الفصل العشرون صفحات من الماضي

"كيف تشعرين حيال زيارتك للمقبرة في ثانية مساء؟" تساءل أركان من خلفي ساخرا وهو يحاول العبور من بين المقابر دون الدوس عليها.

"أحببت المكان. هادئ ومنعزل ولا بشر فيه. أنه مثالي." قلت بعد أن جلست فوق التلة بين القبور.

"بالطبيعة الحال سيكون كذلك فلا أحد بوعيه قد يزور المقبرة في الليل ويتسكع بين الأموات."

"أنها مجرد هياكل عظيمة قد تأكل لحمها أسفل التراب." رددت عليه وأنا أراقبه يتجاوز الصخور بقفزة واحدة ثم قفز مرة أخرى ليستقر واقفا بجانبي.

"لم منعتك أمك من متابعة طب الجنائي؟" تساءل وهو يجلس جواري.

"كنت مصابة بالأكتئاب حاد. أمي كانت قلقة من أن تزداد حالتي النفسية سوء لهذا منعتني. لكن حقيقية ما حدث كان بسبب الطبيب الذي كان يعالجني وقد شخص حالتي بأنها خطيرة وفي مرحلة ما ستحتاج مشفى أمراض نفسية."

عيوني قد عانقت السماء، تتمعن النظر في النجوم والقمر.

"وما سبب هذا الأكتئاب؟ أهي بيرلي؟" سأل من جانبي بفضول وقد شعرت بنظارته تتفحصني باهتمام.

"العالم كله هو سبب بؤسي أركان." رددت عليه متنهدة.

"ليس العالم بل أنتِ." كان يتحدث بنبرة جادة وواثقة جعلتني أشعر بالسخرية.

ابتسمت هازئة وأنا أقلب عيوني في هواء بأستخفاف.

"أنت لا تعلم شيء لذلك تقول هذا."

"أنا أعلم، وأنت تعلمين ذلك. وتعرفين أن كلامي صحيح لكن تريدين لعب دور الضحية." كان يحاول تقليد نبرتي الساخرة.

أستند بكفيه على التربة الخشنة وأرجع ظهره إلى الخلف يستمر بالتحديق بي باهتمام.

"أنا لا ألعب دور الضحية، أنا بالفعل كذلك. هل تظن أن ما حدث معي هو بالشيء الهين؟" سألته مستنكرة وأنا ألقي نظرة خاطفة عليه.

"كان يمكنك تجاوزها وجعل حياتك تمر بسلاسة، جعل علاقاتك مع كل لطيفة، وخاصة جعل علاقتك مع ذاتك أكثر دفئ وحبا، لكنك من قررت العيش في هاجس الماضي دون أن النظر إلى أمام. الخيارات المتحة أمامك كثيرة لكنك تدعين العمى."

ظللت أستمع له وأنا أهز رأسي بعدم تصديق.

هو لن يفهم مثل البقية. هو لن يستطيع فهم ما مررت به مطلقا.

لقد سمعت ذلك الهراء مرات كثيرة ومن العديد الأشخاص الذين ظنوا أنني أحببت ما أنا فيه، لكن في واقع كان هنالك شعور يقبع داخلي يشعر بالأشمئزار من ذاتي الضعيفة. ذاتي المنهزمة الغير قادرة على تجاوز.

"أنت تشببهم أركان." تمتمت وقد قررت الأستلقاء على الأرض لأراقب السماء والنجوم.

"ألم تفكري يوما أن ذلك هو المنطقي بما أن الجميع قال ذلك؟ ألم تفكري أنك أنت هي على خطأ؟ في بعض الأحيان عليك أن تعيدي جميع حساباتك. أنت لن تستطيعي رؤية عيوبك إلا إذ أشار عليها أحد." رد عليا بهدوء وهو يستلقي بجانبي.

كلانا كان يراقب السماء بصمت بعد حديثه. كانت صافية ولهذا كان القمر والنجوم واضحة كما كانت تنير المقبرة.

"بيرلي هي التي تقربت مني في البداية وعلى عكس بقية رفاقي في ذلك الوقت الذين كنت أتعرف عليهم عن طريق مصالح عائلية مشتركة، بيرلي الوحيدة التي تعرفت عليها بشكل طبيعي في السنتي الأولى من ثانوية." بدأت بسرد قصتي لهمع بيرلي.

كنت أرغب بأفراغ مكنون صدري خاصة أنني لم أتحدث عن الموضوع إلا في إطار العلاج. لم تتح لي الفرصة من قبل للحديث عنه برغبتي التلقائية الحرة. بل كنت مجبورة لهذا كنت أكذب كثيرا عند وصف أحاسيسي ومشاعري أمام الطبيب.

ولا أعلم الآن لم شعرت برغبة بالحديث عن الموضوع خاصة معه.

"كانت ابنة مصممة أزياء شهيرة، كانت جميلة ولطيفة يحبها الكل على عكسي أنا. كنت منطوية ومكروهة من قبل الجميع بالرغم من أنني ابنة لعائلة ثرية وكنت الأولى على مستوى الثانوية الا أنني لم إحضى بشعبية الأشخاص محبوبين كبيرلي."

رطبت شفاهي وأنا أقوم بأسترجاع ذكرياتي في تلك الفترة.

"كان ذلك بسبب أمي التي كانت لا تترك أي فرصة في تهديد الكل لأبعادهم عني. كانت تظن أنهم لا يناسبون مستوانا الإجتماعي ولا فائدة من مرافقتهم. لهذا كنت منبوذة ومكروهة. لم يجرب أحد الأقتراب مني سوى بيرلي."

لا أعلم للآن أن كانت ماما السبب فيما حدث أو لا...

لكنها هي من كانت تبعد الكل عني، أبعدت جميعهم بحجة الطمع ما عاد بيرلي التي رأتها كصديقة مثالية لي. هي كانت تدعي أنها تجيد قراءة نوايا الناس. لكنها لم تنجح أبدا في معرفة نوايا بيرلي.

"الفتاة المنبوذة والأكثر كره في المدرسة والفتاة المحبوبة وأكثر شعبية في ثانوية. هكذا كنا نحن، مزيج لا يتطابق ومن مستحيل تخيله." أطلقت صوت ساخرا وأنا أتذكر الألقاب الغريبة التي كان يطلقونها علينا في الثانوية. مثل الطاووس والغراب.

"من البداية كانت هي من تحاول الالتصاق بي دوما، تدافع عني حينما يحاول أحد مضايقتي وتحاول جعلي أقتراب من بقية الطلاب بالرغم من أنهم كانوا خائفين مني، من أمي ونفوذ عائلتي."

للأن لا أجد سبب منطقي لكل تصرفاتها تلك، لم أكن أستيطع لحد هذه اللحظة تصديق أنها فعلت كل هذا من أجل أن تزداد شعبيتها لا أكثر. من أجل أن تتقرب من ابناء العائلات الغنية.

"ظننت أنها نواياها حسنة. لهذا وثقت بها. لهذا أحببتها واعتبرتها صديقة لي وجعلتها مقربة من عائلتي. جعلتها تجالسنا وتنضم إلى إجتماعات وحفالات المجتمع الاستقراطي. أنا من منحتها اهتمام الجميع بها بعيد عن تفاهة الثانوية."

"إذ لم أصدرت إشاعات بأنك غريبة الأطوار وقد قمت بالأعتداء بالضرب عليها وشتمها مع أنك كنت جيدة معها؟ لم قامت بتشويه صورتك وجعلتك عاهرة في أنظار الكل." تساءل من جانبي بأستغراب لادير رأسي له وعلى معالمي حيرة ممثالة له.

حيرة ممزوجة ببعض الحزن.

"للأن لا أعلم. هي كانت مشهورة بالفعل لم رغبت بشهرة أوسع؟ لم أنقلبت في ليلة وضحاها؟ لم فعلت ذلك بي مع أنني لم أسئ لها."

ظللت أتبادل النظرات معه لثواني بصمت.

أنا لم أعثر على الكلمات المناسبة لوصف شعوري أو أكمال حديثي مع ذلك هو لم يتكلم بل ظل صامت ينتظرني بصبر دون أن يعلق أو يساءل مع ذلك عيونه كانت لا تزال معلقة عليا باهتمام.

كان يحترم الموقف الذي كنت فيه ويتصرف معي بنضج ووعي لم تمتلكه حتى ماما وأنا كنت ممتنة له.

"هل فعلت ذلك لأني أصبحت رفيقة مع أصدقائها الذين عرفتني هي عليهم؟ أو لأن أمي عارضت علاقتها مع فرانسيسكو وهو تخلى عنها ببساطة؟ لم لم تنتقم منه هو وماما إذ؟ ما الخطأ الذي أرتكبته أنا؟ لم أنا أتحمل عواقب أفعال لم أقترفها؟"

ابتسمت رغم عني بسخرية على البؤس الذي كنت أعيش فيه.

"نشرت إشاعات كاذبة عني، أتهمتني أمام الطلاب بأنني قمت بالأعتداء عليها. كانت تبكي وتتحدث وكأن ما حدث حقيق، تخيل أن قامت بتنزيل فيديو على مواقع التواصل الإجتماعي تحدث فيه عن تجربتها الكاذبة حتى تحريض كل المدرسة ضدي."

تنفست بقوة أحاول تهدئت من نبضات قلبي التي أرتفعت فجأة.

"كانت بارعة في تمثيل دورها. وقد نجحت في كسب تعاطف الكل وجعلي أنا الشريرة في القصة. جعلي الفتاة التي تتعرض للكره والأستحقار من طرف الجميع من في الثانوية حتى الأساتذة والعاملين."

نظرت بجانبية إلى السماء حتى أتجنب مقابلة عيونه التي لا تزال تحدق بي باهتمام.

"أين كانت عائلتك؟" تساءل بعد فترة وجيزة بهدوء وثابت يجعلني أخرج نفسا صغيرا محاولة دفع الغصة التي علقت في حلقي فجأة خارجا.

"كانت ماما خائفة من أن تتأثر سمعة العائلة. هي أساسا لم تكن مهتمة بي في ذلك الوقت وكانت مهتمة أوساكا لكونه ولد بشلل في ساقه اليمنى لذلك أمي كانت تحضر معه دوما حصص العلاج الطبيعي أما فرانسيسكو."

رفعت حواجبي بحيرة لا أعلم كيفية التعبير.

"لم يكلف نفسه عناء الدفاع عني أو أخبار بابا حتى." أجبت بعد فترة من الصمت بنبرة خافتة وضعيفة غير معهودة مني.

"لم لم تخبريه أنتِ؟"

لم لم أخبره؟

ذلك هو أول سؤال طرحه بابا حينما سمع الموضوع أيضا. مع ذلك لم يفكر أحدهما بوضعية الفتاة المراهقة الضعيفة التي كنت عليها.

"لم أكن أعلم كيف سأقف أمام بابا وأخبره أن ابنته مكروهة من قبل جميع المدرسة. أن ابنة البكر الجنرال والكر ليست مثله تكسب أحترام والتقدير من كل. كما كنت خائفة من أنه لن يصدق أنني الضحية كما فعل الكل. مجرد التفكير بالأمر صعب."

ربما يراه الكل مبرر سخيف، لكن بالنسبة لفتاة في سابعة العشر من عمرها مكروهة من قبل الجميع ولم يصدقها أحد في ذلك أو يدافع عنها حتى شقيقها التوأم. لذلك كان من المستحيل لها أيضا أن تفكر بأن والدها التي تراه نادر بسبب العمل سيصدقها.

"لا أفهم للآن ولا أجد سبب منطقي لهدوء أمي بعد سماعها بالموضوع من قبل أحد أولياء الأمور. مالذي جعلها تصمت ولا تحاول أن تتبهى بسلطتها مثل العادة في حين أنني كنت في خطر حقيقي؟" هذه المرة نبرتي خرجت ساخرة رغم عني.

عدت بذلك من الإنكسار الذي عصف بي فجأة إلى طريقة حديثي إلى الساخرة والباردة. هكذا ما كنت أريد أن أدعيه أمام أركان.

"لكن أمك نقلتك إلى مدرسة جديدة فيما بعد أليس كذلك؟ فكيف تقولين أنها لم تساعدك؟" تساءل بحيرة من أمره وأنا أشعر بنظراته تزداد فضول.

"أجل حدث ذلك في سنتي الأخيرة لكن بعد أن تدمرت حياتي تماما. مساعدتها لي كانت متأخرة، متأخرة جدا. بعد أن غرقت في البحو وسبحت ناحية الشاطئ ولامست الرمال هي ساعدتني فقط على وقوف. هكذا بالضبط كانت مساعدة ماما."

رغم عني كنت أرسم معالم هازئة على وجهي لا تناسب وضعيتي.

"هي مساعدة في نهاية وحتى أن كانت متأخرة. أساسا قد قلت لي أن أمك قد كانت منشغلة مع مرض شقيقك الأصغر بينما أنت كان يمكنك تدبر أمورك. لم لم تدافعي عن نفسك أمام الطلبة وبقيت صامتة؟ كان لديك حلول كثيرة لكنك تغاضيت عنها."

أنه يتحدث مثل الكل. أنه يتحدث مثل الناضجين في ذلك الوقت!

هززت رأسي بعدم تصديق أقوم بشتمه عديد المرات في عقلي.

"أنت لا تستطيع فهم الأمر! أنت كل ما تفعله الآن أنك تقف في صفي ماما وتلومني أنا الضحية!"

"هل تريدين مني صفعك بالحقيقة التي تتجاهلينها أو احتضانك مواساتك عما حدث في الماضي والأعتذار؟" رد بدوره هازئا.

بالرغم من ردوده القاسية يعجبني كيف أنه لم يرسم معالم شفقة وأسف كما فعل الكل من قبل. كان يتصرف معي بالطريقة التي أحبها أنا، بالطريقة التي تناسب شخصيتي حاليا.

"ما هذا القرف الذي تتفوه به الآن؟ هل حل غزو فضائي على عقلك؟"

"ألا تظنين أنه قد حان الوقت لفتح الموضوع من جديد مع عائلتك وحل المشاكل التي بقيت عالقة بينك وبينهم؟" تجاهلني يستمر بالحديث عن الموضوع.

أطلقت صوتا ساخرا وأنا أعود للأستلقاء على ظهري.

"أساسا لا أعلم لم أقص هذه الحكاية على عفريت يخرج من لوحة لعالم خيالي." سخرت منه بدوري وقدرت قررت تجاهل أقتراحه.

اخبرتك مئات المرات أنني شخصية حقيقة ولست عفريت! بجدية أين كان لسانك الطويل ولاذع فيما مضى؟ أرهان لو أنك كنت بهذه الشخصية في ماضي لكنت هتلر الخاص بالثانوية." تحدث ضاحكا يجعلني ابتسم بدوري وأنا أرمش بعدم تصديق.

"أتعرف هتلر أيضا؟"

كنت متفاجئة من كونه يعلم عن تاريخنا.

"أنا أعرف كل شيء عن عالمكم."

"كيف؟"

"كيف كيف؟ أنا أخرج منذ سنوات من لوحة، منذ مراهقتي."

"لقد تذكرت الآن فقط أن أسألك عن عمرك." تحدثت استند بمرفقي على الأرض وأريح خدي على كفي أنظر له حيث كان مستلقيا على ظهره يراقب السماء دون أن ينظر لي.

"نسيت، لم أحفظ التواريخ أعياد الميلاد يوما."

"لم؟"

"لأنها غير مهمة."

"أظنك بائسا أكثر مني أركان." سخرت منه.

"لا تقلقي لا أملك ماضي سيء مثلك فلم ينجح أحد في تدمير حياتي سواك." تحدث ساخر يجعلني أطلق ضحكة صغيرة رغم عني.

"كيف كان يزعجك الطلبة؟"

مططت شفتاي إلى أمام ثم حككت شعري بتفكير.

"تنمر إلكترونيا في مجموعة الطلبة وعلى صفحتهم الشخصية. كانوا يكتبون شتائم على طاولتي، يرمون عليا القمامة وورق المرحاض حينما أكون فيه. كما كانوا يرمون كلمات لاذعة في كل مرة أمر فيها من أمامهم. والرسائل الكارهة كانت دوما تملئ خزانتي."

جلت بعيناي في كل مكان محاولة تذكر المزيد لأنه كانوا لا يتركون أي فرصة لخلق طريقة مختلفة للتنمر عليا.

"كما كانوا يتجنبون الجلوس بجانبي والاقتراب مني حتى في موعد الطعام كنت أكل لوحدي، فور أن أجلس ينهض الكل وكأني مصابة بمرض قاتل. في واقع قد أعتدت على ذلك لأنها ذات الطريقة التي كانوا يتصرفون بها معي من بداية بسبب أمي."

"طرقهم تقليدية ومملة للغاية. لو كنت مكانهم لاستمتعت بصنع تسريحات قبيحة في شعرك." كان يسخر مني غير مكترث بحواجبي التي كانت ترتفع بتهديد مع كل كلمة كان يتفوه بها.

امسكت حفنة من التراب في يدي ثم رميتها على وجهه عن قصد ليتأوه بألم وهو يقوم بفرك عينيه.

"هذا جزء الأشرار أمثالك أركان." همست من بين اسناني بضيق وأنا أتراجع إلى الخلف ثم أعود للأستلقاء على ظهري على بعد مسافة منه تجنب لرد فعله.

"أي شيطان تعبدين يا فتاة؟ وكأن الشر بعينه يتجسد على هيئتك حينما أكون معك." تحدث وهو يحاول فتح عيونه المحمرة أثر دخول التراب فيها.

"أظنك قد تعلمت مما حدث في الماضي وأصبحت بالفعل شيطانة." قال بعد فترة من زمن وقد عاد لفتح عيونه بشكل عادي على الرغم من حمرة التي كانت فيها.

"أجل. لهذا أهدد وأتصرف بسوء ولؤم مع الكل. هكذا تعلمت من ماما كيف أكون قوية."

لا أعلم لم كنت صريحة جدا ولم أفكر في الكلام قبل التفوه به.

"أنتِ تعجبني هكذا." قال بعد فترة طويلة من الصمت يجعلني أنظر له.

"أهذا أعتراف غير مباشر؟"

"ممكن." قال بعد أن نظر لي هو الآخر.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي