البارت ٤

بقلعة (أرون دانييل) صياد الوحوش.

ظلت (كيتي) تتابعه وعيناها لم تفارقه، بل أخذت تراقبه بشخوص، وتقطيبة زينت جبهتها وهي تتسائل عما يفعل، ثبتت بمكانها وتدفق الدماء بأوردتها جعلها تشعر بسريان قشعريرة الإثارة بأوصالها، فعلى ما يبدو أنه يتابع شخص ما، انتقلت نظراتها إلى حيث نقطة مرمى بصره الذي استقر باتجاه الشرفة فوجدت خيالاً لشخصٍ آخر

أثقلت (كيتي) جسدها تستند إلى الصخور، وعدلت من موضعها قدر المستطاع، وهي تشب على أطراف أصابها، تسترق النظر من أعلى الربوة كي تتمكن من الرؤية بوضوح، وهي تتسائل عن كينونة هذا الشخص!!

أخذت (كيتي) تتضرع إلى الله أن يكون هدفها المرصود من كليهما امرأة، أجل ولو كان هذا يوم حظها فلتكن شخصية مثيرة بما يكفي، فلتكن حسناء مشهورة ممثلة معروفة مثلاً أو حتى عارضة أزياء، أي فضائح مثيرة حتى يقنع هذا الطامع (إبرام) ويمدها بما يلوي ذراعها به.

استندت (كيتي) بكلا يديها إلى الحافة، ترفع جسدها قليلاً، وهي تعافر جاهدة كي تتمكن من كشف مساحة أكبر من الشرفة، لكن تلك التلة من الصخور المرتصة فوق بعضها تحمي البرج من المتلصصين على نحوٍ أمثل.

أطلقت هواء زفيرها تنفث بضيق فقد أعاقتها تلك الكتل الصخرية وحجبت عنها الرؤية.

لوح (أرون دانييل) يحث مَن بصحبته على الانضمام إليه داخل البركة المائية الصافية، ما هذا!
هل ما تراه عن طريق العدسة حقيقة أم تتوهم، لقد لمعت أسنانه البيضاء مع تلألأ أشعة الشمس التي ينعكس بريقها على صفحة المياه.

وتلميح ساخر صدر عنها، وهي تقول:

-يا سلام، ده بيعرف يضحك زينا!!

نسيت أن أعرفكم إنها (كاميليا عيسى بولس) أو (كيتي)، مسيحية من أب مصري وأم إنجليزية،، ورثت (كيتي) خفة الظل عن أبيها، تجيد ثلاث لغات وتتحدثها بطلاقة.

شردت (كيتي) بابتسامته الجذابة، فهي كانت محقة بشأن وصفها السابق لتلك الشفاه الغليظة، نعم فهو أكثر وسامة عندما لاحت على ثغره هذه البسمة الرجولية الوقورة.

انتبهت على حالها وهي تستنكر أفعالها، فقد ولت لحظات عدة وإذا بها تتناسى ما أتت من أجله، مرت دقائق لا تعلم عددها وهي تتأمله قبل أن تتذكر مهمتها، بل شغلها واحتل فكرها لدرجة أنها لم تتمكن من تخليد هذه الابتسامة الساحرة ولم تركز كي تلتقط صورة له وهو على حالته القاطعة للأنفاس تلك.

حركة مفاجئة هي ما جعلتها تعود إلى رشدها، وتبدأ بالعمل، ولكنها شعرت بالإحباط، فالجسد الذي ألقى بحاله ملبياً دعوة ذراعي (أرون) المفتوحتين لم يكن لحسناء مشهورة، بل لطفل يشبه ذاك الداعي له مع اختلاف لون الشعر، فخصلات هذا الصبي سوداء حالكة وزاد ترطيب الماء لها من قتامتها.

طفل جميل يبدو وكأنه بعامه السادس أو السابع ليس أكثر، استقر الصبي بحضن أبيه في الماء مسترخياً مرتاح.

سمرتها الدهشة بأرضها لبرهة، نعم فلا شك فيما ظنت ولا مجال للخطأ هنا، فالتشابه بين الصغير و (أرون) واضح، ولكن لم يشاع عن (أرون) أن لديه عائلة!! ولم يأتي (أبرام) على ذكر زوجة وأولاد!! و بالأساس لا يبدو على (أرون) أنه رجل مقيد برابط الزواج!!

نفضت عن رأسها كل تلك الأفكار وراحت تباشر عملها بمهنية عالية، ضغطت على زر الكاميرا عدة مرات بثبات تسجل كل حركة لهما، وعندما انتهت من تصوير فيلم كامل، دست الفيلم المستخدم بحقيبتها وأخرجت واحداً جديداً ووضعته بآلة التصوير.

ظلت (كيتي) تتابع عملها ورماديتيها ترتكز على كليهما بالرغم من انعدام الضوء إذ أخذت الشمس تميل نحو البحر تنوي الرحيل، ولم يعد هناك الإضاءة الكافية لتلتقط صور بعيدة المدى.

تجمدت الدماء بعروقها وإذا بالطيفين اللذيْن يتوسطا العدسة، أحدهما يشير باتجاهها ناحية الصخور.

رأت (كيتي) الليث يكشر عن أنيابه مضيقاً عينيه الخضراوين وهو يرصد التلة، وتحولت الابتسامة التي وُئِدت على شفاهه إلى خط مزموم، وما كانت تخشاه حدث، فتلك الأشعة الآفلة للشمس التي شارفت على المغيب لمعت بِبريقٍ فوق عدسة الكاميرا التي بين يديها، وقد افتضح أمرها بناء على ما صار بسبب سوء طالعها.

تربصت بها عيناه وأصبح الراصد هو المرصود وانقلب السحر على الساحر، وتلاقت نظراتهما للحظة، نعم رآها فعينيها التي تتبعه من خلف عدسة آلة التصوير ويدها التي ضغطت زر التقريب مما جعلها تجفل وهو يرميها بتلك النظرة الحادة المتوعدة تؤكد صدق حدسها.

تيبس جسد (كيتي) وارتجفت أصابعها التي كانت منذ ثوانٍ معدودة تؤدي عملها بثباتٍ، ولكنها راحت تقنع نفسها، متمتمة:

-ما تثبتي كده!! فيه إيه مالك؟! ده عقبال ما يتنشف ويلبس تكوني أنتِ فلقتي من هنا واللي يعرف الحج يبقى يشتكي له.

أخذت (كيتي) تردد تلك العبارات التفائلية بينها وبين حالها، وهي تعد الخطط للرحيل، شاكرة عقليتها الفاذة عندما قررت أن تصف سيارتها على مقربة من برجه العالي، ثوان وربما تستغرق دقيقة أو اثنتين كي تتسلق تلك المسافة التي لا تذكر حتى قمة هذه التلة، وبعدها ستطلق العنان لساقيها.

ثقتها بنجاحها في الفرار شيء وإجبار جسدها على الاستجابة شيء آخر، فقد زادت رعشة يدها وهي تعيد الكاميرا إلى موضعها بالحقيبة، وبصعوبة أتمت تلك الخطوة البسيطة، فما بالها بالقادم؟

رفعت الحقيبة بيد متصلبة على كتفها، وهي ترفع بصرها إلى أعلى تحفز حالها ناظرة إلى دربها بريبة، فهل حقاً ستتمكن من فعلها وبسرعة قبل أن تطالها يداه؟!

بدأت (كيتي) تشك في نجاحها بالأمر، ولكن يجب عليها أن تفعلها، مدت يدها تحاول التشبث بأي شيء يساعدها على الصعود لتبدأ أول خطوة بمشوار رحلة فكاكها هذه.

لم بدا الأمر صعب بل أشبه بالمستحيل؟!
فالساعات الطويلة التي قضتها في التربص دون حراك جعل كل آطرافها تتشنج بتيبس، ساقيها وگأنهما هلام لا تحملناها ولكنها حاولت الثبات عليهما تجبرهما على التماسك ودفعها للصعود.

اكتمل سوء الحظ عندما انزلقت يداها اللتان ابتلت بعرق الخوف وشدة ارتفاع حرارة الجو بالرغم من أن البحر قد ابتلع بالفعل قرصها المضيء كان عائقاً كبيراً.

ضج رأسها بصخب وهي تحاول إيجاد حل سريع وفكرة التقائها به مجدداً جعلتها على وشك البكاء.
الى لقاءٍ قريب في انتظار تعليقاتكم

Al Ostoura A&H
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي