الفصل الثالث لوحة

"ماما! ما هذه اللوحة؟" سألت فور أن أقتحمت المنزل أرمي حقيبتي جانبًا وأسرع بالسير ناحية الأمي التي كانت برفقة العامل ترشده إلى كيفية وضع اللوحة.

ابتسمت بهدوء ملتزمة الصمت.

ضيقت عيناي بضيق بسبب ابتسامتها المشرقة واسنانها ناصعة البيض أكثر من اللازم. كأنها حبات لؤلؤ، متسوية ومتراصفة بمثالية. وكم أمقت هذه المثالية المطلقة.

حمحمت عن قصد حتى يغادر العامل المكان ليسرع الثاني بأخفاض عيونه إلى الأسفل وهو ينحني ويحمل حقيبته ويودعها راحلا من المكان على عجلة.

أي أحمق هذا حتى يقبل العمل مع ميليسا والكر بل وزيارة منزل عائلة والكر المملوءة بالحيوانات المفترسة؟

"مرحبا جميلتي ميلانو؟ كيف كان يومك الأول؟" تساءلت أمي بابتسامتها المثالية المعتادة ونبرة صوتها الأنوثية وهي تقف بأعتدال واستقامة رغما طول كعبها العالي، خمسة عشر سنتيمتر تتحرك بها بطبيعية.

"أتمنى أنه كان جيدا وأنكِ قد أقمتِ بعض الصداقات وحتى ولو كانت مجرد زمالة بالصف. سأكون مسرورة جدا بإقامة حفلة لرفاق ابنتي كونها خرجت للجامعة لأول وحصلت على أصدقاء. هل أبدأ بتحضير الحلويات والمشروبات؟" ثرثرت أمي مثل عادتها.

إلا أنني ظللت أراقبها بنظرات باردة لتدرك ماما أخيراً أنه من مستحيل لابنتها أن تقيم صداقة مع جنس البشر.

"أقوم بطلب غداء خصيصا لجامعتك غدًا باسم عائلتنا حتى يساعدك ذلك على أنخراط في مجتمع الجامعي؟"

ردي كان عبار عن رمشة واحدة لتعلم بها أمي أن إجابتي هي الرفض القاطع.

"حسناً أنسي الأمر. كيف كان يومك؟"

كانت تراقبني بعينيها الفيروزية المشرقة بانتباه تم.

أكره مثالية أمي هذه.

شعرها الأشقر المصفوف بعيانة وملابسها الرسمية الأنوثية. بشرتها الصافية ومكياجها الناعم. وعقد اللؤلؤ ذاك الذي أهداها لها والدي منذ عشرين عام. كما أكره قصة حبهما المقرفة التي تتداول على ألسنة جميع معارفنا.

"سيء جداً. الأستاذ لم يعجبه ذوقكِ في أختيار اسمي. أطرديه!" أجبتها ببرود وأنا أتصفح اللوحة التي أمامي.

"ميلانو عزيزتي ليس كل شيء يحل بالطرد. كما أن الناس من حولكِ ليس من ضروري أن يحبوكِ ويتقبلوك."

وها قد قامت أمي بفتح مواضيعها المعتادة.

"لأول مرة أمي أشعر أن لديكِ ذوق في شيئا ما." قلت وأنا أخطو إلى الأمام حتى أتلمس قماش وألوان هذه اللوحة التي جذبت أنتباهي للتو.

كانت عبارة عن قصر مظلم وفخم في منتصف الليل. السحب كثيفة وداكنة ولا وجود للنجوم أو القمر.

غربان وخفافيش تحلق في الأفق وبومة عملاقة ماكثة في شجرة الجوز المحترقة. القبور أمام القصر والجماجم والعظام التي برزت من أسفل التربة المحفورة راقتني.

القطة السوداء الصغيرة التي تنام على القبر الضخم. والسياج الحديدي الشائك الذي يحيط بالقصر وحديقته. كان من الواضح إن هذا القصر قابع على جرف مهجور.

من دون مبالغة، هذا المكان هو قصر أحلامي. خصوصاً مع زينته القوطية وأبوابه ونوافذه الحديدة السوداء. شباكات العنكبوت المتواجدة في كل مكان والفأس والمجرفة قرب المستودع المتواجد بالخلفية. وعيون الرجل التي تطل من خلف الباب.

"ذلك بسيةبب الهياكل العظمية وجو الظلامي ومرعب للوحة أليس كذلك؟"

"كلا. بل لأن الفنان قد قام برسم هذه اللوحة بناء على أشكال رياضية وهندسية معقدة. يبدو أنه أيضاً قد تلاعب بقيس زوايا الأشكال بشكل متقن." قلت وأنا أبعد أناملي عنها بعد أن أنهيت تفحص كل أنش فيها.

"من هو الرسام؟"

رفعت أمي من جانبي حاجبيها بدهشة ثم قالت: "لم أتوقع أن لدى ابنتي عيون فنان! كيف عرفتِ ذلك بهذه السرعة؟"

"أستطيع الشعور بالخطوط المحفورة على قماش بمجرد لمسه. هنالك أشياء لا ترى بالعين المجردة لكن نشعره بها فور أن نلمسها."

"أظنني سأخذك معي في المرة القادمة حينما أشتري لوحة جديدة." تحدثت أمي بحماس طفولي وهي تقف بجانبي تماماً تراقب معي اللوحة بثبات.

"قد خاضت رحلة طويلة للوصول للأرجنتين وحقيقة لا أعلم من هو رسامها، لكن تم العثور عليها مؤخرا في أحد المقابر من قبل أحد المنقبين عن الذهب والمجوهرات. لهذا لا يملكون بعد المعلومات الكافية عنها. لكن أشعر أن هنالك لغز ورائها وحينما تكشف سأستطيع بيعها بملايين دولارات."

"بكم أشتريتها؟" تساءلت بفضول وأنا أدس يداي في جيوب سترتي.

"ليست باهضة الثمن. خمسة عشر مليون دولار." تحدثت وهي تتأرجح في مكانها بحماس تدقق النظر في الهندسة المعمارية الملفتة والجميلة للقصر.

"من واضح أنكِ فخورة جدا بما صنعته."

"بالطبع!"

"بالرغم من أن السابقة أغلى. كانت بأربعة وعشرين مليون دولار أليس كذلك؟" تساءلت وأنا أنظر لها بجانبية. لتنظر لي من الجانب بابتسامة صغيرة.

"لقد بعتها صباحا بخمسون مليون دولار."

ثم يسألني أحمق كيف لأمي أن تجمع كل هذه الثورة خلال أعوام قليلة؟

لا يعلمون أبداً أنها تعشق الممنوعات.

"مزاد خفي وغير قانوني مثل العادة؟" سألتها ساخرة رغما علمي بالإجابة مسبقا.

"واسم مستعار مثل العادة. من سيجرأ على أعتراض طريق زوجة جنرال وابنة أخ عمدة البلدة؟" تساءلت لا تسقط تلك الابتسامة من على ثغرها على الإطلاق.

"الأحمق الذي لم يعجبه اسمي." حاولت تذكيرها بالأستاذ لكن عبثا.

"أظنكِ ترغبين بمحاضرة عن علم الإجتماع ميلانو؟"

"هل تريدين تعذيبي نفسيا؟ أنسي الأمر و أنا سأذهب بسلام من هنا."

مباشرة منحتها ظهري مبتعدة.

"عليكِ أن تكوني أكثر حذرا وأنتِ تتعاملين مع جماعة المافيا وتتلاعبين مع السياسيين." حذرتها وأنا أسير بخطى كسولة ناحية الداخل.

"لا أظن أن أحداً سيجرأ على الوقوف أمام سيدة فاتنة ورقيقة مثلي." سمعتها تتحدث من خلفي بنبرتها اللطيفة المعتادة.

أنها محقة.

من سيجرأ على الوقوف أمام إمرأة تحمل قلم في يد وفي اليد الأخر تحمل سكين حادة.

لا أحد سيقف في وجهها سوى بابا الأكثر جنونا وهوسا منها.

ابتسمت ساخرة وأنا أصعد الدرج بخطوات واسعة حتى أصل سريعًا إلى غرفتي.

"باغيير." ناديت الفهد الأسود الذي نربيه في منزلنا. لكن بدل ذلك سمعت صوت الثعلبة لولا وهي تنادني من الأعلى بينما وقف إلى جانبها القرد موكو.

"أبتعادا عن طريقي. أحمقان." صرخت بهما وأنا أمر من بينهما.

"لم أناديك. سحيلة سخيفة." قلت وأنا أدفع سحلية أخي الأصغر بقدمي إلى الغرفة من جديد بعد أن أطل بعيونه الفضولية من خلف الباب.

"لا أدري ما الفائدة من تربيت قط بري داخل المنزل. ألم يكن من المفترض أن نربي أسد أفضل؟" تمتمت متساءلة وأنا أتجاوز بابو. القط البري الذي كان نائما على ظهره في منتصف الرواق تماماً مثل حيوان الباندا.

جميعهم حمقى.

"باغيير." هتفت بمرح فور أن أقتحمت غرفتي ووجدت باغيير مستلقية على سريري تنتظر موعد رجوعي.

"حبيبتي الجميلة." قلت بابتسامة واسعة فور أن نهضت من محلها وقامت بالركض بأتجاهي بحماس وسعادة.

"أشتقت إليك أيضاً ايتها الصغيرة." قلت مقهقهة بعد أن قفزت عليا تحتضني وتقوم بملامستي مثل القطط تماما.

"حسناً حسناً لستِ صغيرة." قلت مقهقهة ما أن أطلقت زئير صغير ومكتوما تعبر به عن انزعاجها من نعتي لها بالصغيرة.

تم دفعي فجأة على الأرض من قبلها لتتعالى قهقهاتي وأنا أراها تصعد عليا ثم تقوم بالمسح على جسدي بواسطة رأسها. أقتربت من رقبتي العارية تدغدغني بواسطة فرأها وتجعلني أضحك بعلو أكثر.

بجدية أي عاقل يربي قطة صغيرة ويترك متعة تربية القطط الكبيرة؟

البشر لا يفهمون فنون تربية الحيوان.

"كيف مر يومك عزيزتي؟" سألتها وأنا أقوم بحك رقبتها لتصدر مثل مواء صغير. لطيف. مثل أفكاري تماما.

"بالنسبة لي كان سيئا جداً. ما كان يجب عليا أن أفصح عن هوية والدي، لو لم أفعل لكنت أفتعلت مشكلة وطردت وأرتحت من ذلك المكان البائس." أكملت وأنا أدفعها بلطف بعيد عني حتى أنهض.

"الطلاب حاولوا التنمر عليا لكن أعترضت طريقهم. والأستاذ أيضاً قد أوقفته عن حده حينما سخر من اسمي. أظنني نجحت في السيطرة على مكان ونشر نفوذ عائلة والكر. نفوذي."

جلست مرتبعة على الأرض بينما هي وضعت رأسها على حجري.

"لم تخرجي من الغرفة اليوم صحيح؟" سألتها ما أن لاحظت أن فراءها متسخ بشيء لزج. مسست فروها المتسخ ثم قربت أصابعي من أنفي أشتمهم.

أعرف هذه الرائحة!

"لا تخبريني إنكِ تسللت إلى المخزن من جديد وأكلتِ من عسل ديونيسوس؟ أبي سيقتلك ويقتلني حينها. ثم ألا تعرفين أن الأشياء الحلوة مضرة لبصرك؟" عاتبتها ثم عقدت حواجبي فجأة بغرابة.

"أكان الحلو أو السكر؟ نسيت." همست بتفكير لتطلق باغيير زائير خافت قبل أن تنهض.

هي سئمت من ضجيجي وثرثرتي بكل تأكيد.

"باغ. تعلمين أنني لا أملك أصدقاء ولا أتحدث حتى مع أشقائي." حاولت كسب عطفها لكنها تجاهلتني تجلس على التخت.

مع من سأتحدث أن نامت هي؟

"أنتِ صديقتي الوحيدة."

رفعت رأسها لابتسم لها بسعادة لكنها نهضت ومنحتني مؤخرتها وعادت للأستلقاء على السرير تعود للنوم. القط يبقى قط مهما كان حجمه.

أطلقت صوتا ممتعضا ثم دفعت بجسدي للنهوض من على الأرض.

دفعت باب الشرفة وخرجت أعصي كلام بابا للمرة المليون.

أسندت يداي على السياج البارد وبقيت أدندن مع موسيقى الروك الصاخبة وأنا أنظر إلى السماء.

متى سيحل المساء؟

عبست وأنا أريح ذقني على يداي أخفض نظري ناحية حديقتنا التي كانت أضعاف منزلنا بثلاث مرات.

عيوني ألتقطت هيئة ديونيسوس، الدب البري الذي يربيه بابا منذ خمسة وعشرين عام. كان يفعل ذلك ما أن وجده ديسم صغيراً قد تاه من والدته وأختبئ
في منزل بابا للصياد وأكل صيده ثم بات صديقه. كان دب عجوز مع ذلك كان شرسا ولا يدع ألا بابا يقترب منه ويلاعبه. بينما منع علينا الأقتراب من الحديقة خوفا علينا منه. لأنه شرس.

"تبا لكَ." شتمته من أسفل أنفاسي حينما رفع رأسه فجأة ينظر لي.

أحياناً كثيرة أشعر بأنه أخونا الخامس. ومفضل والدي. لقد سرقه مني هذا اللئيم.

ضيقت عيوني بكره له ثم أعتدلت في وقفتي.

الشرفة محرمة علينا أيضاً بسببه. ذات مرة وقع أخي الأصغر مني وكاد يلتهمه لو لم يلحقه بابا في اللحظة الأخيرة. كما أنه متسلق ماهر. نجح مرة ثانية في الدخول إلى شرفتي. وأستطاع أقتحام غرفتي لكن لحسن الحظ لم أكن موجودة حينها أو أنتهى أمري كفضلات مقرفة لحيوان الدب.

أكرهه.

كشرت اسناني له بأزدراء ثم دخلت.

تنهدت وأنا أقف أمام الباب أراقب غرفتي المطلية باللون الأسود. حتى حمامي وسريري كنا بذات اللون. زينة الهياكل العظمية. والحيوانات المحنطة.

عقدت يداي ناحية صدري وأنا أرسم ابتسامة ساخرة.

ثم يسألوني لم أنتِ غريبة الأطوار؟

جرب أن تكون أولا ابنة لجنرال والكر حينها ستعلم ما هي غرابة الأطوار جيدا.

.

.

.

"هل كان عليا رفض تناول العشاء مع عائلتي؟" همست وأنا أغلق باب غرفتي من خلفي بهدوء.

"بالطبع! لأن فرانسيسكو معهم." تحدثت من بين اسناني بغل وأنا أمشي على أطراف أصابعي.

"فرانسيسكو اللعين الذي يظن نفسه مفضل والدي، فخر عائلة والكر لأن نسبة ذكاءه قريبة من نسبة ذكاء انشتاين وأكمل دراسته الجامعية منذ السن السابع عشر." أكملت تذمري بهمس.

تبا له.

تبا.

"يظن نفسه محور الحياة في هذا البيت." أضفت بأستياء.

أطلقت صوتا ممتعضا وأنا أشد الوشاح حولي بقوة.

"لو له هو لكنت قد أكلت منذ ساعات ولست أتسلل الآن مثل اللصوص بعد منتصف الليل أبحث عن طعام في الثلاجة." أعقبت وقد أشتعل غضبي أكثر.

شد انتباهي صوتا غريبا. ونور خافت أنار المطبخ. يبدو أنه صادر عن الثلاجة. وكأن أحدهم داخل المطبخ.

من هناك في مثل هذه الساعة؟

ثم لمحت ظل أحدهم يعتدل واقفًا.

كان لرجل.

أهو فرانسيسكو؟

مشيت بهدوء أكبر، أمشي مع الحائط تماما حتى لا يعرف بوجودي ذلك الدخيل. وفور أن وضعت يدي على الحائط بغاية إلقاء نظرة من وراءه شهقت برعب حينما تم سحبي من قميصي فجأة.

"تبا." همست فور أن وقعت عيوني على هيئة الفاعل.

"ميلانو. مالذي تقومين بفعله؟" تساءل أخي الأصغر أوساكا بينما يحك عينه اليسرى بنعاس ويحتضن سحليته المختنقة ناحية صدره بقوة.

من هم في عمره ينامون مع دبابة محشوة وألعاب جميل وهو ينام مع حيوانات برية!

وليس أي حيوان بل سحلية ذات عيون مخيفة!

مقرف.

لكن لا بأس بذلك ولا أمتلك مانع بما أننا جميعا قد حصلنا على ذات التربية بالتساوي.

"ماذا تفعل هنا ساكا؟" سألته بنبرة الأخت الكبرى الجادة والأمرة مع أن أشقائي الأصغر مني سن للأسف لا يمتلكون أي أحترام ناحيتي. لأنني أفعل المثل مع فرانسيسكو. ليس لأنه أكبر مني بساعتين يظن نفسه سيد المنزل.

"أنا وأوسكار جائعان." قال يرفع سحليته عاليا. كشرت عن اسناني بتقزز وأنا أخرج لساني بقرف. عيون أوسكار مثيرة للأشمئزاز.

تجاهلته كأنه غير موجود وعدت للسير.

لكن فور أن أقتحمت المطبخ لم أجد أي شيء. وحتى المكان كان نظيفا جدا مثلما تتركه مدبرة المنزل ليدي ككل ليلة مما يعني أنه لم يقتحم أي همجي من أخواتي المكان.

إذ من كان هنا؟

أما كنت أتوهم؟
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي