الفصل الأول

ثقوا في الله إن الأقدار التي لا نحبها و نبكي منها وراءها دائماً خيرًا كثيراً لا نعلمه..

‏فلو علمنا مَا يُُخبئه الله لنا خلف كل ضيق أو تعثر
لرفرفت قلوبنا فرحاً واطمأنت..

ثقوا بأن الله لن ينسى دُعاء كنتم تلحون به كل حين، ولن ينسى ثقتكم الدائمة بأن هو العون لكم، وسيستجيب ولو بعد حين..

مهما حدث بحياتكم، ومهما بدت الأشياء مزعجة فلا تدخلوا حيّز اليأس حتى لو ظلت جميع الأبواب موصدة أمامكم فإن الله قادر علي أن يفتح دربًا جديدًا لكم..

سوف تأتي إرادة الله، فتتيسَّر معسراتكم، وتتمهَّد الطرق، وتُفتح مغاليقها، وتُهيئ أسبابها، وتتجمَّل لتأتيكم كاملة تامة مصحوبة بجميل عطاء ربك، فلا يغرّنكم تشتّتها الآن، ولا تحزنوا لاستحالتها، فوالله لو كان بينكم وبينها عوامق البحار، وشواهق الجبال؛ يأتِ بها الله إنّ الله علي كل شيءٍ قدير..

"قبل عشره سنوات "..

.. بإحدي أحياء القاهره الراقية الذي يقطن بها ذووا الطبقة المرموقة، بمبني ضخم وفخم للغاية رغم أنه قديم الطراز، يحتوي علي عدد كبير من الطوابق،كل طابق مقسم الي أكثر من شقه إلا طابق واحد فقط..

الطابق "العاشر" الوحيد بالمبني، الذي يحتوي علي شقه واحده بمثابة فيلا كبيرة، انشأها مالكها لتكون سكنًا خاصًا ومميزًا له ولعائلته، هو وزوجته وابنته الوحيدة.

كانت تفاصيل الشقة من اختيار زوجته وصغيرتهما، كانت أشبه بقصر لإحدي الملكات بألوان زاهيه، واثاث راقي يبهر كل من يراه، وضع بكل انش إضاءة قويه تضاء تلقائياً فور إختفاء نور الشمس، وضحكات الفرح تملأ أرجاء الشقة بالدفء بين أفراد عائلته الصغيرة تتراقص متناغمة كموسيقى مع تلك الأضواء..

أنشأ بها عدد هائل من الغرف تأملاً منه أن زوجته ستنجب أشقاء من البنين والبنات لابنتهما حتي لا يتركوها بمفردها ولكن كان للقدر رأي آخر شديد القسوة..

فبين ليله وضحاها انطفأت الأضواء، واختفت الضحكات، بل تحولت إلى صرخات، وساد الظلام أرجاء المكان، تبدلت ألوانه الزاهية للسواد القاتم
بعدما اندلع فجأة حريق قوي التهم كل شيء يقابله دون توقف..

وبعد معاناة من قبل رجال الأطفال عثروا علي جثتي الزوج والزوجة متفحمتان تماماً ولم يستطيعوا العثور علي جثة صغيرتهما حتي الآن..

................
بعد سنوات طويلة من الغربة بأحدي الدول الأوربية، عاد أخيراً بقلب يغلفه الشوق والحنين لبلاده الحبيبة..

هبط من سيارته وسار بخطي بطيئة يتطلع حوله بدهشة من كم التغيرات الهائل التي جعلته يتمتم لنفسه بتنهيده متأملة..
"البلد اتغيرت كتير أوي في العشر سنين اللي اتغربتهم يا ياسين"..

كان الوقت فجرًا، لحظات ظلام الليل الأخيرة، الهدوء سيد الموقف، أستنشق بعمق نسمات هواء الصباح يملأ به رئتيه باشتياق..

"نورت بلدك يا ابن أبويا "..جملة تفوه بها شقيقه "ياسر" بفرحة غامرة وهو يركض تجاهه فاتح زراعيه له..

ليسرع"ياسين" ويقترب منه وعانقا بعضهما بحرارة وأعينهم تفيض دمعاً غزيراً من شدة فرحتهما..

"مصدقتش ودني لما أتصلت بيا وقولتلي انك وصلت مطار القاهرة".. قالها "ياسر"بصوت متحشرج بالبكاء، وبعتاب تابع..
"طيب كنت عرفتني قبلها علشان استناك في المطار يا ياسين"..

ربت "ياسين" على كتفه وبابتسامة محبة قال..
"محبتش اتعبك أكتر من كده يا حبيبي، كفاية اللي عملته علشاني طول السنين اللي فاتت انا تعبتك معايا أوي يا ياسر"..

عبس" ياسر" بملامحه، ولكزه بكتفه برفق وهو يقول..
"لو مش هتعب لأخويا حبيبي هتعب لمين"..

" تسلم وتعيش يا غالي".. قالها "ياسين" بحب شديد، وعاد يتطلع حوله علي المبني العملاق الذي يقف أمامه، وبذهول قال..
" هي دي العمارة اللي اشترتلي فيها شقتي يا ياسر! ؟"..

بابتسامة واسعة حرك" ياسر" رأسه بالإيجاب، وهو يجذبه من يده وسار به لداخل المبني وبفخر تحدث قائلاً..
" علشان تعرف ان أخوك وقعلك شقه لقطه بسعر خيالي"..
نظر لحارس العقار، وبود قال..
"لو سمحت يا عم شاكر هات الشنط مع السواق وطلعوهم على شقتنا فوق"..

اعتلت ملامح "شاكر" ابتسامة مصطنعة محدثاً نفسه..
"أطلع يا حلو انت وهو شوفوا ايه اللي مستنيكم فوق هيخليكم تنزلولي جري علي إيديكم قبل رجليكم كمان"..

بينما قال "ياسين" له بتمني..
"بس علي الله تكون حلوة من جوه زي وجهتها كده، وقدمها يكون خير بإذن الله لأني ناوي افتح عيادتي فيها"..

أجابه "ياسر" بابتسامة زائفة يخفي بها توتره..
" دي مش بس هتعجبك لا دي هطير عقلك يا حبيبي"..
تابع بسره.." ربنا يعديها على خير"..

خطى معاً لداخل المصعد وضغط "ياسر" علي الطابق العاشر، ليعقد "ياسين" حاجبيه باستغراب قائلاً..
" انت مطلعنا العاشر ليه؟!، أنت مش قولت أن الشقة في الدور التالت؟ "..

مط" ياسر"شفاتيه وبأسف قال..
" الصراحة انا مرضتش أقولك أنها في الدور العاشر علشان كنت هترفض نشتريها وتضيعها من أيدك، ودي شقة لقطه زي ما قولتلك يا ياسين"..

دار "ياسين"حول نفسه، ورفع كف يده يمسح به علي وجهه، وشعره بعنف مردداً بغيظ من أسفل أسنانه..
"أنت عارف اني عندي فوبيا من الأماكن العالية، عندي فوبيا يـــا يـاســـر"..

تراجع" ياسر" لأخر المصعد مبتعداً عنه بخوف مصطنع وباستفزاز قال..
" جرا أية يا دوك دا اسمه كلام برضو، تبقى دكتور وعندك فوبيا؟!، وبعدين دا هما عشر أدوار بس"..

رمقه "ياسين" بنظرة حارقة، وبلحظة كان لكم جدار المصعد بقوة حين شعر ببوادر دوار يداهمه، فأسرع بأسناد رأسه على إحدي الحوائط، وبأسف قال..
"وادي أول نصيبه من نصايبك يا "ياسر" يا تري في ايه تاني مستنيني في الشقة اللي اشترتهالي من دماغك"..
...................
سطعت الشمس بنورها معلنة عن بدء يوم جديد يحمل بين طياته الكثير..

على فراش مرتب بعنايه، تستلقي "هنا" فتاة بأواخر عقدها الثاني، تمتلك جمال هادئ من نوع خاص، عينان واسعتان ذات أهداب كثيفة ،ثغر مكتنز كحبة كريز طازجة، وجنتان بلون الورد الجوري، شعر قصير يصل لبداية عنقها ولكنه حريري الملمس..

داعبت أشعة الشمس التي تسللت عبر الشرفة عينيها الناعسة، فرمشت بأهدابها اكثر من مرة واعتدلت جالسه، وبلهفه مدت يدها وامسكت هاتفها، وغمغمت بقلق..
"يا خبر أبيض زياد هيتأخر علي الشغل"..

ضغطت اتصال ورفعت الهاتف على أذنها تنتظر الرد، لحظات واستمعت لصوته الساخر وهو يقول..
"صح النوم يا سنيوريتا"..

عضت علي شفتيها وبأحراج قالت..
"أنا أسفه والله راحت عليا نومه ومسمعتش المنبه لما رن خالص"..
"لا عادي انا عارف ان دا هيحصل فمعتمدش عليكي وأكدت علي أمي تصحيني"..
تفوه بها زياد بلامبالاة..

اعتلت الدهشة ملامح "هنا"، وببوادر غضب قالت..
"أنت بتتكلم كده ليه يا زياد، طريقتك اتغيرت اوي معايا؟"..

ليندفع زياد بألقاء جملة كانت كالسكين الحاد الذي قطع نياط قلبها علي حين غرة..
" انا اللي اتغيرت، ولا أنتِ اللي هتتغيري و هتبقي واحده تانية خالص بعد ما تبدئي العلاج الكيماوي"..
كلماته كالسهام السامة الحارقة التي أصابت قلبها فقتلته دون ذرة رحمة..

ترقرقت عينيها بالعبرات التي تأبي الهبوط رغم ألم قلبها النازف، وبجمود مصطنع قالت..
"تصدق عندك حق، انا فعلاً هتغير أوي لما ابدأ العلاج، وشعري هيقع،وحواجبي، وحتي رموشي، ولمعة عيوني اللي كنت بتكتب فيهم شعر هيدبلوا، وينطفوا وهيبقي وشي دايماً مجهد وبهتان، وباين عليه المرض"..

انتبه زياد على ما تفوه به، فصك علي أسنانه بعنف، وبتوتر قال..
"هنا أنا مقصدش؟"..

قطعت "هنا" حديثه بصرامه..
" ولا تقصد يا زياد دي الحقيقة، وأمر ربنا"..
أخذت نفساً عميقًا، وبرضا تام بقضاء الله تابعت..
" وانا الحمد لله راضيه بقضائه"..

هبطت دمعة حارقة علي وجنتيها وبصوت جاهدت على إخراجه طبيعياً أكملت ..
"لكن اللي مرضاش بيه أنك تعيرني بقضاء الله"..
صمتت للحظه وبأسف تابعت..
" كل شيء قسمة ونصيب يا زياد، النهارده هبعتلك شبكتك مع أختي"..

اغلقت الهاتف دون سماع رده حتي، ومسحت دموعها بعنف وبتنهيده قوية حدثت نفسها قائلة..
"اجمدي يا هنا هو اللي خسرك، وهيرجعلك ندمان لما تخفي وترجعي أحسن من الأول"..

انهمرت دموعها بغزاره علي وجنتيها وتعالت شهقاتها وبصعوبة رددت..
" دا واحد ميستهلش قلبك، وأكيد ربنا هيختارلك الأحسن"..

انتهي الفصل..
واستغفرو لعلها ساعة استجابة..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي