الفصل العشرون

تعالي نحيبها و هي تدفن رأسها بين ركبتيها الملاصقتين لصدرها و هي تهتز بحركة هيستيرية و تقول بغضب مكتوم
_ انا بكرهكم كلكم .. مش عايزه اشوف اي حد فيكم ما حدش يكلمني .. وما لكمش علاقه بيا ابدا .. انا بكرهكم كلكم انتم سامعين بكرهكم .
و عادت لبكائها المؤلم و هي تشهق بصوت عالي من اختناقها ..
انتبهت غدير علي تلقي هاتفها رسالة .. لم تعيره اهتمام و عادت لهمهمتها مجداا و نحيبها علي وضعهم و ما فعله والدها بهم .. حتي اتتها رسالة تلتها اخرى تبعتها الاخريات فرفعت هاتفها بغضب فوجدت يوسف يهاتفها لاول مرة .. ضغطت علي اسنانها و اجابته قائلة بصياح غاضب :
-  عايز ايه انت كمان |.. عايز ايه بس سيبني في حالي انت طلعت لي منين ؟! اعمل لك بلوك في كل حته وتطلع لي برضه .. ما تسيبني في حالي بقى يا اخي .
وقف يوسف مشدوها و هو يستمع لنبرتها الباكية بقلب منقبض كما راوده منذ قليل و قال مسرعا :
_ طب بس اهدى معلش .. في ايه مالك اللي معصبك للدرجه دي و بتعيطي ليه انا كنت حاسس و الله قلبي انقبض عليكي ؟!!
جذبت غدير شعراتها و قالت بحدة قاطعة :
_ وانت مالك .. وانت مالك يا اخي سيبني في حالي انت عايز مني ايه انت متطفل ليه عليا في حياتي ؟! انا مش عايزه احبك مش عايزه يكون بيننا صداقه حتى .. انت ما بتحسش ما عندكش كرامه .
تحكم يوسف في انفعالاته و قال بتعقل هادىء رغم اسائتها المبالغة له :
_ لا يا ستي ما عنديش كرامة و هفضل وراكي لغايه ما تحبيني ومش هسيبك غير لما تقولي لي فيكي ايه .. ممكن لو سمحتي تيجي كده ونتكلم بالعقل شويه عشان انتي عمرك ما كلمتيني بالطريقه دي حتى في عز ما انتي مش طايقة تشوفي وشي حتى .. لو سمحتي بهدوء بس انتي مالك ؟!!
صفعت غدير رأسها بيها و قالت بنفاذ صبر :
- وانت مالك بتسال ليه ابقالك حاجه مثلا .. اختك صاحبتك حبيبتك انا مقربكش بحاجه .. و مش عايزه اشوفك قدامي .. انا مش عايزه اشوفك قدامي هعمل لك بلوك فين تاني عشان تبعد عني .
طالع يوسف صورتها المعلقة علي خزانته و قال ببرود :
_ ما هو انا مش هبعد عنك .ز انت ليه مش متقبله الفكره مش هبعد عنك مش هاسيبك .. انا بحبك .. انا بحبك وانا في حبي غبي و غصبا عنك برضه هتحبني انتي فاهمه ولا لا .
جلست غدير علي ركبتيها و صاحت به بعصبية و هي تشيح بذراعيها بالهواء :
_ انت عبيط يا ابني هي مين اللي هتحبك غصب عنها انت بتتكلم على قدك يعني .. هو اي كلام بتقوله وخلاص .. وجاي دلوقتي تتكلم معايا بالطريقه دي .. بتنشن يعني .. ابعد عني بقى .
اعتدل يوسف في جلسته و قال بفضول :
_ ايوه ايه هو الوقت ده دي ؟!! ايه بقى الوقت ده اللي معصبك كده .. في حد حاول يكلمك في حد عايز صاحبك ؟! بت انطقي .
عضت غدير علي باطن كفها و قالت حدة :
_ هو ده كل اللي شاغلك ان حد عايز يصاحبني او حد عايز يكلمني وحتى لو في حد عايز يكلمني يا سيدي انا لو عايز اكلمه اكلمه مش عايزه مش هاكلمه .. ما لك انت .. يا عم انت ايه مبتحسش حس على دمك بقى.
قبض يوسف كفه بقوة ليكظم غيظه الذي لو طالها لفتك بها و قال من بين اسنانه بشراسه :
_ اقسم بالله يا غدير اقسم بالله ما اعرف انك فكرتي حتى تردي علي حد لهكون ماسح بكرامتك الارض قدام الكليه كلها و مش هخاف من حد لو فيها رفدى .. فاتلمي احسن لك .
تهاوت غدير جالسة علي فراشها بإستسلام و هي تكفف دموعها و قالت بنزق :
_ وانا بتكلم معاك ليه يعني انا برد عليك اساسا .. اطلع من دماغي انا لا طايقة اشوفك ولا اسمع صوتك ولا اشوف حد اساسا على وش الارض .. فابعد عني انت مختار الوقت الغلط .. كأنك بتنشن .
اقترب يوسف من خزانته و مرر انامله علي ملامح وجهها و قال بتنهيدة مقتضبة :
_ ما هو انا عشان حاسس ان الوقت ده في حاجه غلط انا مش هسيبك .. يا ماما اتكلمي .. اتكلمي هو انتي لو تكلمتي معايا هقول لحد .. انا ما فيش بيننا صديق مشترك حتى علشان انقله اللي انتي قلتيه .. يا لهوي .. يا ماما يا حبيبتي بالراحه خالص ايه اللي معصبك طب .
لاحظ صمتها و هدوءها فتابع قائلا بتعقل :
_ لو انتي متضايقه معلش ممكن تفكي شويه تسيبي كل حاجه على الله ما تفكريش في حاجه تضايقك وخليكي في مذاكرتك .. فكري في حاجه ايجابية اكتر .. كده .
مسدت غدير جبهتها التي باتت تؤلمها من بكائها و قالت بسخرية :
_ شكرا على المساعده والله .. ماشي انت كده ساعدتني جدا ..خلصت مساعدتك امشي بقى و بطل تبعث ليا رسايل و امشي وسيبني .. عايز ايه اقفل لك التليفون كله علشان ترتاح .
رفع يوسف عينيه بملل و قال ببديهية :
_ ما انت لو قفلت التليفون هجيلك البيت .. وانتي فاكره ان انا اخاف يا قلبي .. جربي كده تقفليه و قابلي جناني بقا يا غدير و استحملي .
عادت غدير لبكائها و قالت بعجز و وهن :
_ يا عم الله يخليك .. الله يخليك انت متسلط عليا.. اكيد ده ذنب وانا عملته وربنا بيكفر الذنب ده فيك .. ابعد عني يا سيدي بس سيبني في حالي يعني لو تقدر بس النهارده سيبني في حالي وبعدين بقى في فرصه تانيه نقعد نشتم في بعض و نتخانق وكل حاجه بس ابعد عني النهارده والله ما طايقه نفسي .
اوما يوسف براسه موافقا بعدما عادت لبكائها و قال بهدوء حاني :
_ خلاص يا ستي خلاص اهدى .. انا هبعد عنك مش هاكلمك تاني خالص النهارده بس بالراحه كل اللي انا عايزك تعمليه انك تقومي تتوضي وصلي شوية يمكن ترتاحي شوية من الضغط ده .. مش بيقولك الا بذكر الله تطمئن القلوب .. قومي صلي و وكلي امرك لله ايا كان ايه اللي وجعك .
قطبت غدير حاجبيها بتعجب بينما اردف هو قائلا بتأكيد :
_ انا حاسس انك موجوعة ومش عايز اعرف ايه هو .. بس ايه قومي كده وصلي علي رسول الله وقولي يا رب هيحل لك مشكلتك .. قومي صلي يا ماما كده .
ابتسمت غدير بسخرية و قالت بحدة :
_ هو انت هتعمل لي فيها شيخ وتقول لي قومي صلي والا بذكر الله تطمئن القلوب .. بجد انت هتعمل لي فيها شيخ ما انا عارفه انت ايه وعارفه انك كل يوم مع بنت شكل وعارفه حياتك عامله ازاي وعارفه انك ما فيش في دماغك حاجه وعارفه اكتر من كده كمان .. هتيجي انت دلوقتي هتعمل فيها شيخ عليا انا يا يوسف !!!
انقبض فك يوسف بحدة و قال بغضب :
_ انتي ما تعرفيش عني حاجه .. ما تعرفيش عني حاجه خالص .. انتي ليكي اللي بتسمعيه بس .. انتي تعرفي عني ايه انت ما تعرفيش عني حاجه عشان تقولي الكلام اللي انت بتقوليه ده اصلا .
ابتلعت غدير ريقها بتوتر بعدما شعرت انها تجاوزت حدودها معه و كانه من منطلق غيرتها عليه جاء اندفاعها فقالت بتلعثم :
_ انااا .
قاطعها قائلا بثبات و ثقة :
_ اه بصلي واعرف ربنا و ايوة بكلم بنات بس عمرى ما اتجاوزت مع بنت .. و عمري ما كان ليا علاقه مع بنت غلط عمري .. وكل البنا ت اللي بكلمهم اصحابي واتحداكي تحدي يا غدير انك تجيبي لي بنت واحده تقول ان انا قلت لها ان انا بحبها .. كلهم صحابي و بس وما فيش اكتر من كده وهما اللي بيكلموني مش انا اللي بكلمهم.. وبصرف على نفسي وبشتغل ومعتمد على نفسي في كل حاجة مش معتمد على اهلي .
شعرت غدير بتسرعها و امتلات بالخزى الذي جعلها تصمت علي غير عادتها فتابع يوسف قائلا بثبات :
_ كل اللي انا عايزه ان انا عايز اكلمك لغاية لما اخلص السنه دي عشان اضمن انك انتي تفضلي ليا .. ما تفكريش في اي حد غيري .. ايه الغلط اللي انا عملته وازاي تحكمي عليا من غير ما تعرفيني ؟!!
استندت غدير براسها علي الحائط خلفها و مددت ساقيها علي الفراش و قالت بهدوء :
_ والله انا ما فيش فيا دماغ اسمع الكلام ده كله فمعلش زي ما انت قلت كده استحملني وسيبني في حالي .. عشان انا مش طايقه الهواء اللي حواليا ده .
ابتسم يوسف ابتسامة مشرقة و قال بهمس حاني :
_ وانا بموت في الهواء اللي داير حواليكي ده .. وهسيبك حاضر بس خلي بالك من نفسك .. و يا ستي اعتبريني شيخ اعتبريني بتريق اعتبريني اي حاجه بس قومي صلي .. قومي صلي و قولي يا رب .
ابتسمت غدير بخفوت بعدما اخترقت كلماته صدرها و قالت بل :
_  حاضر و معلش انا اسفه على عصبيتي و على الكلام اللي انا قولته ده .. انا مش طايقه نفسي ومش طايقه اشوف اي حاجه ولا اكلم اي حد فسامحني و اسفه على اللي حصل بجد و اتمني ده ما يعطيكش خلفية غلط عني .. انا بس بمر بظروف صعبة .
اتسعت ابتسامة يوسف و قال براحة لاول مرة تسلل لروحه بينهما :
_ انا كمان اسف ان انا ضغطت عليكي .. سامحيني معلش ..  كل اللي انا عايزه ان انتي تكوني كويسه و مبسوطه والله العظيم ما عايز اضايقك ولا عايز اجرحك ولا عايز اوجعك .. وانتي لو مش مصدقاني قولي لي تعالي الوقت حالا و انا هاجي لباباكي اشرحله كل ظروفي وهقوله انت ممكن ترفضني دلوقتي .. بس لما يكون الوقت مناسب انا هاجي و هتقدملك و هنفذ لكم كل طلباتكم .. بس كل اللي انا عايزه ان انا اربط اسمك باسمي .. كل انا خايف منه انك تروحي مني .
عادت غدير لشرودها و قالت بوهن :
_ عموما الكلام ده مش وقته خالص .. زي ما قلتلك انا بتاسف لك على طريقتي و هسيبك دلوقتي لاني بجد تعبانه ومش قادره اتكلم .
اجابها قائلا :
_ تمام زى ما تحبي .. سلام يا قلبي .
اغلقت الهاتف و هي تفكر بكل ما يور حولها بحزن وملامح متهدلة ..
فتح سليم ذلك الباب العتيق و دلف يسعل من رائحة الاتربة التي تصاعدت بوجهه و بحث عن مفتاح الانارة حتي وجده ..
انتشرت الانوار بالمكان حولهما و بدا بحالة مذرية و منفرة فقد غطي الغبار كل شىء ..
و جميع الاثاث مغطي بشراشف اصبحت صفراء من تراكم الاتربة و العنكبوت عليها ..
تطلع سليم حوله بعجز و التفت لفرحة التي يقبع راسها بعالم اخر و قال بترفق :
_ يا ماما البيت متوسخ جدا احنا هنقعد فيه ازاي ؟!! ايه رايك نروح نقضي الليله دي بس كده في اوتيل على ما ترتاحي وبكره نيجي من بدري ننضف ونعمل كل حاجه .
خرجت فرحه من شرودها و قالت وهي تتطلع حولها بشوق لن كانوا يعمرونه يوما ما :
_ لا يا حبيبي ما تخافش انا هنضفلك اوضه و هنظف الاوضه بتاعتي و هنام هنا مش هروح في حته .. انا محتاجة اكون هنا النهارده بالذات .. عايزه انام في اوضه امي وابويا .. عايزه احس انهما حواليا .
اوما سليم براسه و قال بانصياع :
_ خلاص يا حبيبتي اللي تشوفيه وانا هساعدك في كل حاجه .. شوفي انتي محتاجه ايه وانا هاعمله ليكي .
ربتت فرحه علي ذراعه بحنو اموى و قالت بتنهيدة طويلة :
_ لا يا حبيبي اقعد انت ارتاح وانا هخلص كل حاجة ما تقلقش .. و لو احتجت حاجه هاقول لك .. طلع بس الهدوم كده وابقى رصها في الدولاب وانا هنضف الاوض و هغير فرش السراير بفرش نضيف و بكرة نكمل ان شاء الله .
دفع سليم الحقيبة ناحية غرفة والديها وقال :
- تمام علغاية ما انتي تبداى بس تشتغلي كده انا هنزل اجيب اي لقمة ناكلها .. و هجيب اكل احطه هنا في الثلاجه .. و يا ريت تشغلي التلاجه تلاقيها بقى ليها فتره كبيره مركونه شغليها كده لغاية ما انزل اجيب اكل هاجيب معلبات يعني مش هاجيب حاجات تطول .. تكوني انتي بداتي تشتغلي بالبيت .
تركته فرحه و سارت ناحية غرفة والديها و هي تقول بسكون تام :
_ خلاص يا حبيبي تمام اللي تشوفه .
فتحت باب الغرفة و دلفت و هي تشم رائحة تشتاقها و بشدة لتنهمر دموعها في صمت .. انارت الغرفة ليتحول بكاؤها الصامت لنحيب خفيف .. اغلقت ورائها الباب تحت انظار سليم الذي هز راسه بياس علي حالها و ترك لها البيت و خرج كي تخرج ما كتمته لايام و هي تكذب ظنونها حتي مواجهتها ..
كانت عيناها تلتقط كل شىء حولها بزخم حتي توقفت امام تلك الصورة التي بقيت من اغلي شخصين لها بالحياة ..
جذبت تلك القماشة عن الصورة حتي رأتهما امامها فانفجرت في ببكاء عالي و قالت بصراخ :
_  انتم ليه سيبتوني لواحدى .. انا محتاجة ليكم قوي محتاجه حضنك يا بابا محتاجة اتسند على كتفك واعيط .. محتاجة اشتكي لك من الوجع اللي جوايا زي كنت بعمل زمان .. يا امي انتي فين ؟! محتاجة تاخديني في حضنك وتطبطبي عليا وتحسسي على شعري وتضيعي اي تعب ووجع جوايا .
لم تعد تحملها ساقيها فانهارت جالسة و هي تقول بهيستيرية :
_ الانسان مهما كبر ومهما عجز بيحتاج لامه وابوه .. هيفضل طفل صغير كلم ما هيحس بوجع هيدور علي الحضن اللي بيجري عليه من صغره .. هيبقي عايز يترمي في حضن امه وابوه و يعيط .. انا بحبكم قوي و انتم وحشتوني قوي .. واكيد حسين بيا مش كده ؟!! ياريت كنتم معايا و جنبي انا محتجاكم جدااا .
تعالت اصوا اذان العشاء حولها من كل مكان ملنه بأن الله اكبر ..
تطلعت للنافذة بفزع و رفعت راسها للسماء و قالت بندم :
_ سامحني يارب .. انا مش محتاجة عبد و لا حتي حضن امي و ابويا .. ازاي قولت كده و انت جنبي و احن عليا من الكل .. اللهم انك عفو تحب العفو فاعفو عني .. لا اله لا انت سبحانك اني كنت من الظالمين .
استمرت في استغفارها و صلاتها كي تهدأ نيران عقلها قبل قلبها ...

............................................................
................
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي