الفصل الثاني عشر

الفصل الثاني عشر


وصل المصعد إلى الدور المطلوب فتح الباب وخرج داغر، وخلفه أصدقائه ووالده، وتوجه سياف إلى باب الشقه وفتحه، وأشعل المصابيح ليدخل داغر سريعًا إلى إحدى الغرف، ووضع رؤيا على السرير برفق ودثرها جيدًا فى نفس اللحظة التي وضع فيها جرير الحقائب على باب الغرفة، وعاد سريعاً إلى الصالة التى يقف فيها كساب وسياف الذى يبدوا على ملامحه القلق، خرج داغر من الغرفة، وأغلق الباب، واقترب من مكان وقوف الجميع يضع يديه فى جيب بنطاله بصمت ليقول سياف كاسر ذلك الصمت المشحون بالتوتر: نستأذن احنا يا عمى، ثم نظر إلى داغر وقال: احنا في شقتي فوق لو احتجت حاجة.
ثم ربت على كتفه وغادر ليظل جرير، واقف لعدة ثوانِ حتى أتاه صوت سياف العالي: يلا يا جرير.
ليتحرك من فوره دون كلمة واحده.
******************
ظل الصمت سيد الموقف لعدة دقائق، صمت مشحون بالتوتر، والقلق والخوف، صمت يحمل الكثير فى طياته، صمت مؤلم لكليهما، كساب يرى فى عيون ابنه أنه قد خسره، ويرى داغر فى عيون .
************************
يجلس على كرسيه فى شرفة غرفته بعد أن رحل جرير، عقله سارح بها لقد أشتاق لها حقًا، صحيح هو يوم واحد فقط الذى لم يراها فيه، وأيضًا لم يذهب إلى المقهى، لكنه يشعر به سنوات طوال عجاف، نظر إلى ساعة يده ليبتسم ما زال هناك وقت يستطيع الاتصال بها، أمسك هاتفه واتصل بها، وضعه فوق أذنه يستمع إلى صوت الرنين الذى يسمع صداه داخل قلبه من كثرة التوتر، والقلق، وحين وصله صوتها توقف الزمان، وتغير الهواء من حوله اغمض عينيه حين وصله صمتها من جديد.
نورسين : باشمهندس سياف!
- عامله ايه يا آنسة نورسين؟
قالها مباشرة، ومرت تلك الثواني القليلة عليه حتى وصله صوتها من جديد طويلة، ومؤلمه لقلبه: الحمد لله انا كويسه، وحضرتك؟
أبتسم إبتسامة صغيرة وقال: حضرتي كويس، والكافية وحشني جدًا.
صمتت فلم تجد ما تقوله على كلماته التي شعرت أن لها معنى آخر، غير ما تبدوا ليكمل هو كلماته:
- آسف اني سبت مسؤولية الكافية ليكِ النهاردة، بس جرير قال إنك كنتى قدها وقدود.
نورسين : ده واجبى يا باشمهندس.
أجابته سريعًا ليبتسم، إن قلبه يشعر بالسعادة حين يستمع إلى صوتها أخذ نفس عميق، واخرجه بهدوء، ثم قال: طيب يا آنسه نورسين إن شاء الله أشوفك بكره بإذن الله، سلام
نورسين : سلام.
وأغلق الهاتف ووقف ينظر إلى مياه النيل الصافية التي تلمع كنجوم السماء الصافية، ولكنه تلك المرة كان يرى وجهها يرتسم على سفح النيل تنظر إليه بنظرتها التى تخبره بأشياء كثيرة لا يستطيع فهما أو حتى التخمين!
~~~~~~~~~~~~~~~
وصل جرير إلى بيته ومباشرة إلى غرفة والده الذى كان يجلس على الأريكة وبين يديه احدى كتبه المفضلة وحين شعر بابنه يقف عند الباب رفع عيونه إليه بابتسامة حانيه ليقترب جرير منه و جلس بجانبه ليربت إحسان على قدم ولده،
وقال بحنان أبوي: مالك يا ابني؟
أعتدل جرير وتمدد على الأريكة، ووضع رأسه على قدم والده و بدء يقص عليه بعض الأشياء التى حدثت معه، ومع أصدقائه خلال فترة غيابه ليربت إحسان على خصلات شعر ولده،
وهو يقول: إياك والاكتساء بمن لا يعرف معنى الاحتواء فيمنحك التعري، وإياك والاتكاء على من لا يعي معنى السند فيهديك السقوط، وإياك والارتواء بمعسول الكلمات حتى لا تظمأ، وإياك وأحلام الوعود، حتى لا تجزع، كن معتدلاً، لكي تسعد.
رفع جرير عيونه لوالده بابتسامة صغيرة،
ليكمل إحسان كلماته: لكل واحد فينا قدر، ونصيب، لكل واحد فينا قصة لازم يعيشها بكل تفاصيلها، ربت على كتف ولده،
وقال بتشجيع: متخافش على اصحابك ، كل واحد فيهم قادر على قصته، وعلى مواجهة قدره، وكمان مين يقدر على ثلاث اصحاب فى ظهر بعض، وكتفهم فى كتف بعض، اطمن.
ليمسك جرير يد والده وقبلها باحترام،
وهو يقول بصدق: مش برتاح غير لما اسمع كلامك، ربنا يبارك ليا فى عمرك يا رب.
الأب : ويبارك ليا فيك يا حبيبى.
أعتدل جرير من جديد واغمض عينيه، وظل إحسان يمرر يديه فى خصلات شعر ولده وبدء فى تلاوة آيات الرقية الشرعية ليغرق جرير في نوم عميق، ومريح.
**************************

ظل داغر جالس فى صالة منزله الجديد بعد مغادرة والده ينظر إلى تلك البطاقة فى يديه، والدموع تتجمع فى عيونه، والحيرة تضرب أبواب عقله بقوة، ماذا عليه أن يفعل الآن؟! هل عليه الذهاب إليها؟ هل ستتقبله؟ وبدأت أسئلة كثيرة تتوارد إلى ذهنه، أين كانت؟ و لما تركته؟، ولماذا لم تأتى إليه يومًا؟ لماذا؟!
أنتبه من أفكاره على صوت غريب ليتذكرها،
توجه سريعًا إلى غرفتها وفتح الباب ليجدها تجلس أرضًا فى إحدى أركان الغرفة تبكى، وتزوم ناداها برفق لتصمت تمامًا، وهى تنظر إليه بعيونها الباكيه ليقترب منها برفق، وجثى على ركبتيه أمامها و هو يقول برفق: متخافيش.
هدأت أنفاسها المتسارعة، وهدأت حده نظراتها ليبتسم لها ابتسامة صغيرة وقال: أكيد جعانه مش كده؟
لم تتكلم، ولكنها رمشت عدة مرات بعيونها ليمد يديه لها ليرتعش جسدها قليلًا ليعيد يديه لمكانها، وقال: أنا بس عايز اساعدك تقفى، متخافيش منى يا رؤيا، انتِ معايا في أمان.
لانت نظراتها أكثر وارتسم بها الحزن، ولكنها رفعت يدها له ليمسك بها مع ابتسامة مطمئنه سارت جواره بجسد يرتعش رغم أنه لم يكن يلمس جسدها بأي شكل إلا انه كان يشعر بها، وذلك ألم قلبه بشده، وعقله ينبئه أنها فى حاجة للمساعدة النفسية، وأيضًا يريد أن يفهم سبب هدؤها؟ واحساسها بالأمان جواره.
غادرا الغرفة واجلسها على إحدى كراسي طاولة الطعام وقال برفق: ثوانى بس اجيب الأكل من المطبخ وأجي على طول.
أومئت بنعم ليغادر سريعًا وعاد بعد عدة ثوانِ ليجد عيونها ثابته فى الفراغ … سارحه فى أمر ما لا يعلمه، أصدر صوت حتى ينبهها لوجوده لتلتفت إليه ببعض التوتر، والقلق، ووقفت سريعًا لتعود إلى الغرفة واغلقت الباب ظل واقف فى مكانه لا يفهم سبب ما حدث، و لكن ذلك نبهه أن القادم لن يكون سهلًا أبدًا.
~~~~~~~~~~~~~~~~~~
بعد انتهاء الضابط مهران من اخذ أقوال ضحى تم عقد قرانها على نادر الذى جلس بعد انتهاء الشيخ من إتمام زواجهم مع والدها،
وقال: إن شاء الله لما ضحى تشد حيلها أنا هاخدها معايا واسافر،
نظر سلمان لولده حليم ثم أبو العينين وعاد بنظره إلى نادر وهو يقول: يعنى يا ولدى من غير فرح، ولا زفه، ولا أي حاجة بنتى الوحيدة تتجوز سكيتي اكده.
نظر نادر إلى ضحى التى لا تنظر إليهم من الأساس؛ ثم عاد ينظر إلى والدها وقال: مين قال كده، بس أنا مش هينفع أفضل هنا أكتر من أسبوع، يعنى معاكم ٦ أيام من دلوقتى تجهزوا لفرح بنتكم، و هاخدها وانزل على العاصمة على طول.
أبتسم سلمان وقال بحبور: عداك العيب يا ولدي ، واحنا هنجهز كل حاچه.
ليقول أبو العينين مقاطع كلمات سلمان: ولدي يقصد تجهزوا العروسة، لكن الفرح على العريس يا أبو العروسة دى الأصول.
ليخفض سلمان رأسه بخجل وقال: طول عمركم تعرفوا الأصول يا أبو العينين، لكن نادر عمل معانا واجب كبير وكنا عايزين نجمله.
وقف نادر وقال باحترام، لكن أيضًا بثقة: مفيش واجبات، ولا جمايل بينا احنا بقينا عيله، وضحى ست العرايس وتستاهل يتعملها فرح متعملش لحد قبلها.
فى تلك اللحظة نظرت إليه بعيون باكيه ليبتسم لها بحب وأكمل كلماته قائلًا: وكمان أنا مش عايز ليها جهاز، أنا متكفل بكل حاجة ومهرها هيكون بين إيدها يوم الفرح.
كانت عيونها تحكى أساطير حبها له، وعشقها الغير مشروط الذي جعلها على استعداد لتموت من أجله وعيونه التى تبادلها نفس العشق بعشق مماثل عشق مستعد لمواجهة الموت، ومواجهة عسران أيضًا فى مواجهة أخيرة، واجبه حتى يأخذ منه حق حبيبته وحق دمائها.
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~


فى صباح اليوم التالي استيقظ سياف فى موعده المعتاد، وعاد لطقوسه اليومية، كوب القهوة مع أول خطوط النهار فى شرفة غرفته مع الموسيقى التي يفضلها، والاستمتاع بأول أشعة الشمس على سفح مياه النيل إن اليوم بالنسبة له يوم مميز، سوف يراها لقد أشتاق لها بالفعل، وكأنه لم يراها منذ سنوات، لا يعلم لماذا يشعر أن هناك شىء مشترك بينهم؟! لا يعلم لما يوجد جزء كبير يفتقده حين تكون أمامه؟! وكأنها مفتاح أبواب الماضي الذي فقد بعض منها بعد أن استيقظ من غيبوبته، أخذ نفس عميق بعد أن انتهي من شرب قهوته، ووقف على قدميه ليدلف إلى غرفته وقف أمام خزانته يبحث عن طقم مميز، لا يعلم لِما اليوم يريد أن يكون شديد الجاذبية؟! لا يعلم لما حدثه يخبره أن اليوم سيكون يوم مميز في حياته؟! لا يعلم لماذا اليوم يريد أن يكون بهيئة خاطفه للأنفاس؟!
أخرج بنطال أسود وقميص رمادي وجاكيت صيفي رمادي اللون، ووضع عطره المميز، وساعة يده حذائه الأسود وشعره الأسود أعاده للخلف بشكل جذاب.

تراجع عده خطوات للخلف يتأكد من هيئته بالكامل؛ ثم أخذ مفاتيح سيارته وغادر شقته، وهو يرسل رساله صوتيه إلى داغر: أنا نازل الكافية، لو احتجتني في أي وقت كلمني ثواني وهكون عندك.
يعلم أن صديقه نائم، لكنه أراد أن يقول انه بجواره دائمًا، ولكن ما صدمه هو رد داغر عليه بعد عدة ثوانِ برساله صوتية: أنا عايز واحدة أمينة تنظف البيت، وتاخد بالها من رؤيا، وكمان عايز دكتور نفسى كويس، وكمان عايزك فى موضوع مهم عدى عليا بالليل وانت راجع.
سياف: حاضر هشوفلك حد آمين، بس حوار الدكتور ده تخصص جرير.
أجابه برساله صوتية أخرى ليجيبه داغر: طيب كلمه، بس بسرعة رؤيا محتاجه مساعده وتدخل طبى بشكل سريع.
سياف: حاضر يا داغر متقلقش.
أجابه مطمئناً، ثم اتصل على جرير الذى أجابه بعد عدة ثوانِ قائلًا: شايفني في الحلم، استر يا رب.
ليضحك سياف بصوت عالي جرير رغم أنه شخص ذو ثقة، و رجل حقيقي يستطيع الاعتماد عليه إلا أنه الوحيد القادر على إضحاكه في أي وقت.
سياف: لا يا ظريف مش شايفك فى الحلم، بس داغر عايزك في خدمة.
جرير: وهو مكسوف يكلمني مثلاً؟
قال جرير ببعض السخرية ليقول سياف بجدية: عايز دكتور نفسي لمراته.
صمت جرير تمامًا ولم يعقب بكلمه لعدة ثوانِ، ليكمل سياف كلماته: انت الوحيد اللي ممكن تساعده في الموضوع ده بس هو عايز الموضوع بسرعة.
جرير: هبعتله رقم الدكتورة دلوقتي، وعنوانها، ربنا يطمنه عليها، أنا حاسس بيه وفاهم حالته.
كان الدور على سياف ليصمت، لقد شهد على معاناة جرير مع أروى بعد الحادث، ويعلم جيدًا كم الإرهاق والتعب النفسي الذي عاش فيه حتى تعود أروى لطبيعتها من جدي، وتستطيع تقبل كل ما حدث لها.

أغلق الهاتف ونظر إلى المقهى بابتسامة شوق انه يعشق ذلك المكان حقًا، أكثر الأماكن التي يشعر فيها بالانتماء وأيضًا الراحة.
ترجل من السيارة ودلف إلى المقهى ليستقبله العمال بسعادة و ابتسامة واسعة، وكأنه لم يغب ليوم واحد فقط بل لسنوات طويلة.
توجه إلى طاولته الخاصة وجلس فى مكانه المعتاد عيونه تتفقد كل ركن فى ذلك المكان الذى رسمه بروحه وقلبه قبل أن يكون حقيقة ملموسة.
وضع فهمى القهوة أمام سياف وهو يقول: نورت مكانك يا باشمهندس ووحشتنا جدًا.
- شكرًا يا فهمى.
أجابه سياف بابتسامة ودوده وبدأ فى قراءة أحد الكتب مع كوب قهوته، وكل دقيقة، وأخرى ينظر إلى باب المقهى رغم أن الوقت ما زال باكراً على موعدها
*********************
وقفت أمامها و هى مبتسمه و قالت بسعادة: أيه رأيك نخرج أنا و انتِ خروجه حلوة؟
لم تتلقى أي رد، لتتحرك إلى الخزانة وأخرجت لها ملابسها المفضلة وقالت: يلا يا حلوة بلاش كسل، عندى ليكى مفاجأة حلوة قوي.
أيضًا لم تتلقى أي رد أو حتى رفة جفن، لكنها لن تتراجع، تعلم أنه من الصعب إحضاره إلى هنا، إذاً لتأخذها له.
وبدأت فى تبديل ملابسها وحملتها برفق لتجلسها على الكرسي المدولب وأخذت نفس عميق وهي تقول: يلا بينا، وربنا يستر
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي