الفصل الحادي عشر

الفصل الحادي عشر

واقف أمام منتصر الذى يرجوه بعينيه أن يهتم بابنته، لكن داغر الذى ينظر إليه بملامح جافة، وخالية من أي تعابير جعله يتراجع للخلف عدة خطوات ليدلف داغر إلى غرفة رؤيا يحملها بين يديه بحنان، ووضعت الطبيبة الغطاء عليها حتى تداريها بالكامل، وحين كاد يغادر المنزل أوقفه صوت منتصر وهو يناديه: داغر.
وقف مكانه دون أن ينظر إليه ليقترب منتصر منه،
ووقف خلفه وقال: علشان اللي انت بتعمله دلوقتى لبنتي، ورغم اني مش عارف نيتك، لكن من جوايا حاسس انك بتساعدها، عايز اقول لك دور في حكاية والدتك اللي قالها ليك ابوك، هو مقلش ليك الحقيقة يا ابنى.
ألتفت داغر ينظر إليه بصدمه، وعيون جاحظه ليتراجع منتصر إلى الخلف، وجلس على احد الكراسي، وأعطى ظهره لداغر الذى ظل واقف مكانه لعدة ثوانِ، ثم غادر بيت منتصر، وقد أتخذ قراره، لقد حان موعد المواجهة.
......................

كان الجميع متواجد داخل المستشفى، لم يستطع أحد المغادرة حتي الضابط مهران لم يغادر، ينتظر أن يطمئن على ضحى وأيضًا حتي يأخذ أقوالها، وينهى الأمر وديًا، مرت عدة ساعات على جلوسهم على نفس الحال.
كان الجميع يشعر بالراحه من انتهاء الحرب بينهم بهذا الشكل، خاصة عائلة ضحى، فإذا استمر نادر في اتهام عسران بأنه حاول قتله، ولم يكن الأمر سيمر أبدًا، وكان أمام ذلك الخطأ أرواح الكثير من الشباب، والوقوع فى الكثير من المشاكل.
وقف الحج سلمان، وتوجه إلى نادر الذى يقف أمام النافذة الكبيرة ينظر إلى السماء بصمت: نادر يا ولدى.
نظر إليه نادر بصمت ليقول سلمان: يا ولدى أنا كنت عايز أسألك
و صمت لثوانِ لا يعلم ماذا يقول و كيف أعتدل نادر ينظر إليه بتركيز ليرفع الرجل عيونه إليه وقال: أقصد يعنى، كنت عايز أ
اطمن على بنتى معاك، أنا … أنا يا ولدي عارف المشاكل و … اللي .. إللى عمله عسران......
رفع نادر يديه يوقف سيل كلماته الصعب خروجها من فم الحج سلمان وقال بهدوء: هو حضرتك شايفني ايه؟ كمان انت نسيت اني جتلك من سنتين، وطلبت ضحى منك وعسران طردني.
صمت لثوانِ ليرى تغير وجه الرجل من الخوف لعدم الفهم، و التذكر ليكمل نادر بنفس الهدوء: انا عايز ضحى حقيقي، وكمان عايز المشاكل، والتار يخلص، بس يا ريت انتوا كمان تبقوا عايزين ده.
اخفض الرجل رأسه بخزي، وظل الصمت سيد الموقف لعدة ثوانِ ثم قال سلمان: عسران مش جابل أي صلح، انت خابر يا ولدى لو هو كان حاضر دلوك، ولا كان وافج، ولا جِبل بكل ديه، ويمكن كان فرغ سلاحه فى صدرك جِدام الظابط.
قطب نادر حاجبيه بغضب وضيق،
وقال بصوت عالى نسبيًا: وليه الحقد والغل ده كله ؟
لم يستطع الجح سلمان الرد على سؤال نادر، وانقذه من ذلك قدوم الطبيب، واخبرهم أن ضحى قد استعادت وعيها.
أقترب نادر من أذن الحج سلمان وقال: انا هدخل لها الاول، علشان الظابط مهران عايز ياخذ اقوالها وانت فاهم بقا يا حج.
ظل الحج سلمان ينظر إليه لعدة ثوانِ ثم أومئ بنعم، ليتحرك نادر سريعًا متوجهًا إلى غرفتها، الآن سيفهم كل شىء.
~~~~~~~~~~~~~
كانت تنظر إلى سقف الغرفة والدموع تغرق عينيها، ولسانها لم يتوقف عن قول الحمد لله، لقد انقذت نادر من الموت وكفرت عن خطئه، وخيانتها له التي أجبرت عليها
أدارت رأسها إلى جهة اليمين حين سمعت صوت الباب يفتح لتنهمر تلك الدموع الحبيسة وهى ترى تلك النظرة فى عينيه، ترى اللوم بدل الحب، والصدمة بدل من الخوف.
أغلق الباب واقترب منها وجلس مباشرة على الكرسي الموجود جوار السرير صامت ينظر إليها بتفحص
من داخله يتلوى ألما وهو يراها بذلك الشكل، وذلك القطن يغطى كتفها ووجهها شاحب والدموع تسيل فوق وجنتيها،
أخذ نفس عميق ثم قال: أنا عايز أفهم كل حاجة، بس الأول، لازم تعرفي ان انا خطبتك من ابوكِ، وهجيب المأذون دلوقتى، بس طبعًا بعد ما الظابط مهران ياخد اقوالك.
كانت تنظر إليه من بين دموعها، وعيونها تسأله ان ترى لهفة خوف وحب، ولكنه ظل ثابت، ووجهه خالي من أي تعابير،
ظل الصمت يخيم عليهم لعدة ثوانِ حتى شهقت بصوت عالي بسبب كتمانها لأنفاسها، وبكائها
ليخفض عينيه، وينظر أرضًا، وقال بعد نفس عميق واخرجه ببطئ: عايز افهم يا ضحى إزاي خونتيني ؟
اغمضت عيونها لثوانِ، ثم قالت بصوت واهن: من آخر مرة جيت علشان تخطبني عسران كان بيعاملني بشكل مختلف، من وقت للتاني يجيلي أوضتي، ويطمن عليا يديني فلوس، ويقول روحى اشتري لبس جديد، كنت مستغربه كل ده ومش فهماه، بس كنت فرحانه بيه وفرحانه ان اخويا بدء يتغير، وبطل يتعامل معايا بعنف وعصبي، وفى يوم طلب تليفوني يعمل منه مكالمه ضرورية علشان تليفونه مقفول، اديته التليفون وبعد شوية دخل عليا الأوضة وفضل يضرب فيا، ويقول بتجبيلنا العار، وطبعًا انت عارف بابا لا منعه، ولا ادخل اصلاً، صمتت لثوانى وكان هو ينظر إليها بهدوء رغم ألم قلبه عليها، مسحت الدموع من فوق وجنتيها بيدها السليمة واكملت حديثها: بعدها بكام يوم، طلب منى انفذ من غير كلام اللي هيقوله بعتلك اول رسالة اطلب منك انك ترجع بسرعة كان غصب عني والرسايل اللي بعدها، وكلامنا فى التليفون كان بيكون واقف جمبي، حسيت انه ناوى يغدر بيك كان غصب عنِ كنت بنفذ كلامه، بس بدأت اخد بالى من كل تصرفاته، ولما فهمت هو ناوي يعمل ايه قررت اني ابعد شره عنك، ولو كان فيها حياتي.
اغمضت عيونها بقوة وقالت بألم: و كده اكون كفرت عن غلطي في حقك، ولو مت ابقا ارتحت من قلم الفراق، والعذاب اللي انا عايشه فيه طول عمرى.
صمتت واغلقت عينيها بقوة، والدموع تسيل فوق وجنتيها
ابتسم هو ابتسامة صغيرة، واقترب منها بهدوء، وهمس بجانب اذنها: افتحى عيونك.
فتحت عيونها تنظر إليه والدموع تغشى رؤيتها ظل ينظر إليها بحب، ثم قال بأمر: الظابط هيدخلك دلوقتى كل اللي تقوليه معرفش أي سؤال يسأله ليكِ تقولي معرفش، ولو سألك عليا تقولي له خطيبي وبس مفهوم؟
اشارت بنعم ليبتسم إبتسامة مشاغبة، وهو يعتدل واقفًا،
وقال: وبعد الظابط ما يمشى هنكتب الكتاب، ووقتها لينا كلام كتير سوا.
****************

أبيه بعض التوتر، والتوسل وأيضًا الغربة، يشعر أن لأول مرة ينظر إليه يشعر أنه شخص غريب عليه لم يراه من قبل.
" اه على كسرة عين كان الأمان سببها
لوعة بين بِرك، وعتابك،
فغدوت بين الحلال، والحرام غريق،
فما تركت لي حل غير الهجران بالمعروف،
يا من أوصاني الله ببرك وما لي إلا التنفيذ."
أقترب كساب عدة خطوات ليتراجع داغر تلك الخطوات إلى الخلف ليقف كساب مكانه فى صدمه وقال: قالك إيه علشان يشوه صورتي عندك يا ابنى ؟
قطب داغر حاجبيه بغضب واقترب خطوة وقال من بين أسنانه
داغر : قالى حقيقتك، قالى ان ابويا المثل الأعلى القدوة كان شغله كله شغل شمال، وضرب تحت الحزام، وخيانة وقرف، وقال ليا على كل حاجه يا كساب بيه كل حاجه.
صمت كساب أمام هجوم داغر، واهتزت حدقتيه بتوتر، ليكمل داغر كلماته: وكل ذنوبك فى كوم وان انت كنت سبب في اللي حصل لرؤيا في كوم، وهيبقي فى كوم ثالث لما اعرف حقيقة قصة أمى؟
ليتراجع كساب عدة خطوات للخلف بصدمه قوية، وعيونه جاحظه برعب ليقترب داغر، وهو يقول بغضب مكتوم: أنا عايز الحقيقة كاملة، لاني مش هسمح اني اسمع غيرها، ومش صعب أعرفها.
تهاوى جسد كساب على الكرسي الموجود خلفه، وهو ينظر إلى ولده بانكسار، والخسارة ترتسم أمام عينيه، ولا أمل في الهروب الآن، أغمض عينيه لثوانِ، ثم فتحهم ينظر أرضًا، وبدء فى سرد كل ما حدث قديمًا،
وكان داغر يستمع لكلماته، وهو يتلوى ألما على أم حرم منها طوال حياته، وكره سكن قلبه دون سبب، وحياة بائسة عاشها بسبب أنانية أب مريض بحب التملك، وحب المال.
لم يستطع داغر أن ينطق بحرف بعد أن طال صمت والده، وبعد أن علم كل الحقيقة، وعلم أن والدته بريئة من خيانة نسبت إليها دون سبب، كيف تتحول صورة أمه الذى عاش طوال حياته يراها سوداء؟ ويذوب عشقًا فى بياض صورة والده، لينقلب الأمر الآن وتتحول الأدوار وتتبدل، كيف يصبح ما عاش عليه طوال حياته باطلاً؟ وحبه ذهب إلى الشخص الخطأ، أغمض داغر عينيه يحاول أن لا يسمح لتلك الدمعة التى تحرق عينيه، وتريد مغادرتها أن تغادرها، ثم قال: أنا عايز عنوان أمى، ومن فضلك ابعد عني انا .... انا

قاطعه كساب بسؤاله بصوته المختنق: كرهتني يا ابنى؟
ليقول داغر بصوت عالي: انت ملكش حق انك تتكلم، ولا تسأل السؤال ده، بلاش تخليني أقول كلام يجرحنا احنا الاتنين، للآسف انت ابويا، ولو على اللي نفسى اقوله واعمله فأنا ممكن.....
لم يكمل كلماته، لم يستطع فرغم كل أخطاء، ومساوئ من يقف أمامه إلا أنه والده، لم يعتاد يومًا على أن يتحدث معه بتلك الطريقة، ولكن عيونه الجاحظة بحمره شديدة، والغضب الواضح بهم، وعروق وجهه النافرة، وارتعاشه يديه أخبرت والده بكل شىء، كتبت سطور النهاية، علم أنه خسر ابنه، وإلى الأبد لقد سقط قناع الأخلاق وأخطاء الماضي وذنوبه يعلم جيدًا أنه لا يستحق المغفرة، ويستحق كل ما يحدث معه، لقد حان دفع ثمن أخطائه و أنانيتك، حان وقت رد الحقوق لأصحابها ولا أمل له فى صفح يومًا، تحرك خطوتان حتى يرحل فلم يعد له مكان هنا ليوقفه صوت داغر من جديد: أوصل لأمي إزاي ؟
نظر إليه كساب بعيون تمتلئ بالدموع وأخرج من جيب بنطاله محفظته، وفتحها، وأخرج منها بطاقة صغيرة،
وهو يقول: دى أرقام تليفونات وعنوان جوزها.
مد داغر يده يأخذ البطاقة وظل ينظر إليها بأحاسيس مختلفة بين صدمة، وخوف، وشوق، ولهفه واحساس كبير بالغربة،
رحل كساب فلم يعد له مكان الآن جوار ولده، لقد حرمه طوال حياته من والدته وحرمها منه، وحانت اللحظة التي يُحرم فيها منه فكما تدين تدان، ومن ظَلم يُظلم، ولو بعد حين.
*******************
وصل الأصدقاء الثلاثة إلى بناية سياف،
حمل داغر رؤيا من جديد، وحمل سياف، وجرير الحقائب، وعند المصعد كانت الصدمة حين وجدوا كساب يقف عند باب المصعد ينتظرهم، ويبدوا عليه الإرهاق والتعب ينظر إلى ابنه برجاء، و توسل ليقترب جرير منه، وقال بمزحه المعتاد: أهلًا يا عمو أزي حضرتك، مبروك جواز داغر.
لتنزل تلك الكلمات كالصاعقة على كساب الذى انتبه لما يحمل ابنه بين يديه، ثم رفع عيونه ينظر إلى عيون ابنه الجامدة، والغاضبة أيضًا، شعر سياف بشحنات التوتر التى ملئت الأجواء بعد كلمة جرير الغير مقصودة،
ليقول هو فى محاوله لتلطيف الأجواء: خلونا نطلع فوق بدل وقفه السلم دى الشنط تقيله.
ألتزم جرير الصمت لإحساسه أنه جعل الأمر سيئ أكثر من اللازم بين داغر، ووالده، تحرك سياف يفتح باب المصعد وأشار لكساب أن يدلف إليه، ظل الرجل ثابت النظرات على ولده لعدة ثوانِ، ثم دلف إلى المصعد، وخلفه سياف وجرير، ثم داغر الذى قال لجرير على رقم الدور الخاص بشقته الجديدة.
كان كساب عيونه ثابته على ظهر ولده وعقله يحاول أن يجد مخرج لكل ما يحدث، وحدث، وكيف سيبرر لداغر كل ما حدث لتلك الفتاة؟ كيف يغلق أبواب الماضي من جديد، ويعيد ثقة ولده فيه من جديد؟
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي