الفصل التاسع

الفصل التاسع

خرج داغر من غرفته ليجد سياف يجلس فى الصالة وبين يديه كوب قهوته وحين شعر به وقف ينظر إليه بابتسامة وقال: عامل أيه دلوقتى ؟
أومئ داغر بحركة غير مفهومة لكنه قال: أنا هخرج شويه وراجع.
- رايح فين ؟
قالها سياف ببعض القلق، لينظر إليه داغر ببعض التوتر وطال صمته لدرجة أشعرت سياف بالخوف حقًا على صديقه الذى يرى داخل عينيه ضياع وحيره وانكسار أنتبه من أفكاره على صوت داغر: عندى مشوار مهم لازم أروحه وهرجع على هنا.
- كلمت عمى كساب؟
قالها سياف حين أعطاه داغر ظهره متوجهًا إلى الباب ليقف مكانه وتشنج جسده ولاحظ سياف إرتفاع كتفيه بسبب تنفسه السريع الغاضب،
وحين ألتفت إليه شعر سياف حقًا بالرعب، أنها المرة الأولى التي يرى فيها داغر بتلك الحالة توقف الوقت لعدة ثوانِ، ثم غادر وكأن عفاريت العالم تركض خلفه، في تلك اللحظه أقترب جرير من سياف بعد أن كان يراقب الموقف من باب غرفته وبعينه كان واضح السؤال الذى أجاب عليه سياف مباشرة: أنا خايف على داغر، وخايف منه.
وعاد ليجلس على الأريكة من جديد ظل جرير على وقفته لعدة دقائق؛ ثم قال: أنا هروح الكافيه أبص على الدنيا، وأعدى على أروى أطمن عليها، وأرجع على طول.
أومئ سياف بنعم وقبل أن يغادر جرير ناداه سياف ووقف أمامه و هو يقول: أبقا خلى نورسين تروح بدري بلاش تتأخر النهاردة.
ليبتسم جرير وببعض المشاغبة قال: حاضر يا حنين.
ليلكمه سياف في معدته وعاد ليجلس على الأريكة بهدوء غير مهتم بذلك الذى أنحنى من الألم، وهو يقول بعض الكلمات الغير مفهومة.
.
~~~~~~~~~~~~~~~~~
كان يجلس على إحدى الكراسي المنتشرة فى رواق المستشفى و بالتحديد أمام غرفة العمليات وجواره والده الذى رفض تركه بمفرده والذي يشعر بحيره من كل الأمر ويشعر بالغدر وخوف شديد على وحيده، وبالجهة الأخرى يقف والدها الحج سلمان الغنيمي و أخيها الأصغر حلمى واللذان لا يقدران على النظر في إتجاه نادر ووالده فما قام به ولده لا يستطيع تفسيره.
وكان نادر عقله سارح فى كلماتها التى تتردد داخل عقله مرارًا و تكرارًا " كان لازم أدفع تمن خيانتي ليك" أي خاينه! وكيف لها أن تخونه؟ أنها حبيبته عشق الطفولة والصبا حلم كان يشعر بكل ما يملك من قوة أن يحققه حتى أنه غادر بلدتهم حتى يبتعد عن العداء
ماذا حدث؟ ولماذا طلبت منه القدوم؟ ولماذا يحاول أخيها قتله؟ فإذا كان على أحد قتل أحد فمن المفترض أن يختبئ عسران وحلمى فعائلة الغنيمي مدينه بالدماء لعائلة أبو العينين.
عقله يكاد ينفجر من كثرة التفكير، ولكن قطع تفكيره خروج الطبيب ليقترب سريعًا منه وقبل أن يسأل والدها كان السؤال يخرج منه هو: طمني لو سمحت؟
نظر الطبيب إلى الجميع هو سمع بما حدث ويفهم جيدًا ماذا يعني هذا؟ فقال بعملية شديدة: الحمد لله المريضة بخير طلعنا الرصاصة والحالة مستقرة.
في تلك اللحظة حضرت الشرطة لينظر نادر إلى الحج سلمان الغنيمي وقال: أكيد انت عايز الموضوع يتلم، وابنك يخرج منها.
نظر الحج سلمان لولده، ثم أومئ بنعم لتلمع عيون نادر بوهج العرق الصعيدي الحر الذى لا يترك تاره، ولا حبيبته أيضًا وقد أتخذ قراره.
~~~~~~~~~~~~~~
وصل جرير إلى المقهى وحين دلف كانت عيونه الخبيرة بالمكان تتفقد كل أنش به، حين وقعت عينيه عليها تجلس على طاولة سياف وأمامها يقف إبراهيم بين يديه أوراق كثيرة، أقترب منهم لتنظر إليه ببعض التوتر وقالت: أنا كنت بحاول أرتب الأوراق والحسابات علشان......
ليشير لها بيديه أن تصمت مع ابتسامة متفهمه وقال: شكرًا حقيقي يا آنسه نورسين، انتِ بجد كنتِ قد المسؤليه.
لتبتسم بسعادة وهي تمد يدها بالأوراق وقالت: أتفضل حضرتك كمان، لا يفتى ومالك في المدينة.
- مالك لازم يمشى في الحقيقة.
قالها بمرح؛ ثم نظر إلى ساعته وأكمل: كملي حسابات الشفت الصباحي وسيبي حسابات الشفت المسائي أنا هبقا أراجعه الصبح.
أومئت بنعم ليتحرك جرير خطوتان لتنادي عليه بصوت متردد لينظر إليها باستفهام لتقول ببعض التردد: باشمهندس سياف كويس ؟
ظل ينظر إليها لعدة ثوانِ ثم قال بهدوء: أيوه كويس، متقلقيش.
قال كلمته الأخيرة بطريقة جعلت وجنتيها تتلون بالأحمر القاني و من كثرة الخجل بدأت تنظر في كل مكان ليبتسم بمرح،
وهو يقول: صحيح سياف بيقولك روحي النهاردة بدري.
نظرت إليه باندهاش ليقول بابتسامة جانبية جذابة وتحمل الكثير من المشاغبة المرحة.
- أصله بقلق.
ثم غادر تارك خلفه قلب ينبض بقوه، وابتسامة بلهاء ترتسم على وجهها.
*******************
غادر إحسان غرفته متوجه إلى الندوة الأخيرة قبل سفره وعودته إلى إبنه الذى بحاجه إليه.
وعند باب القاعه وقف مكانه ينظر إليها وعلى وجهه ابتسامه صغيرة لتلك الأيام التى ذهبت وأيضًا لذكرى جميلة
كانت هى الأخرى تنظر إليه وعلى وجهها نفس الإبتسامة لتلك الذكرى.
أقتربت منه وقالت: إزيك يا إحسان أخبارك إيه ؟
أجابها بابتسامة وقوره: الحمد لله، انتِ عاملة إيه يا ثريا ؟
ظلت الابتسامه ترتسم على وجوههم، وفى تلك اللحظة أخذ قراره أن يقول تلك القصيدة التى كتبها بالأمس، توجه إلى منصة الندوة ووقف خلف الميكرفون وقال: مساء الخير على الجميع، أنا النهاردة كنت محضر قصيدة جديدة لكن بصراحه حصل موقف خلاني غيرت رأيى وقررت أقولكم أول قصيدة كتبتها زمان من أكثر من ٢٥ سنة.
ابتسمت ثريا التى كانت تجلس فى المقاعد الأولى وهى تتذكر تلك القصيدة التى أرسلها لها يوم عقد قرانها بعد أن جمعتهم قصه حب لم تستمر طويلًا.
أكمل هو كلماته: كان أول حب وأول جرح فترة الشباب بقا لحد ما ربنا بعتلي الحب الحقيقى زوجتي رحمها الله وأم ابنى، خليني أسمعكم القصيدة علشان أنا لازم أرجع بلدى لأن ابنى محتاجين.
تصفيق قوى وكبير على كلمات خرجت من القلب لامس القلب ليبدأ هو فى إلقاء قصديته:
أخدع وأشكى
أخدع وأشكى وأجرح وأبكى،
واسبق وأحكى وأقول للناس،
اني خدعتك وانى جرحتك،
وإن أنا خنت، أعز الناس،
وان الحب جزاؤه خيانة،
وانكِ دقتِ المر معانا،
وان الكذب مكنش في طبعك،
وانك بحر من الإخلاص،
أخدع وأشكى وقول للناس.

قول للناس إن أنا جرحتك،
وإن أنا خنت العشرة وبعتلك،
وإن الغدر ب يجرى فى دمى،
وإن أنا خالي من الإحساس،
اخدع واشكي وقول للناس،

قول للناس إن أنا غدار،
وإن أنا خاين أو مكار،
وانك كنت معايا في نار،
وإن أنا قاسي ومش حساس،
اخدع واشكي وقول للناس،

إنك قدتِ حياتى شموع،
وإنك ياما بكيتِ بالدموع،
وإنك صوتك مش مسموع،
وإنك منى زهقتِ خلاص،
اخدع واشكي وقول للناس،

مش هرجع لكِ تانى خلاص،
مهما تقولِ وتعيدِ للناس،
كل الناس عارفة إن كلامك،
كدب فى كدب مالوش أساس،
اخدع واشكي وقول للناس،

كله كلام في الهوى بيطير،
ويتعاد ومفيش تغيير،
من كداب وملهمش ضمير،
غاوي يقول ويعيد وخلاص،
اخدع و واشكي واقول للناس.
"بقلم عماد حمدي سعد الدين"

وحين إنتهى وقف الجميع يصفق بحرارة، وكانت هي تحتفظ بتلك الذكرى داخل عقلها وقلبها، بجوار ذكريات كثيرة أخرى له لم، ولن تنساها يومًا ، ليرفع يديه بتحية؛ ثم غادر المنصة متوجهًا مباشرة إلى المطار.
هو لا يفهم ماذا يعانى وحيده؟ لكن عليه أن يكون جواره.

~~~~~~~~~~~~~~
أوقف داغر السيارة أسفل بناية منتصر ينظر لما يحدث أمامه بعيون متسعة، والده يقف أمام منتصر مطرق الرأس والحزن و الآسف يرتسم على وجهه بوضوح،
و رغم أن ما يراه الآن أسعد قلبه ولو قليلًا أن والده مازال بداخل قلبه بعض الشفقة وبعض الخلق الطيب إلا أن كل هذا لا يعني شىء، أمام ما حدث ولا يعوض بشيء.
ظل فى سيارته يراقب ما يحدث، وكم يتمنى الآن أن يكون لديه موهبه سياف فى قراءة الناس، وقراءة شفاههم حتى يعرف ما يقولونه، مرت عدة دقائق في حديث متبادل بين منتصر ووالده تحملها هو بصبر كبير، فهو ليس على استعداد لمواجهة والده الآن بكل أخطائه التى علمها، وما خفى كان أعظم.
مرت عدة دقائق أخرى ليرحل والده وهو على نفس حاله مطرق الرأس، ظل فى سيارته لعدة دقائق أخرى رغم رحيل والده وصعود منتصر إلى بيته، أغمض عينيه لثوانِ ليعود عقله لما قاله له منتصر عنها: وبعد شغلي مع أبوك، وكأنه أستعبدني طول اليوم شغل وأرجع متأخر، وكنت بسيب رؤيا لوحدها أوقات كتير كنت بجبها معايا الفيلا عندكم والوقت اللي بكون فيه فى الشركة بتكون هي في البيت لوحدها.
وضع رأسه بين يديه، وأكمل بصوت مختنق: في اليوم المشؤم كساب كان بيجهز لصفقة جديدة، وبعد ما جهز كل حاجه جاله تليفون أن في حد من المنافسين هيقدم عرض أفضل منه رفض إني أمشي وبدأنا من أول وجديد، في الوقت ده.
بدء صوته يتحشرج والدموع تغرق وجنتيه: رؤيا كانت بتتصل كتير ورا بعض، وكل ما أجي أرد عليها أبوك يقولي ركز في شغلك لدرجة أنه أخد تليفوني ورماه من الشباك.
رفع عيونه الباكيه ينظر إلى داغر وقال: وبعد ما خلصنا وصلني للبيت وهو بعتذر، وبيوعدنى أنه هيجيب ليا تليفون جديد، ولما وصلنا البيت.
صمت لثوان وأخفض عينيه أرضًا وأكمل: لقيت الجيران واقفين قدام بيتى وأول ما شافوني صرخوا فيا انت فين؟ وسايب بنتك كده إزاي وانا مكنتش فاهم حاجه سبيتهم وطلعت أجرى على فوق وأبوك ورايا طلعت لقيت بنتى مرميه في الصالة ومغم عليها وأيديها متكتفة في رجل الكرسي وحوالين رقبتها حته من الهدوم بتاعتها وعلي بقها كمان ده غير آثار صوابعهم وهما كاتمين نفسها و....
صمت لا يستطيع وصف ما حدث، وقلب الأب بداخله يلعنه بكل اللعنات، ولكن داغر لم يرحمه أقترب منه،
وصرخ به أن يكمل: شويه شباب صايعه من شباب الشارع استغلوا غيابي، وأنها طول الوقت لوحدها واعتدوا عليها، وعلى صوت صريخها الجيران أتلمت بس بعد ما كانوا....
خيم الصمت عليهم لعدة ثوانِ ثم أكمل وصوته يحمل الكثير من الخزي والعار: بنتى فضلت في المستشفى شهر كامل حالتها كل يوم بتسوء أكتر من اللي قبله دمروها بقت بتخاف منى، ونظرة عينيها ليا بتقولي انت السبب.
كان الغضب يسطر عليه بشكل كبير لم يستطع منع نفسه من أن يمسك ذلك الرجل الذى أمامه، ويكيل له اللكمات المتتالية وهو مستسلم تمامًا لكل ما يحدث،
وتركه أكمل كلماته قائلًا : أبوك وقتها قال ليا انه ممكن يحطها في مصحه ويصرف عليها، وإن أي فلوس انا محتاجها تحت أمرك ، بس مابلغش البوليس علشان سمعة شركته، والا يرفدني ومش هعرف أشتغل في أي شركة تانية، لأنه بقا له دلوقتي سلطه ونفوذ ويقدر يدفني حي، وانا وافقت وضيعت حق بنتي.
جلس داغر أرضًا جاحظ العينين بصدمة، هل والده بذلك الشكل البشع؟ هل هذا هو وجهه الحقيقى؟ هل والدته حين تركته وهربت كان بسبب ذلك الوجه البشع وجه المسخ الدميم الذى يغلفه وجه حاني محب؟!
عاد من أفكاره على أثر تلك الدمعة الساخنة التي غادرت عينيه تسيل فوق وجنته تتحدى جسده الضخم ومظهره القاسي
ترجل من السيارة بعد أن مسح تلك الدمعات الخائنة وصعد إلى الأعلى طرق الباب عدة طرقات قوية فقلبه يؤلمه على تلك التى تصرخ وتزوم بصوت عالى وحين فتح الباب لم يهتم أن يرى من الذى يقف خلفه توجهه مباشرة إلى غرفتها خاصة مع صوت تلك القيود الحديدة التى تصم أذنه وتؤلم قلبه أقترب من السرير ليكون في مرمى بصرها لتهدئ صرخاتها، ولكن لم تتوقف يديها عن الحركة، أصابع يديها التي تشير له بالاقتراب،
ليقترب سريعًا يفك قيد قدميها وذراعيها وضمها بقوة إلى صدره لتهدئ تمامًا، وكأنها في حصنها الأمين.
كانت نظرات الطبيبة، ووالدها تدل على صدمة قوية وعدم فهم
تجاهل هو كل ذلك وظل يربت على ظهرها بحنان؛ ثم همس بجانب أذنها ما جعلها، ولأول مرة تصرخ بكلمة مفهومة وواضحة:
- أنا جمبك، أنا جمبك.
- ااااااااااااااااه.
صرخة دوت منها ثم غابت عن الوعى بين ذراعيه.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي