الفصل الثامن عشر أصدقاء

"ألم أمنحك عطلة براد؟" سألت براد الذي أستمر بالسير خلفي داخل حرم الجامعة. يلاحقني تماما مثل ظلي.

نظرات الطلاب وأحاديثهم كانت تزداد بسبب مرافقته لي. حتى الذي لم يكن يعرفني سيصبح كذلك ما أن يرى الوحش الذي يسير خلفي.

براد كان طويل القامة ببنية ضخمة. في أوائل الثلاثين من عمره تقريباً. برأس أصلع ونظرات سوداء لا تنزل من على عيونه مطلقا. لهذا مظهره كان مشبوه لحد ما، كان مثير للأنظار ومسبب لتوتر.

"لا أستطيع تركك وحيدة يا آنسة." أجاب بجمود وبلا ملامح مثل الروبوت.

هل يبدي أعتراضه تجاه أوامري؟

توقفت أنظر له من خلف كتفي بسخط.

"كيف تجرؤ على عصيان أوامري؟" سألته بحدة لكنه ألتزم الصمت.

استدرت له بكامل جسدي وسرت أقترب منه حتى لا يسترق أحد السمع لحديثنا.

"عليك تنفيذ رغباتي براد ذلك أن لم ترغب بأن يتم طردك من خدمتي. وحتى من خدمة بابا." تحدثت بصوت خافت ومحذر.

"لا أظنك ستكونين سعيدة يا آنسة أن أخبرت السيد بما حصل معك بسبب الرجل المقامر صحيح؟"

فتحت شفاهي بصدمة حينما قام بتهديد دون أن يبدي أي علامة عن تردده في فعلها حقا.

"هل قمت بتهديدي للتو؟" تساءلت بتفاجئ ممزوج بسخرية. غير مستوعبة بعد لبؤرة التهديدات التي وقعت فيها هذه الفترة. أنا ميلانو والكر التي لم تهدد يوما أصبحت كذلك لكل من هب ودب.

"بل أقوم بحمايتك يا آنسة. لا أستطيع بعد ما حدث البارحة وما سمعته منك تركك وشأنك. يجب عليا الدفاع عنك لأن الوضع من حولك بات خطير."

"أنا أعلم ما يصلح بي براد، وأعلم أيضا كيف أدافع عن نفسي."

"لا يجب عليك التحدث أو تصرف بهذا الشكل في هكذا حالة. من مفترض أن تكوني مدركة جيداً لحساسية الأمر الذي وقعت فيه الآن."

زفرت الهواء بحنق التزم الصمت ولا أقوم بإجابته أقرر أكمل طريقي دون أن أتناقش معه طويلا لأن براد عنيد.

وكما هو معروف عن أي حارس شخصي يوكل للابن من قبل والده فبراد دائما وفي لسيده الأصلي أي والدي وليس لي بالطبع. لذلك سيكون من السهل عليه جدا توريطي.

"هل ستقابلين ذلك الرجل من جديد الليلة؟" تساءل مما جعلني أعقد حاجباي بحيرة.

هل أنا مستعدة لمقابلته؟

"لا أنصحك بعدما رأيت ما صدر بسببه ليلة البارحة. أين كان يقابلك من قبل حتى أستطيع إنهاء الأمر معه دون توريطك أكثر؟" أستمر براد بالتحري عن الأمر.

لم أكن أعلم كيفية التصرف معه لأنني كذبت بشأن بعض التفاصيل. لم أخبره أن أركان كان يخرج كل ليلة من منزلنا عند منتصف الليل. ولم أخبره أنه قد تسلل لغرفتي ليلا لمرتين. ولم أخبره أيضا أنني رأيته مرة يختفي مثل السحر.

"أهتم بشؤونك الخاصة وتوقف عن تدخل بي."

"كل شؤوني هي أنت يا آنسة. لذلك عذرا، لكن لن أستطيع تركك وشأنك. ليس بإمكاني الوقوف ساكنا دون معرفة مشاكلك، دون حمايتك. لأن هذا هو عملي. أتمنى أن تتفهمي ذلك."

تنهدت وأنا أقرر تجاهله ثم استمريت بالمشي قبل أن ألاحظ من بعيد فجأة شاب أسمر كنت قد حفظت هيئته عن ظهر قلب. كان واقفا مع بأحدهن.

عيوني تفحصت من كانت معه ليتبين أنها السنفورة الزرقاء وريا التي أشارت عليا فور رؤيتي وهي تصرخ: "ها هي ميلانو والكر."

وفي لحظات قليلة كانت آيلينا تقوم بدفع كلاهما من طريقها ثم تبدأ بالسير تجاهي وعلامات الإنزعاج بادية على وجهها.

"أظنني وقعت في ورطةبراد." حدثته حينما بدأت آيلينا في في الأقتراب. لا بدا أنها ستوبخني لأني أفسدت حفلتها ليلة البارحة. لكني لست مذنبة.

"صباح الخير." حييتها أحاول أخفاء توتري لكن علامات الإنزعاج البارزة على محياها لم تكن توحي بأن آيلينا مسرورة برؤيتي مثل العادة.

"كيف لا تتصلين عليا بعد عودتك إلى المنزل سالمة؟ ألا تدرين حجم القلق الذي عشته بسببك ليلة البارحة؟" اجبتني فور أن وقفت امامي تجعلني أحدق بها بصدمة.

لأنها كانت قلقة علي ولأنني لم أتصل بها هي منزعجة الآن؟

"في الواقع أنا لا أملك رقم هاتفك." حاولت إجابتها بمنطقية أتهرب من الوقوع مجددا في تحقيق جديد. يكفيني جيس وبراد ليلة البارحة.

"لكن ميلانو كان يجب عليك على الأقل أن تحاولي. أنت لا تعلمين مدى القلق الذي شعرت به ليلة البارحة عليك بعد أن رأيت رجال غرباء يطاردونك."

تنهدت في نهاية كلامها وهي تدفع خصلات شعرها إلى الخلف.

"حديثيني عن أولئك الرجال ولما كانوا يطاردونك أنت ورفيقك؟ أنهم ليس من أعداء والدك او والدتك صحيح؟" تساءلت ثم ألقت نظرة خاطفة على براد الذي وقف جامدا من خلفي لا يتحرك.

"لا تقلقي كل أموري بخير وأنا محاطة بحراسة دائمة. في اليومين الماضيين فقط كنت قد لجأت إلى تسمع من دونهم لكن بعد ما حدث البارحة قد قرر والدي أن يتخذ إجراءات أمنية خاصة." كانت اثرثر كثيرا حتى اشتتها عن الموضوع.

والذي لا تعلمه آيلينا أنني إذ ثرثرت يعني أنني أكذب. وبراد حتما قد كشف ذلك.

حينما لمحت وجهها الذي تكاتلت عليه معالم القلق شتمت نفسي.

كيف سأنقذ نفسي منها الآن؟

"لهذا لا تقلقي كثيرا. دوما ما أتعرض إلى مثل هذه المضايقات من قبل أعداء والدي." استمررت بالكذب عليها أحاول أخذ دور الفتاة البريئة وابنة الرجل الشهم وليس الفتاة التي علقت مع مقامر وبدأت بالتسكع معه في كل الأنحاء.

"أشعر بالراحة الآن." تحدثت وهي تضع يدها على قلبها وهي بينما تزفر الهواء براحة.

"إذا كيف كانت الحفلة البارحة؟ مع أنني لا يجب أن أسألك مثل هذا السؤال بعد ما خضته البارحة لكني أتمنى كونك قد استمتعت ولو قليلا." قالت بابتسامة ودودة بعد أن تغيرت ملامحها المنزعجة كليا إلى ملامح أخرى لطيفة.

تقلبات هذه الفتاة وقربها شديد مني جعلني أقع في دوامة من الحيرة كونها لطيفة أكثر من اللازم معي وأنا لست معتادة على مثل هذا النوع من المعاملات.

بسبب أن الكل يعلم أنني شخصية حادة ومتسلطة، قوية وقاسية. لذلك ليس من منطقي أن يريد أحدا مصادقتي.

لكن آيلينا كانت تبدو وكأنها عمياء. دوما ما تتجاوز الحدود معي وتحاول دوما أن تكون على إتصال بي.

هذه العلاقة لم أجربهت من قبل. حتى تلك الفاسق بيرلي لم تكن تعاملني بتلك اللطافة أو الودية فقد كانت دوما تقوم بمضايقتي وتقزيم من شأني وجعلي أبدو سيئة أمام الكل.

كانت أستغلالية لدرجة كبيرة. تشعرني بالنقص من أجل أرضاء ذاتها. لذلك كنت أكن كره خاص للبشر  لأنهم منافقون وخبيثون وخاصة بعدما حدث لي معها.

بيرلي كانت في وقت ما  السبب في أن تتنمر كل المدرسه عليا. بدل أن أكون ضحية جعلتني أبدو شريرة وهي الملاك بعكس الحقيقة التي كانت خلاف ذلك تماما.

لا أحد يعلم أنه في وقت ما كنت وحيدة وضعيفة، منكسرة ومنهزمة ولا أملك من الثقة التي أملكها اليوم شيء.

بيرلي كانت هي شريرة بالقصة التي لم يسمع بها أحد سوانا.

ابتسمت لها بدوري لأول مرة بصدق أشعر بالامتنان لوجود أحد مهتم بي بهذه الطريقة خارج حدود عائلتي.

بالرغم من ذلك في داخلي كان هنالك خوف من أن تكون كل هذه المشاعر التي أظهرتها آيلينا تجاهي هي مشاعر مزيفة ومنافقة من أجل التقرب مني بهدف التصادق مع عائلتي.

كما حدث معي من قبل وكما كان يحدث دوما مع أخواتي.

"كيف حالك؟" أنتشلني من أفكاري صوت جومرد الذي تتدخل فجأة بيننا بعد أن أقترب منا. لكن يبدو أن السنفورة الزرقاء المختبئة خلفه غير قادرة على مواجهتي.

"بخير وأنت جومرد؟

"بخير أيضا. أتمنى أنه لم تحدث مشكلة معك ليلة البارحة بعد أن طاردك الرجال. حراس الأمن قد حاولوا تعطيلهم قدر أماكن بعد أن قام الساقي بمناداتهم." تحدث بنبرة ودودة.

جومرد جعلني أشعر بغرابة شديدة أيضا.

وهنا تساءلت، هل هم أغبياء أو متصنعين؟

هل يمكن أن يتواجد أشخاص مثلهما في هذا عالم البائس؟

بلعت ريقي حينما أستوعبت شيء ما.

الساقي!

تبا له. أتمنى أنه لم يخبر أحدا بأن أركان قد قام بضرب ذلك الرجل الواشي أو إننا نحن من سنصبح ظالمين.

"لما أنت مختبئة؟" تساءلت آيلينا بغرابة ما أن لاحظت اختباء صديقتها المستمر خلف جومرد.

"أنا لا أقوى على النظر في عيون ميلانو بعدما حدث ليله البارحة خاصة بعد أعترافي الخيف الذي لم أعلم كيف خرج من شفاهي حتى. طوال الليل كنت أدعو داخلي أن لا يكون الشاب قد شعر بالحرج مني أو أنه شعر بالأشمئزاز مني أو كرهني."

كنت أنا شعر بالأشمئزاز منها وازداد نفوري منها بعد ثرثرتها المتواصلة وتركيز على أركان أكثر من أي شيء أخر.

"بالعكس. كان معجبا بك للغاية. هو لا يغازل الفتيات عادة." رددت عليها ببرود وملامح باردة.

بسبب إجابتي ابتسامة خرقاء قد شقت وجه وريا التي قفزت من خلف جومرد.

"حقا؟ قد شعرت بالاطمئنان وأخيرا. كنت أفكر طوال الصباح بكيفية مواجهتك وكيفية لقاءه من جديد. أنا لم أستطع نسيانه."

لم عيونها أصبحت حالمة وبراقة فجأة؟

"أظنك أن هنالك ما هو أهم من السؤال عن صديق ميلانو." تحدث لينا بنبرة جادة مما جعل رؤيا تخفض نظرها بحرج وهي تعبث باظافرها.

"لقد نسيت." تمتمت بأسف وهي ترفع عيونها لتتظر لي.

"سعيدة أنك بخير." أعقبت وقد تلاشت معالم خجل تماما من وجهها.

هذه الفتاة ستصيبني بنوبة قلبية.

"لقد تأخرنا عن الصفوف لنذهب." تحدثت آيلينا وهي تعدل من حقيبتها.

قام جومرد بتوديعنا بعد أن تمنى لي يوما سعيدا وأن أحدثه أن أحتجت ثم أنصراف تجاه حبيبته ورفاقه.

آيلينا بدأت تسير برفقة وريا التي ظلت تثرثر حيال أركان بينما كنت أتبعهما من خلف.

"أنا سعيد لكونك قد حصلت على أصدقاء." تحدث براد من خلفي مما جعلني أقلب عيوني في الهواء.

"اتمنى ان لا تكرر ذلك أمام ماما.""

"لا تقلقي أنا لن أقول ولست في حاجة لفعل ذلك أساسا. كما قلت السيدة في المرة الماضية. لديها عيون كثيرة في الجامعة." كان من النادر جدا سمع براد وهو يتحدث بنبرة ساخرة.

"لنكمل طريقنا." أمرته ما أن توقفت لينا في منتصف الطريق تنادينا حينما لاحظت عدم وجودي قربها.

.

.

.
ما أن عبرت أمام اللوحة التي أحضرتها ماما شد انتباهي رسمت عيون الرجل الذي كان يطل من خلف من الباب.

لم يسبق لي وتمعنت بها النظر من جديد بعد أحاضرها لأني كنت منشغلة وفي واقع كنت غير مهتمة أبدا بلوحات ماما لأنها دوما ما كانت تعود لبيعها بعد فترة بسيطة وحتما مصير هذه اللوحة كغير الذين جائت بهم ماما من قبل.

عقدت حواجبي بغرابة وأنا أدقق النظر في عيون الرجل السوداء ذات الرموش الكثيفة.

"أنها تشبه أركان. بل الرجل كله الذي لم يظهر منه سوى جزء صغير كان يمتلك هيئة أركان وبعض من ملامحه." همست مفكرة وأنا أمرر أناملي على قماشها اتحسس الأشكال الهندسية التي كانت محفورة بقوة عليها.

الرسام قد عمد إلى رسم الصورة بأشكال هندسية قبل أن يقوم بتلوينها.

"لن تنزعج ماما حينما أقوم ببحث صغير عن هذه اللوحة وكشف تقنيات التي أستعملها الرسام؟" حدثت لولا التي كانت جالسة على مقربة مني.

رفعت رأسها لثواني من الزمن تنظر لي بهدوء ثم عادت للنوم.

الاتفاق هو اتفاق.

"أي عواقب أو أضرار التي سيسببها هذا الأمر ستتحملين نتائجها لوحدك لأنك مسوؤلة عن حمايتها في نهاية." قلت للولا وأنا ابتسم بخبث أحاول حمل اللوحة وصعود بها إلى غرفتي.

.

.

.

"أنها مرسومة بأتقان شديد. الزوايا والمساحة الأشكال كلها كانت مبنية على أسس رياضيات صحيحة." حدثت باغيير بعد أن قمت بأطفاء الكشاف.

"الرسام قد عمد إلى رسم دوائر متقايسة ومتلاصقة. كل دائرة فيهم قد رسم داخلها مربع حدوده تتلامس مع شعاعها وداخله أيضا قد رسم مثلث لامست زواياه الثلاث كلا من حدود المربع وشعاع الدائرة. إن الرسام مذهل وعبقري."

استرقت نظرها لها حيث كانت تنصت لي باهتمام.

"بذلك قد حصل على جميع زوايا الأشكال حتى يتجنب الوقوع في الأخطاء أثناء رسمها. لا أتوقع أن هذه اللوحة أثرية أو أنه قد مر عليها الكثير ولا أستطيع استبعاد كونها لوحة حديثة وليست أثرية لأن أسلوبه مميز جدا وعصري."

وضعت المكبرة جانبا ثم نزعت نظراتي لأعاود تفحص اللوحة بعد أن أخذت عينة من الألوانها التي بدأت بالتقشير بعد أن أزلت الستار الشفاف الذي كان يحميها من الأوساخ والتلف.

"أنها قطعة فنية جميلة لم أتوقع يوما أن تملك أمي مثل هذا الذوق الرفيع. أظن أنها ستنجح هذه المرة في تحقيق هدفها وجعل هذه اللوحة تباع بمائة مليون دولار." أكملت حديثي أجمع معداتي.

أنتقلت إلى مكتبي حيث كان يتواجد فوقه مكبر وبعض الاحماض الكيميائية.

نظرت إلى ساعة المكتب التي كانت تشير إلى منتصف الليل إلا دقائق.

"لا أود مقابلته هذا الليلة ولا في أي وقت أخر." حدثت نفسي وقد قررت فور أن يصعد لي سأصرخ وأستدعي براد الذي كان جالسا في غرفة الحراسة بالخارج. 

أنهمكت في الأنشغال على دراسة العينات التي أخذتها من اللوحة وسط غرفتي العاتمة وأسفل نور مصباح الخافت. لكن فجأة ودون سابق أنذار شعرت بقشعريرة غريبة تسري على جسمي.

أرتعدت مكاني برهبة حينما صدر من خلفي شعاع أبيض قوي أنار غرفتي.

نظرت إلى الخلف بأنفاس مضطربة.

"اللوحة؟" همست بتفاجئ حينما علمت مصدر الضوء، كانت هنالك دائرة صغيرة بها لكنها بغتة بدأت بالأتساع شيئا فشيئا وظهرت معها أشكال أخرى ملئت اللوحة، تضيء وتنطفئ، تتقلص وتتسع.

ثم أصبحت اللوحة بالكامل بيضاء اللون.

لكن ما جعلني أقع من الكرسي على الأرض برهبة من هول ما شاهدته هي رؤيتي لأنامل كانت تخرج من اللوحة. ثم شيء فشيء خرجت ذراع كاملة من تلك الفتحة والجسد الذي خرج منها كليا فيما بعد كان جسد أركان.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي