي لتصنع الحياء، عينيكِ تشع رغبة وجسدكِ يستجيب، ولكنني لست على استعداد لتلبية رغباتك الجامحة، فهناك أشياء أخرى أكثر أهمية لي في الوقت الحاضر، ربما لاحقاً؟

لم يتمهل كي تستوعب ما قال بل مد يده الحرة يتحسس جيب منطالها غير مراعياً لسماجة ما يفعل وكأن المثبتة أسفله رجل لا امرأة، ومن ثم أخرج من جيبها آخر فيلم كانت قد انتزعته من علبة الكاميرا، ودون ذرة تفكير بما تشعر به من خجل أخذ يفتش جيوبها الأخرى بينما تتململ بحرج في حراك مستمر ولكنه لم يشغل بالاً للأمر.

وعندما لم يجد بحوزتها سواه سألها بحدة، وقد استحالت وقاحته إلى غضب ونفاذ صبر وهو يلوح بالفيلم أمام وجهها:

-هل هذا كل ما لديكِ؟

ازدردت رمقها بتوتر، تومأ برأسها في إيجاب ببطئ شديد، ولكنه حدق بها غير مصدق، فحبست أنفاسها حتى لا يلحظ تذبذبها الواضح.

ولكن على ما يبدو أنها أجادت التمثيل ولم يفضح كذبتها، أو ربما راعى حالتها المزرية واحمرار وجهها عقب لمساته الجريئة، وعلى ما تظن أنه قد اكتفى من مناوراته لها.

إذ استقام برشاقة وهو لازال ممسك بإحدى معصميها يجذبها معه لتقف بدورها، فاختل توازنها لحركته المباغتة، لذا استندت إليه عندما خانتها ساقيها، ولكنه كان من الحدة وصلابة القلب بما يكفي ليجرها خلفه، فحاولت التشبث بأرضها تصرخ باحتجاج:

-لا، إلى أين تسحبني هكذا؟! أنا أريد الرحيل.

نفضت يدها من قبضته، تواليه ظهرها تجاهد للابتعاد بخطوات واسعة أشبه بالركض ولكنها باتت مشوشة ولا تعلم أي وجهة ستسلك.

بينما اجتاز المسافة التي قطعتها في خطوتين يلتقطها سريعاً مطبقاً على ذراعها بإحدى كفيه، يقبض على راحة يدها الأخرى المتورمة المليئة بخدوش وجروح نازفة ودماء متجلطة يضع بين أصابعها لفافة الفيلم الذي أخرجه من جيبها، يغلق كفها عليه بعنف وحزم وللحظة ظنت أنه سيتركها ترحل به، فسألته بحيرة وهي تعلو بنظراتها إلى معالم وجهه الذي لا يفسر:

-ماذا هناك؟!

جاءها رده القاسي بما لم تتوقعه وهو يقول بأمر:

-خذي هذا والقيه بيدك في البحر.

بالرغم من حدته معها ولكنه بدى وسيماً إلى أبعد حد ولهيئته المهيبة تلك وقع مخيف عليها، فخواطرها الحالمية عنه بدأت تتأجج من جديد ولكنها ذكرت حالها بسوء أدبه معها عندما عاثت يداه وهو يعبث بجيوبها بطريقة مهينة دون التفكير بمكنونها، وتسائلت بينها وبين حالها عن إحساسه وهو قريب منها إلى هذا الحد ممسكاً بيدها.

هزت رأسها برفض لأمره ولكنها بالحقيقة تنفض عن عقلها تلك المشاعر التي راودتها تجاهه فما يصدر عنه الآن أبعد ما يكون عن جدال عقيم كهذا.
عن أي مشاعر تتحدث؟! إنه مجرد من الأحاسيس والشعور، إنه شخص متعجرف ضخم بلا قلب ولا ضمير حتى.

تحدته، بصراخ:

- لا، لن أفعل.

ضغطت قبضته على ذراعها بقوة وهو يقول بنبرة حادة:

-افعلي ما أمرتكِ به.

أخذت تجادل بقوة واهية:

-اللعنة، لقد عانيت الأمرين لأحصل على تلك الصور، قم أنت بعملك القذر هذا ودعني، إلى هنا وكفى.

أشاح بيده الأخرى في وجهها، يقول بتقليل:

-أوه، هذا اتهام لاذع لا أسمح به، وكلامك ذاك لا يحق لكِ التفوه به فهذا استنكار لا يصدر ممن يتلصصون على الناس.

حاولت بث الثقة بداخلها فحتى وإن أقرت بداخلها أحقيته في هذا الانتقاد ولكنها أبداً لن تعترف أمامه بخطأها، لذا واجهته بشموخ كاذب وأنف مرفوع رافضة الاستجابة لم يريده منها، ولكنه كرر ما قال وعلى ما يبدو إنه لن يتراجع:

-ارميه!

استدارت على مضض في اتجاه البحر الثائرة أمواجه لكنها سرعان ما أحست بدوار غيم الرؤية لديها فخارت قواها ولم تعد قادرة على الوقوف، وما إن أحس بترنحها هذا وهما قريبان من حافة التلة جذبها إلى الوراء لا إلا تكن قد فقدت التوازن بالفعل وفي تلك الحالة ستسقط دون أمل لها في الحياة وربما يعجز عن إنقاذها هذه المرة.

أخذ يسب ويلعن بشراسة بينما التفتت على الفور تدفن وجهها بصدره في هلع، وذلك عندما التقطت عينها المسافة الكبيرة بين قمة هذا الارتفاع وسفحه، وقد أيقنت أنه محق في تأنيبها منذ البداية، فلو لم يساعدها في الصعود كانت الآن تنزف بغزارة بعد سقطة مميتة من هذا البعد الشاهق.

ضمها إليه للحظات، ولكن ما حاولت السيطرة عليه من أحاسيس عاود يقض دواخلها فها هي الآن بين ذراعيه، قريبة إليه حد الهلاك غارقة بدفء صدره وكم تمنت أن يتوقف الزمن بهما عند هذه اللحظة بل تطرقت أمانيها إلى أبعد من ذلك إذ ودت لو أحكم حصار ذراعيه حولها يشدها إليه أكثر، يلين ويحتضنها إلى جسده برقة.

انتفضت تبتعد عنه بذعر كمن تلقت صفعة على وجهها، وتلك المشاعر الجارفة أشد وقعاً من لحظات ارتياعها أثناء تسلقها للربوة وخوفها من السقوط، وصوت بداخلها يحثها على الإبتعاد عن هذا الرجل وفي أقرب وقت وبأي ثمن.

أن تنئى بنفسها عنه وعن تلك الأحاسيس الدخيلة عليها في حضرته لهو أكثر الأمور عقلانية، ولكن هناك ما هو أهم، فقد وجد فيلماً واحداً ولكن ما خفي بحقيبتها أكثر وأعظم، فإذا تمكنت من الرحيل عن هنا بأي حيلة ستكون بهذا قد ظفرت بما أتت من أجله محتفظة بما معها من أفلام، وبذلك ستكون قد حققت لحظة انتصار تحسب لها.

لذا مالت بجذعها تمسك بحقيبة يدها الملقاة على الأرض بإهمال، ولكنها كتمت أنينها بسبب ثقل وزن تلك الحقيبة الذي سحق أصابعها المجروحة، ولكن انحناء جسدها جعل رأسها المكدوم يثقل وعاودها الألم، شاعرةً بارتجاج لمحتويات جمجمتها مما أصابها بالغثيان.

علق (ڤان) على فعلتها بتهكم وهو يصفق باستحسان، قائلاً:

-لا أعلم إذا كان هذا غباء منك أم تقليل لعقلي!!

-ولكنني يجب أن أعترف بأنني للحظة صدقت أنكِ على وشك الإغماء بالفعل عندما ارتميتِ بأحضاني.

-للحقيقة لابد وأن أشيد ببراعتك في التمثيل.

-ولكنني أعتذر على تخييب مساعك، فأنا سأحتفظ بالصور.

تجمدت يدها بموضعها ولازالت منحنية أرضًا، فمال إليها يمسك بمعصمها يرفع جسدها بعنف.

زفرت بإحباط إذ ظنت أنه قد اكتشف حقيقة ما كانت تفكر به توًا، ولكن ما حدث أنه فتح كفها الذي وضع به الفيلم منذ لحظات ينتزعه من بين أصابعها نزعاً، فصدرت عنها صرخت ألم قوية لم تستطع قمعها، مما جعله يجفل من صدى صوتها الذي علا تردده في المكان وهو ينظر إلى يدها التي بدأت تنزف من جديد بشكل أثار شفقته، ولكنه لم يظهر هذا بل قال بنفور واشمئزاز مصطنع:

-ادخلي إلى المنزل لتنظفي هذا.

هزت رأسها برفضٍ، تقول:
-لا، يجب عليَّ أن أرحل الآن.

قالتها وهي تبتعد عنه بينما صدح صوت بداخله يردد:
-رفيقة.. رفيقة... هل جننت (أرون) ؟؟
هل ستتركها ترحل حقاً؟!

ما إن استمع (أرون) إلى هذا الصوت، حتى كاد أن يصاب بالجنون، لذا هدر فيها بحدة يقول:
-قفي عندكِ..

ومن ثم سألها بإلحاحٍ يشوبه الغلاظة:
-هل استمعتِ إلى هذا الصوت؟!

ضيقت (كيتي) عينيها بدهشة تقول:
- عن أي صوت تتحدث؟

عاوده المتحدث، معقباً:
-أنا (شيزار).. ذئبك أيها الأبله.. لا تدع رفيقتنا ترحل.. ستغضب علينا آلهة القمر.

أخذ (أرون) يتلفت حوله ببلاهة قبل أن يستوعب أن الصوت نابع من رأسه، وهو يتمتم بأعين مستديرة: - اللعنة!! ذئبي!! هذا مستحيل.

بينما من ترمقه بريبة، عقبت:
-آه يا ابن المجنونة!!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي