رجل منتصف الليل

مرام`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2023-11-22ضع على الرف
  • 82.6K

    جارِ التحديث(كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الأول أمل زائف

"ليست كل المنارات ترشد السفن إلى الميناء في ليالي العاصفة، وليست كل المطارات ترشد الطائرات في ليالي المغيمة، أحياناً ذلك الضوء في الواقع مجرد أمل سخيف ومزيف.ة" تحدثت وأنا أعبث بأساوري الفضية.

كنت أسترق النظر بين الفينة والأخرى ناحية الطبيب الذي يستمع لي باهتمام.

أعلم أنه غير مهتم بي وأن مشاعري وأحاسيسي وأفكاري بالنسبة له لا تعني أي شيء. وربما يراها مجرد أحاسيس وكلمات ساخرة، مجرد قطعة من القمامة. هو يستمع لي من أجل عمله، من أجل النقود لا أكثر. هذا هي حياتنا المزيفة والسخيفة.

"وأحياناً كثيرة يحتاج الربان والقائد إلى علم واسع وثقة قوية حتى يستطيع قيادة مركبه ناحية بر الأمن دون أن يحصل له أو لراكبيه أي ضرر." أضفت وأنا أرفع ذقني لأنظر له. كان يدون بعض الملاحظات على دفتره ثم رفع رأسه يحدق بي بهدوء.

"ماذا عنكِ؟ أأنتِ الربان أو أحد الركاب؟ أو سفينة مهمتها إيصال الأمانة بسلام؟" تساءل وهو يحاول مجارتي في أفكاري المبثعرة. التي لا أجد سبب لولادتها، ولا حل لأسئلتها، ولا كلمات لأعبر عنها.

"لا هذا ولا ذاك. أنا صعدت طائرة فارغة، في جزيرة نائية أبحث عن الهدوء والسلام بعيدًا عن ضجيج العالم." رددت أرفع كتفي بفتور وأنا أسترخي في جلستي أكثر.

حدقت في سقف، ثم بدأت أغوض في أفكاري عميقا.

"لم تحاولين الهروب من العالم ميلانو؟ تحديداً من الواقع؟ لم تصنعين جدران عالية من حولك لا تسمح لك بالخروج ولا تسمح لمن هم بالخارج بالدخول؟" تساءل بفضول وهو يعقد يديه ناحية صدره. الآن بدا الاهتمام جليا على وجهه على عكس السابق.

"أنتِ لازلت في بداية شبابك. هذه أول رحلة ستصعدين فيها. سواء كنت راكب أو ربان عليكِ خوضها بجوارحك مهما كانت النتيجة أو أنه لن يحق لكِ فيما أن تطلقي على حياتك حياة. حينها لن تختلف عن حياة الحلزون الذي يمضيها في قوقعته."

كان يستعمل ذات كلماتي ليصوغ حديثه مما جعلني انصب كل اهتمامي عليه وأخذ الموضوع بجدية رغما أنني في بداية الأمر كنت أحاول السخرية منه عبر قول كلام سوداوي وفي ذات الوقت واقعي.

كان كل غرضي من هذه الجلسة أن أبين له أني لا أؤذي أحدا في هذا العالم سوى نفسي بتصرفاتي التي تراها أمامي غريبة. لكن يبدو أن حديثنا قد أخذ منعطف غير الذي كنت أخطط له.

"هذه أهم مرحلة في حياتك. حيث ستصنعين ذكريات لا تنسى مع أشخاص غرباء، ربما يكونون في المستقبل جالسين معك في تجمع ما. تتحدثون وتضحكون وتسترجعون أوقات سابقة جميلة. هذه هي الحياة ميلانو."

ابتسم في نهاية كلامه وكأن ما قاله بسيط جدا. عادي.

لكني وجدت بين ألفاظه سجن لي. حيث تتواجد حياة روتينية وعادية لا تناسب شخصية مثلي. هناك أيضا عثرت على كابوس. الجنس البشر. الجنس الذي أقسمت على عدم مخالطته من جديد.

"لأن العالم بالخارج بائسا جداً، يحمل طاقة ضخمة من التعاسة التي تسيطر على أرواحنا دون أن نشعر. ثقلية، مؤذية، خانقة وقاتلة." أجبته بهدوء وأنا أرفع ساق واحدة أضعها على الكرسي الخاص بي حتى أحتضنها.

أرحت خدي على ركبتي ثم نظرت إلى الطبيب الذي بقي صامتا منتظر مني الكلام.

"أعمارنا تمضي بلمح البصر بدون أن نتحسسها للحد الذي لم أحس بسنواتي العشرين الماضية، ولا أعلم كيف ومتى بلغت العشرين." نبرتي خرجت ساخرة بطريقة سوداوية.

الملامح الجامدة والعيون الخالية من الحياة كانت أفضل تعابير يصف وضعي المأساوي.

ربما يراني البعض متشئمة وكثيرة الشكوى. لكن ذلك هو الواقع الذي نحاول أن نتغاضى عنه. واقع قد رسم من قبل أن نولد، روتيني ومميت. للحد الذي لا ندرك فيه أن حياتنا كانت تمضي هباء وستبقى تسير في الفارغ دون نتيجة.

"أمس قد كنت طفلة صغيرة تحب اللعب، ومساء البارحة كنت مراهقة قد تخرجت للتو من الثانوية، واليوم أنا في سنة الثانية من الجامعة. سنة بائسة ستكون مثل ما سبقها."

رفع حاجبيه بغرابة من كلامي وعدم ترابط أفكاري أما أنا فأخفضت بصري أحدق بالطاولة.

كله بسبب ماما.

هي من أجبرتني على الذهاب إلى طبيب نفسي أخر عسى أن يقنعني بالخروج من المنزل وأرتياد الجامعة.

"ميلانو، أنتِ مبعثرة ومشتة. من جانب تنتقدين الحياة البسيطة والروتينية ومن أخر تستمرين في عيش واقع ممل وعادي دون أي نية للتجديد أو التغيير."

"أليس البقاء في المنزل تغيير. شيء لا يفعله الناس في الخارج؟" سألته بدوري ساخرة أعبث معه وهو بدوره قد كشف ذلك لأنه رفع لي حاجبيه ساخرا.

"كلا. حسب ما فهمت أنت تحبين الخروج عن المألوف، شيء مختلف هما يفعله ويمارسه الأشخاص من حولك لترضي حبك للأختلاف. لكنك لا تفكرين أن كان هذا الشيء الغير اعتيادي سيعود بالسلب عليك أو بالإيجاب."

أطلقت ضحكة هازئة وأنا أدحرج عيناي في فضاء بضجر حينما أنحنى يعود للخربشة على دفتره.

"أنتِ من أخترت اختصاصك الجامعي صحيح؟" سأل بعد أن وضع قلمه جانب يضم يديه إلى صدره.

"أدرس الكيمياء رغم عني وسط دود الكتب. ليس وكأنني طالبة تحب اللهو والعبث، ولست تحب القراءة ودراسة أيضاً. أنا ببساطة لا هذا ولا ذاك.
أنا مجرد فتاة واقفة في المنتصف لا تريد أخذ خطوة ناحية الأكتضاض، تريد أن تبقى وحيدة فقط."

فك عقدة ذراعيه وهو يتنهد يأسا.

لا أدري لم أمي تجبرني على أحتكاك بأقراني ذوي العقول الضئيلة والمحدودة رغم عني؟

لم أرسلتني إلى هذا الطبيب الأحمق مع أن من سبقه لم يفلح حتى في أقناعي بالخروج من المنزل؟

"لم لا تكتفون بجعلي أدرس من البيت مثل السنة الماضية؟ مع مرات قليلة أزور فيها الكلية من أجل حضور حصص التجارب العلمية. تلك كانت أسعد سنة في حياتي لأنها بعيدة كل البعد عن كل هذه التفاهات المصبوغة بالصبيانية." تحدثت هازئة.

الطبيب قد خلع نظارته ودلك ما بين عينيه بتعب. أظنني قد عبثت بأعصابه.

"أنتِ لم تدرسي من البيت. بل من الغرفة. أمك أخبرتني أنكِ بالكاد كنت تخرجين منها لتناول الطعام معهم."

"أنا وجدت راحتي في العزلة. أنا لم أقم بإيذاء أحد. لم تحاولون جعلي مجنونة بالرغم أنني لم أثر أي فوضى لي ولمن حولي؟ بل أنا راضية تماما على حياة التي أعشيها وأخترتها." كلماته أستفزنتي لذلك رددت عليه ببعض الانفعال.

حينما وعيت على نفسي نظرت بعيد عنه وأنا أقضم أظافري بتوتر.

تبا. لم أعتد أن أفقد أعصابي أمام أحد من قبل.

"سأمنحك نصيحة. ليس بصفتي كطبيب لكن كعابر سبيل مر بمرحلتك من القبل. جربي أنخراط في المجتمع فقط في فترتك الدراسية لتتجنبي تشكيات أمك. لكنفي أثناء تلك التجربة ستجدين أن كل العالم يفكرون مثلك."

ثم حينما بدأ توسع في الحديث وبدأ يتكلم عن نظرته للعالم التي تشبه خاصتي غصت معه في أنفاق وأفكار لم أجرأ على طرحها أمام أحد من قبل.

لكن أيقنت أنا والطبيب أما أن كلانا يحتاج إلى علاج. أو أن ذلك هو بالفعل الواقع الذي يفكر فيه الكل، وكل تلك الأحاديث عن تنمية الذاتية هو الضوء في لأمل سخيف ومزيف. الأمل الذي أفتحت به نقاشي مع الطبيب سابقا.

.

.

.

تنهدت بيأس وأنا أغلق باب خزانتي.

هذا يومي الأول في هذه الجامعة المقرفة.

لا أفهم كيف أقتنعت بكلام الطبيب في نهاية وذهبت إلى الجامعة.

"عذرا." أعتذر الشاب فور أن أصطدم بي من دون قصد.

لكن في واقع حدث ذلك بسببي لأنني أستمررت بالنظر إلى الأرض بتفكير لا أركز لم يوجد حولي.

"لا بأس." رددت عليه بنبرة ودودة بينما أتجاوزه
أما هو فقد أكمل طريقه راكضا ناحية رفيقه الذي كان يناديه من خلفي.

رفيقه ذاك قد أنفجر ضاحكا فور أن أصطدمنا ببعضنا البعض. طفولي. أي ساذج قد يضحك على شيئا كهذا؟

غبي.

لا أظن أنه بمقدوري التحمل أكثر. أنا واثقة في نهاية أنني سأثير مشكلة ما.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي