البارت٥

*في قلعة صياد الوحوش.
كادت (كيتي) أن تبكي مما تعانيه الآن من خوفٍ ومشقة، ولكنها أجفلت تنتفض بخضةٍ، حتى أوشكت على السقوط، وهناك صوتٌ رجولي أجش يقول بسخريةٍ:

-هل يمكنني أن أقدم لكِ يد العون آنسة (كيتي)؟

ارتجف جسدها بأكمله وزاد قربه اللعين من توترها، وترقرق الدمع بعينيها ولكنها حبست عبراتها تدعي القوة والصلابة، وذلك بعد أن عقبت:

-البس! يا فضيحتك يا كوكي.

انعقد جبين (أرون) وهو يسألها، بدهشةٍ:

-ماذا؟!

أجابته (كيتي) بنفورٍ، تتحدث بلهجته بلكنة ممتازة:

-لا شيء فقط دعني وشأني، أستطيع تدبر أمري.

تجاهلت يده الموجهة إليها، محاولة الاعتماد على نفسها، فصاح فيها بخشونةٍ:

-لا تُكابري لن تتمكني من فعلها لحالكِ.

قالها (أرون) وهو ينبطح على بطنه، يقرب ذراعه الممدود إليها وفجأة صدح صوت صراخها وصداه يتردد بالأرجاء، فقد اختل توازنها وكادت أن تسقط ولكنها وجدت نفسها معلقة، ويده الغليظة التقطتها، يعتصر معصمها بين أصابعه الخشنة التي تتشبث بها في استماتةٍ، وجسدها مدلى يتأرجح كبندول ساعة، وشهقةٍ عالية اخترقت صدرها عندما اصطدم جبينها بالصخور.

جذبها لأعلى بقوةٍ وهو يرفعها إليه، ولا تعلم كيف تمكن من فعلها! فقد ظنت أنها النهاية.

آلامٌ مبرحة في ساعدها ومفصل كتفها وتلك الندبة التي حتمًا ستترك أثر على جبهتها لأيام وربما لشهور، وطوق نجاتها احتضنها بين ذراعيها يتدحرج بها مبتعداً عن الهاوية، ومن شدة ألمها أحمرت عينيها باحتقانٍ ولم تتمكن من إيقاف دموعها التي نزلت بغزارةٍ، وهي تتمتم:

-آه، يخرب بيت حظي النحس اللي وقعني مع جبلة زيك!!

ماذا تقول تلك الخرقاء؟! إنه حقاً لم يستمع طوال سنوات عمره التي تعدت الألف عاماً إلى هذه اللكنة:

-ماذا تقولين أنتِ؟!

لم تتمكن (كيتي) من إخراج صوتها الذي اختنق بالعبرات، وبنظرة مشوشة من بين رموشها الكثيفة التي تبللت بدموع ألمها وحرجها، علمت لِم لم يستغرق وقتاً طويلاً، فهو لم يثقل على حاله ولم يتكبد أي جهد في تجفيف جسده، ولم يضع عليه سوى سروالٍ قصير، وركض إلى هنا عاري الصدر كي يضبطها متلبسةً بتهمة التجسس.

كان ما بها مِن وهنٍ أقوى من طاقتها على التحمل فلم تتمكن من الاعتراض، وكل ما كان منها أنها تصلبت بين ذراعيه تستند بوجهها إلى صدره العاري، ووقع نبضات قلبه الثابتة يناقض خفقانها المتسارع وأصبح وضعها المخزي هذا يُشعرها بالحرج، فقد كان متسطحاً على ظهره وهي مَن تعتليه.

ولم يكتفي هذا الغليظ ولم يرحمها بل قبض على خصلات شعرها يرفع وجهها إليه، فأجبرها على مواجهته:

-اجيبي؟ بما تهرتلين أنا لا أفهم منكِ شيئاً، ألم أحذركِ من الاقتراب من هنا؟

أنين وجع وصراخ شق صداه صمت الأجواء وفاضت عينيها بالدموع أنهارًا، ولكنه لم يرأف بل زاد من إحكام قبضته على شعرها والتمعت عينيه بغضبٍ جم وتُقسم أنها أحست بتحولهما ولكن كيف؟!
أليس من المفترض أن تلك الأساطير التي أذيعت عنه أوهام وقصص من وحي الخيال، هل هناك فعلاً ما يسمى بالتحول من بشري إلى مستذئب؟

أليست كل تلك الأفكار زعم وإبداع نسجه مؤلفي الروايات والأفلام؟

ساقتها قدماها إلى هنا وهي تشك في أمره وظنت أن ما تتداوله عنه الصحف مجرد أوهامٍ، وعندما جاءت إليه في الصباح الباكر تأكدت ظنونها، فلو كان هو نفسه الشخص الذي تُسرد عنه القصص والحكايات كان سيبدو عليه علامات تقدم السن؟!

ما تراه أمامها الآن شاب في أوائل عقده الثالث لا شخص بلغ من العمر أرزله.

صمتت ولا إجابات لديها أو ربما غضبه المخيف هو ما لجم لسانها، وتسائلت كيف له أن يعاملها بكل هذه القسوة؟! أكل ذلك لأنها أرادت صورة له؟!

وعندما لم يصدر عنها رد فعل صاح فيها بحدةٍ، يقول:

-هل فقدتِ النطق؟ ولِم الآن تتحدثين بهذه اللوغاريتمات الغير مفهومة؟ وما هدفكِ من القدوم إلى هنا؟

قلبت عينيها بتململٍ، وهي تتمتم باستياءٍ متجاهلةً استنكاره لتحدثها بلهجتها التي لا يفهمها:

-عاوزني أرد أقوله إيه ابن الصرمة ده؟ طب يعني هنفضل ناخد وندي وهو قافش فيا كده؟

ابتسم بمكر عندما تحدته وأخذت تلعي بكلامٍ غير مفهوم، فرفع عنها ذراعًا وظل يحتجزها بالآخر ضاغطًا جسدها إليه، وبدأ يتحسس وجنتها بظهر يده باعثاً الدفء إلى جسدها وهو يقول بوقاحة:

-استماتتك مرضية للغرور آنسة (كيتي)! وهل أنت على استعداد لتنفيذ طلباتي ما إن أوافق على منحكِ هذه الصورة؟

هزت رأسها بتهورٍ في حركةٍ تدل على القبول، وهي شبه فاقدة للإدراك فعلى ما يبدو أن هذا ال (أرون) بارع وچان، ولديه قدرات وخبرة عالية في الاستقطاب، ولمساته المداعبة لبشرتها جعلتها بعالمٍ آخر.

بالأساس هي تكره انجذابها المغيب إليه من قبل هذا التقارب والتلامس، ولكن وهي مستكينة بين أحضانه استوحشت مشاعرها واستجابة حواسها لما يود إيقاعها به أدهشتها، والتي كانت تستنكر وضعهما المشين هذا، أغمضت عينيها تأخذ نفساً مطولاً تستمتع بهواء عطره الجذاب الممزوج برائحة ملوحة ماء البحر وعبق جسده الرجولي المعضل تسلل بسلالسة إلى رئتيها.

استجابتها إليه وإن نفرها عقلها، إلا أن ضجيج رأسه بالرفض يستنكر تأثيرها عليه أشد مقتاً فمنذ أن رآها بالصباح ورائحتها تثير شيئاً ما بداخله لا يعلم ما هو، ولكنه قرر ألا ينساق وراء غريزته الشهوانية حتى وإن كانت حقاً مثيرة ومغوية، فهناك من وضع ثقته به وترك بعنقه أمانة لابد وأن يحفظها له ويحمي سر رفيقه المقرب.

وجَّه كل حواسه ليبعد أفكاره الوقحة التي دارت عنها ومعها، وحوَّل انجذابه إليها إلى العدوانية، ويده التي كانت تداعب وجهها برقة وإغواء امتدت تطبق على عنقها بقوة، يقول بقوة وغضب:

-لا تدعي البلاهة، والتزامكِ الصمت لن يفيدكِ بشيءٍ!! حيل الجواسيس أمثالك لن تنطلِ عليَّ.

هذه المرة امتناعها عن الرد كان بالإجبار رغماً عنها، فقد أحست بضيق تنفسٍ وگأنه يعتصر قصبتها الهوائية وأحبالها الصوتية بقسوةٍ لا تعلم سببها، ولعل دموعها المتوسلة الدافئة التي فاضت بها رماديتيها تعرف طريقها على خديها ومنها إلى صدره شفعت لها ورق القاسي.
وذلك بأن خفف حدة تمسكه بنحرها، فشهقت كغريقٍ، تحاول تمرير أكبر قدرٍ من الهواء إلى رئتيها وأنفاسها اللاهثة دليل على أنها أوشكت على أن تلفظ آخر نفس لها بين يده.

أطلقت (كيتي) أنين ارتياح ولكنه لم يشفي غليله ولم يكف عنها بعد، وإنما قال مضيفاً:

-إذا كان هذا هو مذهبكِ، وهذه هي الطريقة التي ستتبعينها في عملكِ، فلن تجني من وراء هذا شيئاً، وستعرضين نفسكِ للمخاطر، خاصةً وأنت تتجاهلين أبسط وسائل النجاة.

-أنتِ حتى لم تكلفي خاطركِ وتستخدمين حبلاً أو ما شابه، هل من أجل حفنة من المال تلقي بنفسكِ إلى الهلاك؟

تمتمت بالإنجليزية وهي تتململ بين يديه، تحتج قائلةً برفضٍ:

-أنا لم آتي إلى هنا من أجل المال.

ابتسم (أرون) ابتسامةً جانبية ساخرة، وهو يقول بتقليلٍ:

- وهل تعتقدين أنني سأصدقكِ؟ فهناك الكثير من الفضوليين أمثالكِ يأتون إلى هنا سعياً وراء الصور.

-والعديد من المخرجيين والعاملين بالتلفاز يريدون أن يجعلوا من صياد الوحوش الأعظم مهرجاً في دعاياهم وأفلامهم ليجنوا مكاسباً لا حصر لها.

-أنتِ أي نوع منهم؟
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي