الفصل الأول

الفصل الأول:
في إحدى الشقق الفاخرة، وبالتحديد تلك التى تطل على نيل القاهرة الساحر، ومن داخل تلك الشقة وبالتحديد أكثر في الدور الأخير من تلك البناية الشاهقة، نجد شاب يجلس في شرفة غرفته ينظر إلى مياه النيل في تلك الساعة المبكرة من النهار، وبالتحديد مع أول شعاع للشمس، يحتسى كوب قهوته بهدوء، مصاحب لتلك النغمات الهادئة التى تصل إليه من مشغل الموسيقى الموجود داخل الغرفة
إنها ساعته المميزة لا يشارك أحداً فيها، أنها الساعة الوحيدة التي يخصصها لنفسه وروحه.
هو سياف محمد الزهراني شاب في الخامسة والثلاثون من العمر، أعذب، مهندس سابقًا، والآن هو صاحب أكبر مقهى في العاصمة " قهوة عربي" لقد أنشئه بعد أن تعرض لأصابه قوية وهو يقوم بأخر مشروعاته، وظل في غيبوبه لمدة عامان، وحين عاد إلى الحياة من جديد، قرر ترك الهندسة وفتح المقهى.
لقد جعله مقهى مميز من حيث مكانه الذى يطل من جهة على ماء النيل العظيم، ومن جهة على أرض كبيرة خضراء واسعة، ومن جهة أخرى على الطريق العام بكل ضجيجه وصخبه.
ومن الداخل مقسم إلى أربعة أقسام، فهو يؤمن أن لكل إنسان زوقه الخاص، خاصة في تناول كوب قهوته.
هناك من يحب تناولها بسرعة شديدة والعودة من جديد لكل ما تركه من أعمال من أجل كوب قهوة، وهناك من يحب أن يتناولها بهدوء ورويه مع بعض النغمات الهادئة، وهناك من يعشقها مع بعض الكلمات الأدبية، يتذوق كلمات الكتاب بعقله وقهوته بفمه.
انتهي من كوب قهوته لينظر إلى النيل والشمس تعكس أشاعتها فوقه تجعل المياة لامعه بشكل مميز يخطف الأنظار.
أخذ نفس عميق ثم دلف إلى غرفته ليبدل ملابسه ويذهب إلى المقهى،
هو وحيد يسكن فى تلك الشقة بمفرده بعد وفاة والديه، ليس له أخوه و عائلته جميعًا في الصعيد، يذهب إليهم من وقت إلى آخر، لديه صديقين مقربين منذ أن كان صغيراً لا يفترقا أبدًا، كانا معًا فى الجامعة، وهم من ظلوا بجواره طوال سنوات غيبوبته، كان حديثهم معه أكثر الأشياء التى جعلته يرغب في العودة إلى الحياة من جديد.
الأول داغر أيضًا كان يعمل مهندس، وبعد أصابه صديقه تركها و توجه لإدارة شركات والده، هو أيضًا لم يتزوج حتى الآن، ولا رغبه له في الزواج، ليس له أي علاقه بالجنس اللطيف، الذى لا يراه هو لطيف بأي شكل، يعيش هو ووالده فقط ليس له أخوة، ولا يعلم أين هى والدته.
والثاني جرير، ما زال يعمل في مجال الهندسة لكنه أيضًا يعمل مع سياف في المقهى، هو المسؤول عن تعين الموظفين بالمكان، و أيضًا المسؤول عنهم أمام سياف، يعشق إبنة خالته منذ أن كان في الجامعه وخلال أشهر قليلة سوف يتم عقد قرانه، أروى بالنسبة له هى الحافز الأكبر في كل خطوة من حياته، هى تدعمه تحبه و دائمًا تقف بجانبه، وهو يراها كنز حياته الكبير.
كان سياف يفكر في كل ذلك وهو يقود سيارته متوجهه إلى المقهى القريب من بيته، يعلم أن الوقت مبكر، ولكنه يحب المكان كثيرًا أن يعيش فيه ويستمع إلى الكثير من القصص، الحكايات بداخله فهي تملئ فراغ حياته بسبب وحدته، وأيضًا يحب أن يشرف على كل شئ بنفسه، فليس له مكتب خاص، بل له طاولة خاصة في مكان مميز يرى منه جميع أقسام المقهى المصممة بطريقه تفصل الصوت عن الأجزاء الأخرى لينال كل من يأتي إلى المقهى ما يريد،، و لذلك أشتهر المقهى سريعًا، وأصبح له الكثير من الرواد، الدائمين بمواعيد ثابته، وطاولة خاصة لا تتغير، وأيضًا من سماه المقهى القهوة ، المميزة التى يقدمها المقهى لرواده والذى حرص عليها سياف من أول يوم.
وصل إلى المكان ليفتح له عاطف الباب مسؤول أمن المقهى مع إبتسامة واسعة بادله إياها سياف، حين دخل خلع نظارته الشمسية و ألقى التحية على نادر مسؤول الصالة، وتوجهه إلى طاولته ليركض فهمى إلى المطبخ يصنع كوب القهوة الخاص بسياف
أراح سياف ظهره على الكرسي، وهو يفكر في تلك الفتاه التى شغلت عقله منذ أيام، حين كانت تبحث عن عمل هيئتها تدل على أنها من أسرة ميسورة الحال، وهذا ما جعله يشعر بالدهشة لما فتاة مثلها تأتى تبحث عن عمل كنادله في مقهى؟! حتى لو كان هذا المقهى الخاص به بكل ما يميزه وبسمعته الجيدة.
حين وضع فهمى القهوة أمام سياف
قال سياف بهدوء: شكرًا يا فهمى، ابعتيلي نادر.
فهمي :حاضر.
وغادر فهمى سريعًا، وبعد ثوان كان نادر يقف أمام سياف وهو يقول: تحت أمرك يا باشمهندس.
سياف :أقعد يا نادر.
جلس نادر بهدوء ليقول سياف بشكل مباشر
سياف : انت معاك رقم البنت إللى جات من يومين تدور على شغل؟
نادر: نورسين.
قالها نادر باستفهام ليقول سياف بابتسامة بسيطة لم يلاحظها نادر
سياف :إسمها نورسين.
ولكي يتأكد مما كان يفكر فيه، هذه الفتاة خلفها قصة كبيرة، فهو أعتاد على قرأه زوار المقهى، فمن هيئة الشخص، وطريقة جلوسه، حركه يديه وحركات جسده وهو يتحدث تجعله يفهم إن كان متوتر، كاذب، أو يحاول أن يصلح خطأ ما.
أنتبه من أفكاره و قال بأمر: أتصل بيها وخليها تيجى علشان جرير يعمل معاها المقابلة.
أومئ نادر بنعم وغادر الطاولة لينفذ أمر مديره، جلس سياف بشكل أكثر راحة، وهو يحتسى كوب قهوته مرافقه مع كلمات السيدة فيروز " حبيتك في الصيف "

..…...

في مكان مختلف وبالتحديد من داخل مطبخ فيلا صغيرة كان يقف داغر أمام المقود يشمر عن ساعديه يقوم بتحضير وجبة الإفطار، كعادته اليومية من أكثر من عشر سنوات هو يرفض رفض قاطع أن يحضر خادمه، يرفض دخول أي سيدة إلى البيت، حتى أنه يخصص يوم الجمعه لتنظيف البيت، ويقوم بكل أنواع التنظيف فهو الآن أصبح يعرف في شئون البيت أفضل من أي إمرأة.
دلف والده إلى المطبخ وهو يقول: امتي ربنا يرحمني من أكل البيض المحروق ده؟
لينظر إليه داغر بحاجب مرفوع،
وقال بمزاح : محروق أحسن من مسموم، فاكر لما حطيت سم فيران بدل الملح، لولا ستر ربنا وأنى دخلت عليك وقتها، ولحقتك.
ليضحك كساب حين تذكر تلك الواقعة: يلا حصل خير اهو انت لسه عايش، وبتناكف فيا.
وضع داغر صحن البيض أمام والده، ولحقه أيضًا بطبق الفول، و بعض من المخلل، وهو يقول:
انا مش عارف اعملك ايه اكتر من كده، بقا في مهندس محترم زيي كده يقف يعمل أكل، ويمسح، ويكنس، ويلمع انا مبقاش اسمي داغر انا كده بقيت (( خدامتك آمنه )).
ليضحك كساب بصوت عالى وهو يقول:
طيب ما تكمل دورك للنهاية، البش مهندس وحيد من زمان يا آمنه.
ليحاوط داغر نفسه بذراعيه وهو يقول بصوت مائع:
حرام عليك يا سيدى هو انت معندكش ولا ايه؟
ليضحك الاثنان بصوت عالى حين علا صوت هاتف داغر برقم سياف ليجيبه سريعًا وهو يقول: حماتك بتحبك، تعالى كُل.
ضحك بصوت عالى وهو يجيب صديقه: يا عم بكرة نعرفها.
صمت لثوانى ثم قال: خلاص تمام هعدى عليك باليل، جرير هيكون موجود؟
صمت مرة أخرى ثم قال: أوك، أشوفك باليل.
أغلق الهاتف ونظر إلى والده وقال: تيجى معايا الكافيه بالليل.
هز والده رأسه بلا، وقال بعد أن شرب القليل من الماء: انت عارف انا بحب انام بدرى.
أومئ داغر بنعم ثم وقف على قدميه وهو يقول : هطلع ألبس أنا وأسبقك على الشركة.
وغادر بعد أن قبل رأس والده، الذى أخذ نفس عميق ببعض الضيق فولده يضيع عمره بسبب غلطة قديمة.
******************************************
كان يقود سيارته حين علا صوت هاتفه وأنار باسم سياف، أجابه و هو يضع الهاتف على وضع مكبر الصوت وقال: أهلاً يا صديق، كيف حالك اليوم يا " قهوجي"؟
ليضحك سياف بصوت عالى وهو يقول : اهوجى بس اعيش.
ليضحك جرير بصوت عالى، ليكمل سياف كلماته قائلًا :
عايزك النهاردة بدرى، في مقابلات شغل.
سياف : علم وينفذ يا حضرة المدير، بس غريبة دايمًا نادر اللي يبلغني بالموضوع ده؟ إيه سبب إن سياف الزهراتي يكلمني بنفسه؟
ظل سياف صامت لعدة ثوان، ثم قال : متتأخرش يا جرير، سلاااام.
ثم أغلق الهاتف ليشعر جرير بالاندهاش، فصديقه غريب جدًا اليوم، ولكن لينتظر إلى المساء، وسيعلم كل شئ.
*********************************


وصل جرير إلى مكتبه، وعقله مشغول باتصال صديقه، وأيضًا قلقه على أروى، اليوم كان صوتها مختلف، وكأن هناك ما يقلقها أو يشغل عقلها، دلف إلى مكتبه وأول ما فعله أتصل بها حين أجابته قال ببعض القلق : ممكن أعرف مالك ؟ ومش هقبل اسمع أي حاجه غير الحقيقة.
ظلت صامته لثوانى، ثم قالت : متقبلتش في الشغل.
جرير : طيب وأيه يعنى، مش نهاية العالم، وبعدين أنا قولتلك قبل كده، تعالى اشتغلِ معايا أو اشوف لكِ شغل في شركة داغر، وانتِ اللي رافضه مش عارف ليه؟!
أجابها بهدوء، لتقول هى سريعًا : مش عايزه واسطة.
جرير: واسطة إيه يا بنتى، هنا مفيش الكلام ده وبعدين انتِ محاسبة شاطرة جدًا، وعند داغر بقا، ده لو مقتنعش بيكى ممكن يرميكى من الشباك عادى.
قال آخر كلماته بمرح لتضحك بصوت عالى وهى تقول: وانت مضحى بيا كده؟ ماشي يا جرير مردوده ليك.
ليضحك بصوت عالى وهو يقول :
المهم دلوقتى اني سمعت ضحكتك، أقفل بقا وانا مطمن وارجع لشغلي.
أغلق الهاتف، و بدء في ممارسة عمله، حتى موعده مع سياف.

*****************************
وصل داغر إلى الشركة
تقطيبه حاجبيه تسبقه، يراها الكفيف، وتجعل جميع موظفي الشركة يكرهون تلك الدقائق التي يمر فيها داغر عليهم، في الصباح والمساء، وأيضًا وقت الاجتماعات، رغم أنه صاحب شركة عادل جدًا يهتم جدًا بالعمل، ويكافئ دائمًا المجتهد، ولكن أيضًا عقابه للمهمل شديد.
وصل مكتبه بعد أن مر بالسكرتير الخاص به، فمعظم موظفي الشركة رجال، لا يتجاوز عدد الموظفات أصابع اليد الواحدة، ولا يتعاملون معه بشكل مباشر على الإطلاق.
داغر كره النساء جميعًا بعد ما حدث قديمًا، وحتى تلك اللحظه لا يستطيع تخطى الأمر.
وكعادته من أول وصوله يباشر العمل، بكل دقه، وحماس
كان السكرتير الخاص به الأستاذ" منتصر" يقف أمامه يخبره بمواعيد عمله وخطة اليوم، ولكن كان من بين كل كلمة وأخرى يسعل بشده، لينظر إليه داغر بقلق وقال باستفهام :مالك يا أستاذ منتصر انت مريض؟
أومئ منتصر بنعم وقال ببطئ بسبب السعال: دور برد وان شاء الله خير يا باشمهندس.
ليترك داغر القلم وغادر مكتبه ليقف أمام الرجل الأكبر سنًا وهو يقول : تقدر تاخد اجازة لحد ما تبقا كويس.
ليرتسم الزعر على ملامح الرجل وقال سريعًا : لا لا يا باشمهندس أجازة إيه؟ أنا هكون كويس إن شاء الله.
شعر داغر بالاندهاش من موقف الرجل، وبالأساس هو كان يشعر بالفضول من ناحيته من أول يوم استلم العمل بالشركة، وحين أخبر والده أنه يريد سكرتير شاب، رفض والده الأمر بشكل قاطع، حتى انه أخبره أنه يستطيع إحضار مساعد لمنتصر، ولكن ليظل منتصر في مكانه، وبراتبه الذى يزداد شهريًا.
قرر أن يقضى على هذا الفضول اليوم فأشار إلى منتصر أن يجلس، ثم جلس أمامه وقال : أنا بس بقول لحضرتك خد اسبوع أجازة، ولحد ما تكون كويس وترجع تانى.
ظهر التوتر على وجه الرجل ليقول داغر باستفهام : حضرتك ممكن تعتبرني ابنك، وتقولي إيه اللي قلقك قوي كده!
وضع الرجل الأوراق التى بين يديه فوق الطاولة التى أمامه، و قال : أنا مينفعش اخد أجازة، أنا محتاج كل قرش من المرتب علشان علاج بنتى، وكساب بيه عارف كده.
ظل داغر على صمته ينظر إلى منتصر باندهاش، ثم قال :
مالها بنتك؟
نظر منتصر أرضا ولم يجيب على سؤاله، وبعد عدة ثوانِ وقف وهو يقول : هخرج أجيب لحضرتك ملف شركه الأمم، علشان معادهم بعد نص ساعة.
و غادر سريعًا أمام اندهاش وصدمة، وحيرة داغر التى جعلته لا يطيق الانتظار حتى يعود إلى والده، ويعرف قصة ذلك الرجل.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي