الفصل السابع

الفصل السابع
جلس أمام سياف وهو يقول:
- أنا شوفت حاجات النهاردة عمري فى حياتي ما كنت أتخيل أنها موجوده!
ظل سياف صامت لعدة ثوانِ ثم أخذ نفس عميق وأراح ذراعيه فوق الطاولة وهو يقول ببعض الضيق: الدنيا دى فيها كتير قووي يا جرير، فيها اللي أغرب من الخيال، واللي لا يمكن يخطر على بال حد، واللي حصل النهاردة ده ممكن يكون من أبسط الحاجات البشعة الموجودة.
كان يستمع إليه وهو يفكر، أنه نشأ داخل قوقعه مغلفه بالأدب و الأخلاق وتعاليم الدين، من الله عليه وعلى أصدقائه بعائلة تهتم بأولادها، وفرت لهم كل سبل الحياة الكريمة، أرشدت وزرعت بداخلهم أوامر الله، وتعليم رسوله الكريم.
لكنه كل يوم داخل هذا المقهى يرى، ويتعلم ما لم يخطر على باله يومًا.
وقبل أن يعقب على كلمات سياف جلس داغر بوجه غير مفسر جعل الصديقين يتحفزون لما هو قادم و من الواضح أنه ليس بهين.
*********************
أشار سياف لتوبه أن يحضر كوب من العصير فوجه صديقه شاحب بشدة ويبدوا عليه علامات الصدمة، وكان جرير ينظر إلى وجه داغر الغير مفسر المعالم وهو يفكر أن الليلة ترفض أن تنتهي على خير، وما زالت تحمل بين طياتها الكثير من المفاجأت، والصدمات.
اقترب منه ووضع كوب العصير أمام داغر، وغادر بصمت
ظل كل من سياف وجرير صامتان ينظران إلى داغر باهتمام و ترقب وكان هو غارق فى أفكاره وصدمته.
مرت عدة دقائق فى هذا الصمت، والقلق بداخلهم يزداد خاصة مع ثبات نظرات داغر وحركه جانب فكه التى تدل على أنه يكتم غضبه وبشق الأنفس.
نظر سياف إلى جرير بنظرة استفهام ليرفع جرير كتفيه بلا اعلم،
ليهمس سياف منادياً: داغر؟
لم يلتفت داغر أو يبدوا عليه أنه أستمع إليه ليعيدها مرة أخرى لينظر إليه داغر بغضب ينطق من عينيه، وكأنه يود لو ينقض عليه الآن ويقطعه بأسنانه.
عاد الصمت يخيم على ثلاثتهم حتى، قال داغر بعد مرور أكثر من نصف ساعة: عرفت سر بنت منتصر.
انتبه الصديقان جيدًا، وظهر الاهتمام فى عيونهم، واعتدالهم في جلستهم، ليكمل هو بعد أن اغمض عينيه بألم: وياريتني ما عرفت.
نظر كل من سياف وجرير لبعضهم بعضًا بقلق ليقول جرير بهدوء قدر استطاعته: قادر تحكي ؟ احنا سمعينك.
نظر إليه داغر بعيون شديدة الحمرة وتتجمع بها الدموع مما جعل الصديقين يشعرون بالرعب حقًا، داغر صاحب القلب المتحجر الذى لا يرى أي أمرأه أكثر من حيوان شره ناطق يبكي من أجل فتاة سمع عنها منذ يومين فقط.
وضع سياف يده على كتف صديقه، وربت ببعض القوة،
وهو يقول: خرج اللي جواك يا صاحبى احنا معاك وجنبك.
غادرت تلك الدمعة الحبيسة عينيه ليضع رأسه بين كفيه يختبئ من عيون أصدقائه الزاهلة والمصدومة،
ظل الموقف ثابت لعدة لحظات صعبة حتى قال: انا اكتشفت النهاردة، اكتشفت ظلم اكتشفت أن في من جنسنا مجرد حيوانات اكتشفت أن مش بس الستات زى الحيوانات، فى مننا أشباه رجال بتحركهم الغريزة مجرد كلاب.
نظر الصديقين إلى بعضهم بقلق وتحفز، ثم عادا بتركيزهم إلى داغر الذى أكمل كلماته: النهاردة اكتشفت اني كنت عايش جوه كذبه كبيرة، كبيرة قوي، اكتشفت حقائق مكنتش اتخيلها النهاردة، انا عرفت اني كنت ظالم، ووقفت جمب الظالم لسنين طويله.
كلماته المبهمة، حالته المزرية، عيونه شديدة الحمرة بدموع حبيسة كل ذلك، ينذر بأن هناك كارثة كبيرة على وشك الحدوث.
كسر ذلك الصمت الشائك صوت رنين هاتف داغر، وأضاءت شاشته باسم والده ظل ينظر إلى الاسم، وعيونه تشتد غضبًا ليمسك جرير الهاتف،
وقال وهو يقف مبتعدًا: هرد عليه واقوله انك هتبات عند سياف علشان تعبان.
وابتعد سريعًا لتنحدر تلك الدمعة الحبيسة، وخلفها دمعة أخرى و أخرى ليشعر سياف بالصدمه كذلك الذى عاد بعد أن أغلق الهاتف مع والد داغر، وهم يرون صاحب القلب الصوان يبكى بقهر، يبكي من أجل فتاة.
************************
كان يجلس على طرف سريره يستند بمرفقيه فوق ركبتيه ويخفض رأسه بأسى
ها هى أبواب الماضي فتحت على مصراعيها،
كل ما كان يخبئه ويعتقد نفسه قد تخلص منه إلى الأبد، وكل ما حاول طوال حياته أن يخفيه عن العالم أجمع وعن داغر خاصة كشف اليوم وحانت لحظة الحساب لحظة الحقيقة الوحيدة الذى خبئها طويلًا ظنًا منه أنه قادر على الاستمرار في الخداع،
تذكر حين أتصل به منتصر كان يجلس فى مكتبه يمسك بذلك الألبوم الكبير الذى يخبئه بحرص شديد،
ذلك الألبوم الذى يجمع صوره بصورها، حبيبته الوحيدة، العشق الأول والأخير الذى قتله بيده: اخذ تلك الصورة التى كانت تضحك بها بسعادة كبيرة، وهى تمسك بين ذراعيها ابنهم ثمرة حبهم لسنوات طويلة.
لكن ماذا يفعل فى غيرته؟ التى بسببها جعلها تترك عملها واخذها و سافر إلى بلد بعيدة حتى تبتعد عن كل صديقاتها واقاربها، وضعها بداخل قفص ذهبي مغلف بستائر حريريه، لكنها مليئة بالأشواك و استسلمت هي لكل هذا لسنوات طويلة بسبب حبها له، وأيضًا من أجل داغر، ولكنه لم يكتفى وكان لا يترك لها أي مجال للتنفس خارج ذلك القفص الذى أصبح يطبق على أنفاسها حتى كادت أن تختنق، لذلك حين وجدت المهرب من كل ذلك خرجت من ذلك القفص ولم تعود، بل عادت إلى أهلها وساعدها أبن عمها فى الحصول على الطلاق لكنه أستطاع أن يجبرها على التنازل عن إبنها وأخبرها وبأسواء الطرق إذا علم داغر بوجودها ستكون العواقب وخيمة،
ومنذ ذلك الوقت لا يعلم عنها شىء خاصة بعد زواجها من ابن عمها، وسفرهم لخارج البلاد.
وفى ذلك الوقت ورده أتصال منتصر ليخبره بما حدث، وما عرفه داغر، أعتدل فى جلسته ينظر إلى الفراغ بعيون كسيره تحمل الكثير من الخوف والقلق الذى يصل حد الرعب إبنه يرفض أن يجيب على اتصاله، يتهرب من لقائه، لقد بدأت الخسائر والقادم أعظم
كل هذا فقط، وقد علم بخطئه الصغير، الذى لم يكن له دخل مباشر به، ولكن ما هو رد فعله أذا علم بحقيقة والدته وطهرها، وعفتها الذى قد شوهها؟ وجعله بسبب تلك القصة كارهاً للنساء، والزواج؟
************************
لم يستطع داغر أن يتحدث فى أي شىء، خارت قوة جسده ليقرر الصديقان الذهاب إلى بيت سياف، جلس داغر فى الكرسي الخلفي فى سيارة سياف وجلس جرير فى الكرسي المجاور للسائق
الصمت كان سيد الموقف، ولكن العيون تحكى قلق وخوف وعدم فهم و توقع الأسوء.
وبالخلف كان داغر يخبئ وجهه بين الكرسي والنافذة حتى لا يرى أصدقائه دموعه التى تحرقه ، وتذبح قلبه.
وصلا بيت سياف الذى قال موجهه كلماته لداغر: هجبلك حاجه تلبسها، نام وبكره نتكلم.
أومئ داغر بصمت، وتحرك إلى الغرفة الذى كان يبيت فيها أحيانًا حين كانوا يقضون بعض أيام مع سياف بعد خروجه من المشفى
كان جرير يتابع كل ذلك بصمت، فالموقف لا يتحمل الكثير من الكلام، أعطى سياف الملابس لداغر، وظل واقف أمامه بصمت لا يعلم ماذا عليه أن يقول؟
لينظر إليه داغر بعيون حزينة وقال: مش محتاج تقول حاجه دلوقتى يا سياف، بكره احكيلكم كل حاجة، لاني محتاج مساعدتكم أنا حاسس اني متكتف، ومش عارف أعمل ايه؟
ربت سياف على كتف صديقه بدعم، وقال بصدق: واحنا معاك وفى ظهرك.
- عارف يا صاحبى، عارف.
ربت سياف على كتفه مرة أخرى، ثم غادر وأغلق الباب خلفه ليسأله جرير بعينيه ليرفع كتفيه بقلة حيله، ولكنه قال بهدوء: تعالى نعمل قهوة، ونقعد فى البلكونة نتكلم.
وتوجها سويًا إلى المطبخ أعد سياف كوبين من القهوة
وتوجهوا إلى الشرفة، وهناك كان الصمت صديقهم الثالث
لا يستطيعون تخيل ما أكتشفه عن تلك الفتاه إبنة منتصر، ولا يستطيعوا تفسير معنى حديثه عن الظلم،
نظر جرير إلى سياف وقال بحيره: تفتكر أيه إللى حصل معاه ؟ وتفتكر هيبقي كويس ؟
ظل سياف صامت ينظر إلى السماء التى تلمع بالنجوم،
وقال بهدوء: بكره هانفهم كل حاجه، واكيد هندعمه، وهنقف جمبه ونساعده على قد ما نقدر.
أومئ جرير بنعم وهو يضع كوب قهوته على الطاولة،
ووقف قائلًا: أنا هدخل أنام علشان أكون فايق الصبح، وبكامل تركيزي.
أومئ سياف بنعم ليغادر جرير، ومن بعده بعدة دقائق ذهب سياف أيضًا للنوم.
*******************
وصل نادر إلى بلدته مع أول شعاع للضوء توجه مباشرة إلى مكانهم المعهود فهو لا يستطيع الذهاب إلى بيت العائلة دون أن يفهم كل ما حدث؟
جلس بداخل ذلك الكوخ الصغير الذى يغطيه العشب الأخضر من جميع الاتجاهات والذى لا يعلم مكان بابه سواهم.
أخرج هاتفه وكتب رساله مشفره كما) اعتمادا،
" يا ورد مين يشتريك وانا بنادي واغنى".
وأنتظر قدومها، فهذه هى كلمة السر بينهم للحضور لذلك المكان
هو يشعر بالقلق والتوتر فما قالته له فى الهاتف لا يبشر بخير أبداً
و لكنه لم يفهم أيضًا أين المشكلة؟ وماذا حدث؟
مرت أكثر من ساعه ليجد باب الكوخ يفتح وتدلف هى صحيح لا يظهر منها شيئًا سوا عينيها لكنها كفيله أن يتأكد أن دقات قلبه التى تهدر داخل صدره صائبة وإن حبيبة طفولته وصباه وشبابه تقف أمامه الآن.
أقتربت منه وقالت
- حمدالله على سلامتك يا نادر.
- الله يسلمك يا ضحى وحشتينى قوي.
أجابته بحب كبير كتب عليه أن يظل فى الخفاء بسبب عداوة العائلتين التى لا تنتهى،
أقتربت منه خطوه أخرى وقالت: أنا مش هينفع أطول نتقابل بعد العصر عند الساقية الغربية.
قطب حاجبيه بحيره وهو يقول باندهاش: إزاي يا ضحى ولو حد شافنا.
رفعت النقاب التى ترتديه فقط حين تأتى لمقابلته حتى لا يتعرف عليها أحد وابتسمت ابتسامتها التى خطفت قلبه منذ طفولتهم و خاصة من ذلك الكسر فى أسنانها الأمامية حين حاول أحد الأطفال يلقى عليه حجر فوقفت هي أمامه فكسر لها ذلك السن ولذلك هو يعشق إبتسامتها التى تذكره بذلك اليوم:
- متقلقش أنا مرتبة كل حاجه، بس وانت رايح هناك خد معاك حد من اللي شغالين عندكم.
لتزداد حيرته وشعر بعدم الفهم، لكنها لم تسمح له بقول أي شىء و اخفضت النقاب مرة أخرى وتوجهت إلى الباب وهى تقول:
- متقلقش أنا مرتبة كل حاجة، عمرى ما أضحى بيك.
ثم فتحت الباب وقبل أن تغادر نظرت إليه وقالت: مش أنت بتثق فيا يا نادر.
أومئ بنعم لتبتسم ابتسامه واسعة ضحكت على أثرها عيونها، ثم قالت: أشوفك بعد العصر.
وغادرت وأغلقت الباب خلفها، ظل هو على وقفته ينظر إلى الباب المغلق والحيرة تتملك عقله وخوف لا يعلم سببه يسكن قلبه، و يؤلمه بشده، لكنه سينفذ ما قالته ، وسيذهب فى موعده.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي