الفصل الثامن

الفصل الثامن


فى صباح اليوم الجديد ولأول مرة منذ فتح المقهى لا يذهب فى موعده، ولم يقوم بأي من تقوسه اليومية.
استيقظ بعد شروق الشمس بأكثر من ساعة وحين غادر غرفته وجد داغر نائم على الأريكة أقترب منه بهدوء حتى لا يزعجه إذا كان نائم: أنا صاحي.
قالها داغر دون أن يرفع ذراعه التى تغطى عينيه ليجلس سياف على الكرسي المقابل له وقال: نايم هنا ليه ؟
رفع داغر ذراعه لتجحظ عين سياف من الصدمة حين راي عينيه شديدة الحمرة والحزن الذى يرتسم على ملامحه
وقبل أن يقول أي شىء فتح باب غرفة جرير الذى قال بهدوء وجلس على الكرسي الآخر غير متفاجئ بجلوسهم هكذا: صباح الخير.
أجاباه الأثنان سويًا ليعم الصمت على ثلاثتهم لعدة دقائق، ولكن العيون تتحدث بالقلق الساكن فى قلوبهم: ممكن تسألوا عادى.
قالها داغر دون أن ينظر إليهم ليقول جرير بعد أن ألقى نظرة خاطفة على سياف:
- محتاجين نطمن عليك ، ونفهم.
قال الكلمة الأخيرة بطريقة تحمل الكثير من القلق والفضول
ظل الصمت سيد الموقف حتى قطعه داغر قائلًا: إمبارح كان يوم المفاجآت، والصدمات.
قال آخر كلماته بصوت حزين وله إحساس كبير بالخزلان.
ظل الصديقين ينظران له باهتمام دون أن يتفوهوا بكلمة،
ليرفع داغر عينيه ينظر إلى الأمام، وبدأ يقص عليهم كل ما حدث بصوت لا روح فيه وعيون ثابتة: شكيت فى حالة منتصر ومشيت وراه لحد بيته، وبعد ما وصلت هناك فضلت واقف بلوم فى نفسى إزاي أعمل كده، وإزاي أفكر أمشى وراه ده مش طبعي.
كان الصديقان يستمعان بتركيز شديد حتى أن جرير ترك مقعده و جلس أرضًا أمام داغر مباشرة، ليكمل هو دون أن ينتبه لكل ذلك: قررت أمشى وأنسى سر منتصر وأدفن فضولي اللي خلاني أعمل كده، لكن وقبل ما أتحرك ظهر منتصر من العدم بصرخ أنه عايز أي حد يساعده ولما لقاني قدامه مسك فيا بكل قوته وقال: بنتى، ساعد بنتى.
أخذ نفس عميق ثم أكمل: محستش بنفسي غير وانا بجري على جوه وكأنى حافظ البيت وعارفه، بدخل الباب اللي كان مقفول قدامى وأتفتح على وسعه وبرضوا مش عارف إزاي وصلت لشقته وكأنها مش أول مرة أدخلها.
نظر جرير إلى سياف وقال وهو يرفع شفته بعفويه وامتعاض: أيه حكاية أحاسيسكم دى وكأنكم كنتوا عايشين حياة تانية غير حياتكم.
أشار له سياف بالصمت وأكمل داغر، وكأنه لم يسمع، ولكن تلك المرة ظهر الآلم جلياً على وجهه ونبرة صوته: شوفتها نايمه على الأرض جسمها كله متشنج وتزوم بصوت عالي، وكأن حد كاتم نفسها وبخنقها، جسمها مرفوع عن الأرض وراسها مقلوبة بشكل مخيف، فضلت واقف مكاني مش عارف أعمل أيه أو أقول أيه؟ بس فجأه مبقاش فى غير السكوت، سكوت بس.
أغمض عينيه لثوانى وأخرج أنفاسه الحاره من صدره، ثم أكمل:
وقتها الدكتورة بتاعتها أديتها حقنه، لكن هي رفعت أيدها تشاور عليا وتزوم بصوت عالي، وكأنها بتترجانى أقرب منها أو أنقذها لحد ما جسمها كله أتمدد على الأرض وعيونها غمضت باستسلام ، قربت منها علشان أشيلها وجوه أوضتها لقيت السرير كله أحزمه وقيود لأيدها ورجلها منظر متلاقيهوش غير في السجون المعروفة بالتعذيب كنت رافض أنيمها فى وسط كل ده، لكن هو قرب منى وقال لي هيشرحلى كل حاجة.
كان صديقيه يشعران بالأسف على تلك الفتاة وعلى ما يحدث معها؟ وأيضًا يشعرون بالقلق على صديقهم وحالته التي لا تبشر بالخير، فأنه متشنج الجسد مع جحوظ عينيه واهتزاز قدمه يجعلهم يشعرون أن القادم أكثر بشاعة مما مضى، فرك داغر وجهه بكفيه وهو يكمل: محستش بنفسي وانا بمسك منتصر من هدومه، وبساله عن سبب حالتها وازاي يربطها بالشكل ده؟
كانوا يستمعوا إليه بصدمه، لكنه كان غارق فى تلك الذكرى القريبة وكلمات منتصر تخترق روحه،
أخذ نفس عميق وجلس على أقرب كرسي وجلس داغر على الكرسي المقابل حين قال: من خمسة وعشرين سنه كنت بشتغل فى شركة كبيرة وكان المدير بتاعي بيثق فيا جدًا، وكل أمور الشركة في أيدى، لحد فى ما قابلت راجل لسه جاى البلد جديد، كان عايش في محافظة تانية فى الأول بدأ معايا الكلام أنه جديد فى المجال وعايز يقرب من صاحب الشركة ويتعرف عليه ويكبر بيه،
أراح ظهره إلى الكرسي وأكمل قائلًا: عرفته على صاحب الشركة أنه صديق ليا وعايز شغل وفعلاً شغله سكرتير ليه وانا مدير مكتبه وكنا طول الوقت مع بعض وفي يوم قعدنا مع بعض بعد الشغل وقالى أنه عايز يفتح شركته الخاصة ونبقا شركا، بس العقبة الوحيدة قدامنا هي صاحب الشركة إللى بنشتغل فيها.
صمت لثوان ثم نظر إلى عيني داغر وقال كان شيطان قدر يغويني، وبدأنا نلعب في أوراق الصفقات وبدأت الشركة تخسر صفقة ورا صفقة لحد ما أعلنت افلاسها والراجل جاتله جلطة ومات.
أخذ نفس عميق، ثم قال وكأنه يلقى حمل ثقيل فوق كتفيه ووضعه فوق كتفي داغر الذى لم يتحمل تلك الحقيقة المرة ليجلس أرضًا يستمع لباقي الحقيقة التى نحرت روحة وقلبه:
وقتها كساب راح لأهل صاحب الشركة واستغل وضعهم وأشترى الشركة بملاليم ومنها بدأ يبنى أسمه وانا معاه خطوة بخطوة كنا بنشتغل ليل نهار حتى أوقات كنت بجيب بنتي، ونكمل شغل عندكم في الفيلا أو كنت بتيجي انت ووالدك هنا علشان نخلص شوية أوراق،
ليقطب داغر حاجبيه بإدراك الآن فهم لما كان يتحرك في هذا البيت وكأنه يعرفه، ويستطيع أن يخمن لماذا كانت تنظر إليه تلك الفتاة بتلك النظرة؟
عاد من أفكاره على صوت سياف وهو يقول: ممكن تهدى وتكمل كلامك بعدين.
نظر إليه و أومئ بنعم، ثم وقف ودلف إلى الغرفة بهدوء وصمت أغلق الباب وألقى بجسده على السرير ليغرق في النوم.
وبالخارج كان جرير، وسياف يشعرون بالصدمه حقًا، كيف يكون والد صديقهما بتلك البشاعة؟، ولكن ما كان يقلقهم أكثر ما لم يقوله داغر حتى الآن.
~~~~~~~~~~~~~~~~~~
وصلت نورسين إلى المقهى وهي تعد نفسها لأن تسمع بعض كلمات التوبيخ من سياف بسبب تأخيرها، لكنها حقًا شعرت بالصدمة حين لم تجده بالمقهى وحين سألت عليه أجابها إبراهيم: أتصل و قال أنه مش هيقدر يجى النهاردة، وبقول لحضرتك الكافيه مسؤوليتك النهاردة.
شعرت بالأندهاش والصدمة والحيرة! لماذا الأن؟ ماذا حدث ليغير عادته التى لم تفارقه من يوم فتح المقهى؟ جلست على طاولته و هى تفكر.
أن كل شىء يحدث بقدر اليوم ذهبت إلى الطبيب لتسأله ماذا عليها أن تفعل؟ وحين فتح أمامها بعض الطرق تجده هو قد أختفى
ماذا عليها أن تفعل الآن؟!
~~~~~~~~~~~~~~~~~~
تمسك هاتفها من أكثر من ثلاث ساعات تفكر هل تتصل به أم تنتظر،
لقد أرسل إليها رساله حين استيقظ يخبرها أنه فى بيت سياف وأن داغر معهم، يمر بمشكلة كبيرة وهم يحاولون فهمها ومساعدته على حلها.
لكنها لم تعتاد غيابه طوال تلك الفترة، لقد اعتادت على رسائله الدائمة، اتصالاته حتى ولو كانت قصيرة ومقتضبه، لكنها تطمئنها، ترسم البسمة على وجهها.
نفخت بضيق وقررت ترك الهاتف وأن تشغل نفسها بأي شيء آخر فمؤكد سيتصل بها حين يسمح له الوقت.
وكأنه خرج من أفكارها، وشعر بضايقها،
علا صوت هاتفها بالنغمة المخصصة له وحين أجابت جاءها صوته المعتذر: أروى حبيبتي، إنتِ كويسه ؟
ابتسمت بسعادة وعشق وقالت بحب: طول ما انت جمبي أنا كويسة.
أبتسم إبتسامة صغيرة وقال وهو يتمدد على السرير: أنا آسف حقيقي، بس داغر حاله ميطمنش، وبجد أنا وسياف قلقانين جدًا عليه.
- هينفع تحكيلي.
صمت لعدة ثوانِ؛ ثم أجابها قائلًا: آسف يا أروى ده موضوع خاص بيه، مينفعش أتكلم فيه مع أي مخلوق.
ابتسمت إبتسامة صغيرة وهى تقول بحب: ولا يهمك أنا كنت عايزه أهون عليك، لكن طبعًا أنا لازم أحترم خصوصية داغر.
خيم الصمت عليهم لثوان لتكمل هي كلماتها: طمني عليك؟
أغمض عينيه باسترخاء وقال وجفونه تتثاقل: محتاج أنام، يمكن لما أصحى أقدر أستوعب اللي عرفته وسمعته واقدر أقف جمب صاحبي.
لتشعر هي بانتظام أنفاسه بعد عدة ثوانِ من الصمت لتهمس قائلة: نوم الهنا، تصبح على خير.
ثم أغلقت الهاتف وبداخل قلبها يزداد أحساسها بالقلق والخوف و قلة الحيلة.
************************

وصل نادر إلى المكان المتفق عليه، ظل ينظر حوله إلى تلك الأرض الخضراء الشاسعة والتي لا يوجد بها مكان واحد يستطيعون الاختباء فيه من عيون الناس، أخذ نفس عميق وهو يشعر بالضيق.
إن حياتهم كانت أسهل بكثير من قبل ثلاث سنوات حتى حدث ذلك الموقف الذى قلب موازين البلدة بأكملها، وابدل صداقة العائلتين إلى عداوة ودم.
عاد من جديد يحاول التقاط أنفاسه فهو يشعر بضيق شديد فى صدره وشيء ما يخبره أن هناك شىء سيء سيحدث،
مر الوقت ببطئ هو لم يتحمل أن ينتظر فى البيت لموعدها لذلك جلس مع والديه قليلًا، ثم نام لبعض الوقت وبعد أن صلى الظهر حضر وها هو ينتظر،
جلس أسفل تلك الشجرة القريبة من الساقية وعيونه ثابتة على الطريق المفترض قدومها منه قدمه تهتز بتوتر واستمر الوضع عدة دقائق حتى انتبه لقدوم شخص قريب لها من ناحية والدها يسحب خلفه حماره الذى يحمل بعض الأعلاف، وفي الإتجاه الآخر أحد الرجال التى يعمل فى أرض والده وقبل أن يصل قلقه وخوفه إلى قمته وجدها وهي تركض في اتجاهه شعر بالتوتر والقلق و الخوف وتوقف الرجلان يشاهدان ما يحدث، ولم يكن أحد يشاهد أو يشعر بذلك الذى يقف فوق ذلك المنزل البعيد يستعد لقتل نادر،
وحين دوى صوت تلك الرصاصة التى تنبأ بقتل روح بريئة كانت هي تحتضن نادر وجسده يهتز مع اهتزاز جسدها لاختراق تلك الرصاصة كتفها بدلاً من قلبه ليسقط أرضًا، وهي بين ذراعيه تنظر إلى عينيه بابتسامة معتذرة وقالت من بين شهقات ألمها: كان لازم أدفع تمن خيانتي ليك.
وأغمضت عيونها ليصرخ باسمها ليركض ذلك الرجل الذى يعمل في أرض والد نادر يصرخ في البلد بما حدث خاصه حين وقعت عينيه على عسران الأخ الأكبر لضحى، وبين يديه بندقيته.
وفي دقائق كانت البلد بأكملها تجتمع حول نادر الذى يحتضن ضحى الغارقة فى دمائها وكلا العائلتين يحملون السلاح
ليصرخ بهم نادر: إسعاف بسرعه، خلونا ننقذها.
وخلال دقائق أخرى دوى صوت سيارة الإسعاف وسيارات الشرطة التى منعت التجمهر وأوضحت وبكل الطرق أنهم لن يسمحوا بأي فعل خارج عن القانون خاصة بعد أن تم القبض على عسران.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي