الفصل الثالث والعشرون روبوت

كنا جالسين في حديقة النادي نقوم بتناول السندويشات التي سبق وحضرتها وريا في منزلنا. حتى براد كان جالسنا معنا بعد أن ألحت وريا عليه بالجلوس.

"أنها لذيذة." تحدث دامارا بفم ممتلئ وهي تستمر بالقضم من ساندويتشتها التي كانت على وشك انهائها قبلنا الكل. كانت تبدو وكأنها تعيش داخل مجاعة.

"أنها بالفعل لذيذة. شكرا لك." تحدث جومرد وهو يحدق بوريا بامتنان لكنها لم تكن مهتمة به.

كانت واقفة بجانب براد تنتظر منه أن يكمل مضغه لقمته الأولى ليبدي رأيه فيها. هي حتى الآن لا تستوعب أنها قامت بأقناعه.

"هل اعجبتك؟" سألت فورا أن ابتلع لقمته تجعله يرفع حاجبيه بدهشة بسبب تصرفاتها الاندفاعية والتي كانت غريبة جدا عليه.

"ليست سيئة." تحدث بجمود يعود لأخذ قضمة أخرى. ملامح وريا  قد عبست مباشرة وأكتافها قد أنخفض باستسلام لأنها كانت تتوقع أطرأ أفضل من ذلك.

ابتسمت رغم عني لكن أخفيتها عبر مضغي لطعام.

"هل كل أفراد عائلتك يمتلكون مرافقين شخصيتين مثلك؟" تسألت تسير تجاهي لتجلس بجانبي بعد أن شعرت باليأس منه.

"أنا وأشقائي جميعا نملك مرافقين."

"منذ متى يرافقك؟" تساءلت دامارا هذه المرة.

لا أصدق أنني أجتمعت في مكان واحد مع وريا ودامارا. رأسي سينفجر حتما اليوم.

"منذ عشر سنوات." رددت وقد أسترجعت جل ذكرياتي مع براد دفعة واحدة. كان أول لقاء لنا في منزل العطلة الخاص بنا، ذات العطلة التي وجدت فيها باغيير لأول مرة أيضا. كنت أنا في العشرة وهو في بداية العشرينات من عمره.

كان موظف جديد آن ذاك بلا أي خبرة سابقة وكان لا يعلم كيف يتعامل مع طفلة شرسة مثلي وارضاء سيدة كثيرة المطالب مثل أمي. مع ذلك نجح في خدمتي بوفاء وأخلاص وأستمر معي كل هذه السنوات.

"أتمنى إن لا يكون بقيتهم جامدين ومتحجرين مثله." همست من جانبي ثم أعتدلت في جلستها تعود لابتسام في وجه براد الذي أجزم أنه قد أستطاع سماعها بالرغم من المسافة التي تفصلنا عنها.

لقد اكتشف براد حتما أن وريا لديها قدرة عالية على النفاق والتمثيل.

"مرحبا جميعا. أنا جائع. هل هنالك أي طعام؟" تساءل ينضم لنا جيس. الشاب الذي سبق وتعرفت عليه في حفلة آيلينا. كان قد دخل ركض للتو من باب يتجه مباشرة للبحث عن الطعام.

"أنت شره وأناني جومرد! لا تخبرني أنك أكلت كل الطعام لوحدك." تحدث بعد أن قام بافتكاك شطيرة من يد جومرد بفضاضة.

"مرحبا يا ابنة جنرال. عذرا لم ألاحظك." تحدث بفم ممتلئ وهو يرفع يده عاليا في هواء كتحية لي.

"لأنك كنت تفكر في بطنك. ثم لا تدعوها بابنة جنرال لديها اسم. ميلانو، ميلانو والكر." تحدثت وريا وهي تعقد يديها ناحية صدرها تنظر له بلوم. أخيرا قد قالت جملة مناسبة.

"عذرا ميلانو لكني جائع لذلك لم أرحب بك بشكل لائق. كنت في ملعب التنس برفقة..."

"برفقتي." تدخل صوت أخر كان عائدا لرفيق جومرد الذي اتكئ على إطار الباب بصدر يعلو ويهبط سريعا. يبدو أنه كان يركض لفترة طويلة.

"أنت لم تكن بهذا النشاط حينما كنا نتدرب! كنت بالكاد تكمل دورتك! لكن إذ بات الموضوع يتعلق بالطعام فإنك تصبح مثل لوفي بطل أنمي ون بيس!" تحدث ساخر يسير إلى الداخل بعد أن ألتقاط أنفاسه قليلا.

"أنت من كنت تجبرني على أتابع حماية قاتلة طوال الأسبوع الماضيين ألبين. أشعر وكأني كنت في مجاعة أو حرب ما." تذمر وهو يقضي على شطيرة في غضون لحظات قليلة بينما صاحبها ظل ينظر له بتفاجئ بسبب وقاحته التي تغلبت على خاصة وريا.

مررت عيوني بحيرة بينهم. أنا لم أقابل هذين الإثنين سوى في حفلة مع ذلك يبدو أنهما أيضا ألم في الرأس مثل وريا ودامارا اللاتي كنا يتابعان ما يحدث بصمت.

دامارا كانت منشغلة في الطعام تنهي شطيرتها في ثانية وادحة خوفا من جيس الذي رمقها بنظرة شرهة.

بجدية كيف لهم أن يكونوا في عشرين من عمرهم؟ كيف لهم أن يكونوا في جامعة؟ وكيف استطعت الجلوس مع كومة متخلفين هؤلاء لمدة طويلة دون أرتكاب أي جريمة؟

"جومرد وألبين وجيس ثلاثتهم كانوا يدرسون أختصاص رياضة منذ أن كانوا في ثانوية لكن في مجالين مختلفين، تنس وكرة القدم. وهو من قام بتعرفينا عليهما ثم قمنا بتكوين دائرة الصداقة هذه برفقة آيلينا ودامارا التي تدرس اختصاص مختلف."

تحدثت وريا من جديد وكأنها قرأت أفكاري تعرفني عنهم أكثر.

"والآن أنت قد أصبحت منا." أضافت بابتسامة مشرقة جعلت عيوني تنفتح على مصرعيها ومباشرة نقلت عيوني إلى براد أنظر له بتهديد.

"أهنالك خطب؟" تساءلت دامارا حينما لاحظت نظراتي تجاه براد الذي تناول نصف شطيرته ثم عاد للوقوف.

"لا شيء." تمتمت وأنا ألقي نظرة محذرة أخيرة عليه حتى لا يقول لماما أو أن من حولي سيخضعون لتحقيق ويصبحون محور اهتمام ماما في أيام القادمة.

ستجعلهم يكرهون اللحظة التي تعرفوا عليها فيها لأنها ستخرج أعمق أسرارهم، القديمة منها وحتى التي تتعلق بأقاربهم ومعارفهم أو حتى جارهم السابع.

"بالمناسبة أنا أدرس الطب البيطري." تحدثت دامارا بابتسامة مزيفة. كانت ترغم نفسها على أن تكون ودودة معي بالرغم من أنها في اعماقها كانت لا تطيقني.

شعرت بالسخرية تجاه قدر الذي جمعني بها. نحن لا نطيق بعضنا البعض وفوقها لا نتشابه. لو تعلم ما أقوم بفعله مع حيوانات لأصيبت بنوبة قلبية.

ابتسم براد رغم عنه وكأنه فكر بما كنت أفكر فيه.

"هو يبتسم أنا لا أصدق ذلك." تحدثت وريا وهي تضع يديها على فمها بتفاجئ.

"ليس هو فقط بل حتى هي." تحدث جيس وهو يشير ناحيتي.

"هل لديكم تقنيات متطورة تتحدثون بها بشكل خاص حيث لا يسمعها أحدا سواكما أو ما شابه يا رفاق؟" تساءل جيس وهو يمرر نظره بيننا.

"لأنه من الغريب أن تبتسما في ذات الوقت دون سبب يذكر." أضاف يوضح وهو يحك رأسه بأستغراب.

"أوه نسيت أن أعرفك عن نفسي أيها السيد. أنا أدعى جيس." تحدث وهو يمد يده له لكنه أرجعها في ذات اللحظة يقوم بمسحها في بنطاله ثم قام بمدها له من جديد.

لكن براد وعلى عكس ما قام به مع جومرد وترحيبه الودود به تعامل مع جيس هذه المرة بجمود. ألقى نظرة غير مبالية على يده ثم عاد للنظر إلى الأمام يبقى متسمرا في مكانه بثبات.

رمش جيس عديد المرات بتفاجئ غير مستوعب لحركة براد.

"هذا التصرف وقح!" تحدث جيس على الفور بأستياء وقد بان على ملامحه الإنزعاج بسبب تصرف براد لكن ألبين سارع بابعاده عنه يتمتم له بشيء في أذنه.

"من هو الوقح المتواجد هنا غيرك جيس؟" تدخلت آيلينا التي خرجت تو من الباب تصعد الدرج بإتجاهنا. كانت نصف النادي متواجدا أسفل الأرض.

"لا تبدئي بتعليقاتك اللاذعة." تحدث بنبرة محذرة لترسم الثانية ابتسامة غير مكترثة على وجهها.

منحنا ظهره وسار بعيدا عنا يجلس على الأرجوحة المخصصة للأطفال. يبدو أنه لا يزال يشعر بالاستياء بسبب براد.

"لقد تعبت! لا أصدق أنني قد أنهيت أخيرا." قالت وهي تمط ذراعيها إلى الأعلى بارهاق.

"أشعر بالتعب الشديد." أعقبت وهي تقوم بطرطقة عظام رقبتها.

"متى ستبدأ جولتك؟" تساءلت دامارا وهي تنظر لها باهتمام.

"لقد بقيت ستة أشهر تقريبا ثم سأبدأ من العاصمة أولا ثم بأتجاه بقية المدن."

"ساشتاق لك." تحدثت وريا بنبرة باكية وهي تسرع بأحتضان آيلينا  التي جعدت ملامحها بقرف.

"بلا دراما وريا. ساغيب لمدة أربعة أشهر. وسأبقى على تواصل دائما معكم جميعا. كما أنني لن أخرج من حدود أرجنتين تستطيعين زيارتي." قالت تدفعها بعيدا عنها.

لكن وريا قد أرتمت عليها من جديد تعتصرها في عناق خانق مما جعل الثانية تتنهد بيأس.

"ماذا عن دراستك؟" استمرت دامارا في التحري عنها وكان ذلك مزعجا بالنسبة لي.

هي ليست ساذجة وثرثارة مثل وريا التي كانت تحتمل لدرجة ما لكن دامارا كانت فضولية أكثر من اللازم للحد الذي تستفزك فيه دون أن تشعر.

"سأكمل دراستي عن بعد." أجابت وهي تأخذ شطيرة من صندوق الطعام.

"هل كنتم تخبئون عني الطعام؟" صرخ جيس فجأة من العدم بعد أن شاهد الشطيرة في حوزة آيلينا.

"توقف عن التصرف وكأنك لم ترى الطعام من قبد! من يشاهدك تتصرف هكذا لا يقول أن والدك رجل أعمال مهم." أنبته وريا فورا على تصرفاته الفظة أما أنا فنظرت له بفضول.

من يكون والده؟

"على الأقل أحسن التصرف أمام الضيوف." تحدثت دامارا وهي تقلب عينيها في الفضاء تتجنب النظرات الحارقة التي سددت إليها من قبل آيلينا.

هي كانت تقصدني. وفي الواقع لم أكن مستاءة لأنها الحقيقة. أنا لا أعرف أي أحد منهم هنا سوى آيلينا ومن مستحيل أن أبقى معهم بالرغم من أن صراحتهم تجاه بعضهم البعض قد أعجبتني.

"لقد كنت ضيفة في يوما ما أيضا، لكنك أصبحت مثل العلكة الآن." تحدث جيس بعدم أكتراث وهو يسحب أكثر من شطيرة من صندوق.

أطلقت المقصودة صوتا غير مصدق بينما جومرد ظل كالإبله بينهما لا يعلم صف من سيأخذ لذلك ألتزم الصمت ولم يتدخل.

"توقف عن تصرف بوقاحة ليوم واحد في حياتك جيس." تحدث ألبين من أسفل أنفاسه بلوم وهو يراقب رفيقه الذي حضن ثلاثة شطائر ناحية صدره ثم جلس على الأرض يبدأ بالأكل مثل المشردين.

"للتوقف في البداية عن أعطائي حميات قاتلة ثم سيعود عقلي للعمل بشكل طبيعي!" رد عليه بعدم اهتمام وهو يحشر نصف الشطيرة في فمه دفعة واحدة.

"هل تشعرين بالراحة ميلانو؟" تساءلت آيلينا بهدوء فور أن جلست بجانبي.

كان الكل منشغل في الشجار الذي أقيم بين ألبين وجيس. الثاني كان يستمر بالتذمر بسبب النظام القاسي الذي أجباره رفيقه على أتباعه وأول أستمر بفضح تصرفاته الطفولية في العلن بينما البقية كانوا يستمعون باستمتاع.

هذه الأجواء لا تناسبني.

"إلى حد ما." رددت عليها أخفي نصف الحقيقة.

كانت آيلينا على عكسهم جميعا، كانت أكثر نضج. تجيد أنتقاء كلماتها ببراعة وتضعها في جمل ومواقف المناسبة. فبدل أن تسألني أن كنت مستمتعة بالأجواء أستفسرت عن راحتي أولا. لهذا لا أمانع مرافقتها.

"أنا أيضا لا أشعر بالراحة حينما أرافقهم بسبب إختلاف طبيعة كل منا. مع ذلك أستمتع بمجالستهم. على الأقل ذلك أفضل من البقاء وحيدة." تحدثت تعقد يديها ناحية صدرها بينما تمرر أنظارها على وجوه رفاقها الذين كانوا متفاعلين في الحديث.

"لقد نجحت بتكوين صداقات بسبب وريا. حينما تكون بجانبي أصبح أكثر راحة لكونها تشاركني ذات ميولاتي بالرغم من شخصيتها مختلفة عني. أكون مطمئنة معها، أشعر بأني لست بشخصية غريبة أو غير مرحب بها وسط مجموعة من الأشخاص"

حركت بصرها تناظرني بفضول.

"عند وجودها يكون من السهل التواصل مع البقية. لا بدا أن هنالك شخص مثل وريا في حياتك صحيح؟"

مباشرة عقلي قفز تجاه أركان.

مع أني لم يسبق أنني أنخراط برفقته داخل مجموعة حتى ليلة الحفلة وريا قد جرته معها.

لكني أكون أكثر راحة وأكثر طبيعية حينما يكون متواجد معي، خاصة وأنه يعلم كل شيء حيالي ولا أكون مضطرة للكذب أو النفاق. أكون على طبيعتي معه.

بالنهاية هو رجل سحري وأنا فتاة غريبة الأطوار لذلك نشكل مزيجا مثالي.

"لديك إذا." قالت وهي ترفع حاجبيها بتلاعب تجعلني أنظر لها بغرابة.

"ويبدو أنه رجل." أضفت مجددا وهي تدفع شعرها إلى الخلف بغرور مصطنع.

جعدت حواجبي بحيرة أشعر بالغرابة لكونها علمت بما أفكر فيه دون أن أقول أو ألمح لها حتى.

"كنت تبتسمين وكنت صامتة وشاردة. كل تلك العلامات هي إجابة على سؤالي." قالت وهي ترفع حاجبيها بثقة.

لا أصدق.

هل كنت ابتسم وأنا أفكر بأركان؟

ثم لم أصبحت أستمر بالتفكير فيه دائما؟

.

.

.

"مع أنهم مثيرون لألام الرأس إلا أنهم ليسوا بذلك السوء." تحدث براد الذي كان يجلس أمامي ينتشلني من شرودي بالطريق.

نظرت بغرابة له كونه لأول مرة يتحدث معي من تلقاء نفسه دون رسميات. وهذه المرة كلماته لم تكن عبارة عن أسئلة أو عمل. بل تخصني.

"أوافقك، لكن دامارا تلك لم تعجبني." صارحته أرسم معالم ضجرة على ملامحي حينما ذكرتها.

أنا أيضا قد قررت لأول مرة في حياتي فتح موضوع مع براد يخص حياتي اليومية.

"ولا أنا أيضا."

"أنها فضولية وثرثارة. كما أنها سليطة اللسان."

"وأنت الآن تتساءلين لم جومرد مرتبط بفتاة مثلها بالرغم من كونه فتى رائع؟" تساءل وقد لاح شبح ابتسامة على وجهه.

"بضبط…"

عضضت شفتي السفلى حينما وعيت على ما قلته. كنت قد تحدثت دون تفكير مسبق.

اتسعت ابتسامته تجلعني أتوتر أكثر.

"هاي! لا تبتسم! أنت قد قلت ذلك حتى تستدرجني بتصريح عن ذلك صحيح؟" سألته حانقة وأنا أسدد له نظرات كارهة حيث كان يجبر نفسه على عدم الابتسام.

"شعرت بأنك ترغبين بالحديث لهذا قلت ما كان يجول في عقلك." قال وهو يرفع كتفيه ببساطة.

هو على حق. أنا أردت التحدث عنها منذ مغادرتنا للمكان. وكون براد كان متواجد معي هناك فهو أكثر شخص سيفهمني فلم أنت غاضبة منه ميلانو؟

"أظن أن جيس على حق." تمتمت أتذكر قوله عن كوني أنا وبراد نمتلك تقنيات خاصة تجعل أفكارنا متقاربة. ربما لكونه قد رافقني لسنوات طويلة كان من السهل عليه معرفتي.

بالنهاية كل منا قد أعتاد على الثاني وفهمه طبعه بالرغم من أننا لم نكن مقربين للغاية.

أتكئت بجبيني على زجاج النافذة وعدت للتحديق في شوارع بتفكير.

هل سأقابل أركان من جديد الليلة؟

لا أدري لم كان محور أفكاري طوال اليوم حتى حينما بقيت مع رفاق آيلينا.

وللآن أريد أن أفهم لم كنت أفكر فيه وأستمر بفعل ذلك للآن.

ربما لأنني أحمل سره وهو يفعل المثل، أو ربما لكونه شيء يشبه السحر لم أفكر في وجوده، أو لكونه شخص غريب وغامض يجذبني رغم عني لمعرفة المزيد عنه وأكتشافه، أو أسوأ... أظننني بدأت اهتم به
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي