الفصل الثاني

الفصل الثانى.

كان يجلس في مكانه المعتاد، وكعادته دائمًا بين يديه احدي الكتب، وكوب القهوة، ومن وقت لآخر يغلق الكتاب يتابع رواد المكان، و أيضًا العاملين، لكن اليوم كان يراقب الساعة أيضًا ينظر إلى الباب من وقت إلى آخر لا يعلم إذا كان ينتظرها هى أم ينتظر جرير وداغر؟!
أغلق الكتاب في نفس اللحظة التى فتح فيها باب المقهى، ودلفت فتاة عشرينية ترتدى ثوب طويل بخمار وردى عيونها شديدة الحمرة تنظر في كل أرجاء المقهى تبحث عن شخص ما
أراح سياف ظهره على الكرسي وهو يقول لنفسه:
قصة جديدة.
دلفت الفتاة بعد أن اقترب منها نادر لتسير بجانبه، وهو يدلها على طاولتها في أحد الاركان الهادئة، ليقترب منها فهمى يضع أمامها قائمة المشروبات والطعام وغادر.
ظلت تنظر حولها بتوتر تتابعها عيون سياف الذى يحاول تخمين قصتها؟ إنها فتاة خجول مؤكد لن تقابل شاب تحب إنها فكرة مستبعده، إذا هل هى تنتظر صديقتها؟ ولكن لماذا تبدو حزينة و أيضًا تكتم دمعاتها، وأنفاسها أيضًا.
وقبل أن يكمل تخمينه فتح باب المقهى لتنتبه الفتاة بكل حواسها لذلك الرجل الضخم الذى عبر من الباب، وتوجه مباشرة إليها جذب الكرسي وجلس بهدوء.
كان سياف يتابع ما يحدث من مكانه بالطبع دون أن يستمع لكلماتهم ولكنه كان يقرأ شفاهها وأيضًا يرى حركة يديها التى تجذب بها فستانها كل لحظة، وأيضًا تتأكد من مكان حجابها فوق رأسها.
وضع سياف يديه أسفل ذقنه، انه ينتظر انتهاء تلك القصة،
وعلى طاولتهم كانت هى تقول :
أنا مستعدة أعمل أي حاجه بس اشوفه.
الشخص : أنا مقدر مشاعرك يا تقى، بس لازم تفهمي إن والدك مش فاكرك، ولا فاكر أي حاجه عن حياته اللي فاتت وأنا من ساعة ما لاقيته وهو في بيتى معزز مكرم ولولا الصورة اللي انتِ نزلتيها أنا بصراحه مكنتش عمرى هدور على أهله، لإني كنت فاكر الموضوع كله غلط.
أوضح إليها الأمر كله، ثم قال : انتِ بنته الوحيدة ؟
أومئت بنعم وقالت موضحه : ماليش غيره، ومالوش غيرى.
لأ بقا ليكم، أنا.
كانت تنظر إليه باندهاش ليقول هو موضحاً: أنا ياسر أشرف الشريف، مدير دار رعاية الأهل، وحيد ماليش حد، يتيم من صغرى، وعلشان كده عملت الدار، علشان كل أب وأم فيها يكونوا ابويا وامى، ووالدك من ساعة ما وصل الدار وهو مسؤوليتي أنا، وعلشان كده انا هفضل مسؤول عنه، وعنك.
و أمام نظراتها المصدومة وقف وهو يقول : خلينا نروح الدار علشان تشوفي والدك، وتطمني عليه.
وقفت وعلى وجهها ابتسامة صغيرة، رغم تلك الدمعات التى تتلألأ داخل مقلتيها، لكن هناك أيضًا طيف من السعادة والأمان.
أبتسم سياف حين غادرا سويًا، وبداخله يشعر أن خبرات حياته تزداد يومًا بعد يوم، وأيضًا استطاعته لقراءة الناس، ومعرفة دواخلهم.
****************************
بعد عدة ساعات، دلف إلى المكان جرير وهو يشير إلى فهمى قائلًا : عصير فريش يا فهمى الله يسترك الجو بره نار.
من عيوني يا باشمهندس.
قالها فهمى بابتسامة بشوشة، ليتوجه جرير إلى مكان جلوس سياف وجلس أمامه وهو يقول : لقد حضرت يا سيدى، خادمك المطيع، أمرك " بصوت محمد هنيدي".
ليضحك سياف وهو يقول : أيه يا ابنى قناة سبيستون اللي داخل بيها دى؟
ليضحك جرير بصوت عالى وهو يقول :
وحياتك انت "أروى" حطالي فيلم شركة المرعبين في الفلاشة، و كنت بتفرج عليه وانا جاى.
لم يستطع سياف التحكم في صوت ضحكته، التى ملئت المكان خاصة حين أكمل جرير، وهو يشرب من العصير: روز زهرة الربيع المتفتحة.
ليعود سياف لضحك من جديد، ثم صمت ينظر إلى صديقه وهو يفكر جرير من أكثر الأشخاص تصالحًا مع نفسه، وأكثر الأشخاص التي تشعر بجوارهم بالراحة والأمان، رغم أنه يعلم جيدًا كم الوجع الذى بداخله، لكنه رجل قادر على التحدي و الصمود ومواجهة كل الصعاب، لذلك هو حقًا يستحق "أروى".

*************************
بعد مرور بعض الوقت، أحضر نادر كل الأوراق وسلمها إلى جرير، فهذا موعد رحيله هو فقط في انتظار حضور إبراهيم ليستلم الشيفت الخاص به، وكذلك الآن هو موعد تلك الفتاة، كان جرير ينظر إلى سياف كل ثانية وأخرى، وهو يبتسم ابتسامه صغيرة، فالأول مره يرى صديقه بهذا الحال ... و كأنه هناك شئ يحيره و يشغل تفكيره
ولكنه أكتشف الأمر كله حين فتح باب المقهى و دلفت فتاة أقل ما يقال عنها أنها رائعة الجمال رغم خلو وجهها من مساحيق التجميل، و ملابسها المحتشمة رغم غلو ثمنها، أقتربت الفتاة من نادر، و تحدثت معه قليلًا ليشير إليها على مكان طاولة سياف، وجرير لتتوجه إليهم، وقبل أن تصل إليهم
قال سياف سريعاً : أعمل معاها المقابلة هنا قدامى.
قطب جرير حاجبيه باندهاش، ولكنه أومئ بنعم، في نفس الوقت التى وقفت الفتاة أمامهم وقالت: السلام عليكم، أنا نورسين وكنت سألت على شغل واتصلوا بيا علشان المقابلة.
شعر جرير بالغباء لثواني أي عمل هذا إن المقهى مكتمل عدد الموظفين به، ولكن سياف قطع الأمر عليه وقال: أيوة اتفضلي، محتاجين سكرتيرة.
كان جرير ينظر إلى سياف وهو يفتح فمه ببلاهة ماذا يقول؟ وماذا يفعل؟ عن أي سكرتيرة يتحدث، ولكنه عاد من أفكاره على صوت سياف وهو يقول: الأستاذ جرير هو اللي هيعمل المقابلة.
ثم سحب لها الكرسي لتجلس بهدوء، لينظر إليها جرير بحيرة، ثم قال ببعض التوتر: آنسه .. آنسه..
"نورسين".
أجابه سياف سريعًا لينظر إليه جرير باندهاش، ثم عاد إلى نورسين وقال: حضرتك معاكى مؤهل أيه ؟
-خريجة تجارة انجليزي.
أجابته بهدوء شديد، وعيونها ثابته تنظر إلى الأمام دون أن تنظر لأى منهم.
نظر جرير إلى سياف يسأله بعينه ما هذا؟ ولكن سياف عيونه ثابته عليها هى ليأخذ نفس عميق ببعض الضيق،
ثم قال: حضرتك اشتغلتى في أي مكان قبل كده؟
أجابته بهدوء: لأ.
ليكمل: وايه سبب إن حضرتك عايزة تشتغلي في قهوة عربي ؟
ولأول مرة تحرك عينيها نظرت إلى سياف نظرة صغيرة، لكنها كانت كسهم قوى يخترق قلبه، ثم نظرت إلى الأمام من جديد و قالت: أسباب شخصية.
نظر جرير إلى سياف الذى ينظر إليها بتفحص وكأنه يبحث بها عن شئ ما، أو كأنه يحاول تذكرها، عاد جرير ينظر إلى نورسين ثم قال: الوظيفة هتكون مع البشمهندس،
وأشار إلى سياف، ثم أكمل : وإن شاء الله تبدئي من بكرة.
ابتسمت إبتسامة صغيرة، ثم وقفت وهي تقول: إن شاء الله، بس.
ليقف سياف أمامها وهو يقول باستفهام : بس أيه ؟
لتنظر إليه بنظرة عميقة تخترق عمق عينيه، وقالت بابتسامة صغيرة: يا ترى مواعيد شغلي هتبدء مع أول شعاع للشمس ؟
شعر سياف بالاندهاش، والصدمة كالتي ظهرت على وجه جرير أيضًا أنها تعلم عنه وعن المقهى الكثير ظل ينظر إليها قليلًا، ثم تدارك نفسه وقال: مواعيد شغلك من الساعه عشرة الصبح لعشرة مساءاً، مناسب؟
أومئت بنعم مع إبتسامة صغيرة، ثم غادرت بعد ألقت السلام.
ظل سياف وجرير يتابعانها بعيونهم حتى غادرت المقهى تمامًا، ليجلس سياف وهو شارد، لكن جرير لم يسمح له بالاستمرار في هذا الشرود وقال بصوت عالى بعض الشيء: أنا ممكن أفهم إيه اللي بيحصل ؟
لينظر إليه سياف بشرود ثم قال: أول ما أفهم، أكيد هفهمك.
خيم الصمت عليهم لعدة دقائق، شعر فيها جرير أن سياف يحتاج أن يكون بمفرده، ليغادر الطاولة وجلس على طاولة أخرى وبدأ في عمله من مراجعه كل شئ ومتابعة العمال، ومن وقت لآخر ينظر إلى سياف الثابت كأنه تمثال شمع إلا من رفرفه جفنيه كل بضع ثوانِ، لم يستطع جرير أن يترك صديقة أكثر من ذلك فأقترب منه وجلس أمامه، وقال مباشرة: سياف انت كويس ؟
نظر إليه سياف بعيون حائره، ثم قال: مش عارف، مش عارف يا جرير.
أنا أول مرة أشوفك في الحاله دى، انت تعرف البنت دى ؟
سأله جرير مباشرة ليقول سياف سريعًا وبلهفه : انت كمان حسيت إنك تعرفها ؟
هز جرير رأسه بلا ليقول سياف: حاسس اني عارفها، شوفتها قبل كده أو......
قال جرير بأستفهام: أو أيه ؟
ليقف سياف واقترب من الحائط الزجاجي ينظر إلى مياه النيل التى تترقرق وقال: أو أنى عشت معاها، في حياة تانية فى ظروف تانية، حاسس ان كان في حاجه مشتركه بينا حاجه روحى حساها أو.....
ليقطع سيل كلماته رنين هاتف جرير الذى أجاب عليه حين وجد أسم داغر ينير الشاشة، والذى أخبره أنه لن يستطيع الحضور، وأنه يتصل بسياف ولا يجيب
و حين أخبر جرير سياف بالأمر، أخذ أغراضه من فوق الطاولة و غادر المقهى بدون أن يقول أي شئ، لتزداد حيرة جرير وخوفه.

*****************************
كان يقود سيارته متوجها إلى البيت لم يستطع أن يذهب إلى أصدقائه فضوله سوف يقتله، أنه يشعر بالاندهاش من نفسه أول مرة يتغلب عليه فضوله بذلك الشكل،
يقود سيارته بسرعه كبيره على غير عادته، حتى يصل إلى البيت سريعاً يلحق والده قبل أن ينام،
حين عبر البوابة، ترجل من السيارة سريعًا وصعد مباشرة إلى غرفة والده الذى كان يجلس في منتصف سريره يمسك بين يديه إحدى كتبه المفضلة، رفع عينه عن الكتاب حين دلف داغر دون أن يطرق الباب،
أغلق الكتاب ونظر إلى ولده الذى أقترب سريعًا وجلس على طرف السرير وقال مباشرة: ممكن تقولي إيه حكاية أستاذ منتصر؟
قطب كساب حاجبيه باندهاش، ثم قال بأستفهام :ليه بتسأل دلوقتى ؟
من فضلك يا بابا جاوبني، وبعدين أبقا أسأل براحتك.
ظل كساب صامت لعدة ثوانِ، ثم قال: منتصر أول موظف في الشركة، كان هو الموظف الوحيد أصلا...
قاطعه داغر وهو يكمل كلمات والده :كان سكرتير ومحاسب و مدير مكتب و ... كان كل حاجه لحد الشركة ما كبرت وبقا ليها كيان، كل ده أنا عارفه أنا عايز أعرف حكايته التانية اللي انت و هو بس اللي تعرفوها، تمسكك أنه يفضل في الشركة ومرتبه اللي بيزيد كل شهر، عدم أخذه أجازه، أنه آخر موظف بيروح، وأول واحد بيكون موجود.
ظل كساب صامت ينظر إلى عيون ابنه التى يرى بداخلها نار تشتعل، من الفضول والقلق، وعدم الفهم، وحين طال صمت والده قال السؤال بشكل مباشر أكثر: أيه حكاية بنته ؟
اهتزت حدقتي كساب، وظهر التوتر جلياً على ملامحه ليزداد الفضول، واحساس داخلي يزداد أن هناك سر كبير وخطير حول تلك الفتاة، وعليه أن يعرفه.
ظل الصمت هو سيد الموقف، والأثنان ينظران إلى بعضهما كل منهم يحاول سبر أغوار الآخر، لكن كساب قطع كل ذلك وهو يقول بعد أن عاد يمسك كتابه : وانت الموضوع يهمك في أيه؟ الراجل وشايف شغله ومش مقصر فيه، أنت أيه مشكلتك ؟
إن داغر يعرف والده جيداً، والآن هو يفهم تمامًا أنه لن يخبره بشيء، ولكن هو يريد أن يفهم لغز ذلك الرجل وابنته خاصه بعد موقف والده الآن، وقف على قدميه وبداخل عينيه إصرار كبير على معرفه الحقيقة كامله، وسوف يعرفها، غادر الغرفه ليغلق كساب الكتاب وهو يأخذ نفس عميق ببعض الضيق وهمس لنفسه: وأدى غلط جديد تتحاسب عليه يا ابنى من غير ذنب.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي