الفصل الرابع عشر

.. بشقة سراري ..

كالعاده يعم المكان بالظلام الدامس إلا من الغرفه الموضوع بها متعلقات وثياب "ياسين" بها إضاءة حمراء خافضه..

تقف" سراري " أمام ثيابه تتأملها بنظرات تكسوها الحزن.. سارت بأناملها على إحدي قمصانه محدثه نفسها بعتاب..
"اعقلي وبلاش تفضلي مستنياه كده كتير.. هو مشي ومرجعش من أسبوع حتي علشان ياخد هدومه يبقي عمره ما هيرجع علشانك انتي بعد ما شاف الوش المشوه اللي رعبه دا"..

سارت بخطي متثاقله وارتمت على الفراش تبكي بصمت، ومن بين شهقاتها تهمس بأسمه قائله..
"ياسين انت قولت انك هتساعدني.. أرجع خليني احكيلك".. اجهشت بالبكاء اكثر.." انا محتجالك"..
ظلت تبكي فتره ليست بقليله..

توقفت عن البكاء فجأه، واعتدلت جالسه حين استمعت لصوت فتح الباب.. هبت واقفه،وركضت بلهفه نحو الخارج،ولكنها توقفت بل تسمرت مكانها، وتراقص قلبها فرحاً وهي تستمع لصوت "ياسين" الهادئ يقول..
"سراري دا اسمك، وانا هنا ضيف في مكانك"..

خطي للداخل بخطوات حذره، وصفق الباب خلفه ووقف مكانه ينتظر ليري رد فعلها على حضوره الغير متوقع.. يدور بذهنه ماذا ستفعل معه هذه المره؟!..

الظلام من حوله جعل الرؤيه بالنسبه له مستحيله.. فسار نحو مفتاح الإضاءة ورفع يده يتحسس الحائط حتي وصل إليه وقبل ان يضغط عليه تحدث قائلاً..
"سراراي انا عارف انك واقفه قدامي"..
أخذ نفس عميق يحمل عبق رائحتها المميزه برائحة اللافندر وتابع بتنهيده..
"انا شامم ريحتك اللي بتطير عقلي"..

صمت لبرهه، وتابع بستأذان..
"تسمحيلي افتح النور علشان معايا حاجه ليكي اتمني تعجبك"..

لم يستمع لرد منها.. فقط السكون والهدوء المريب يسود المكان مما دفعه ليشعل الاضاءة سريعاً..

"رجعت تاني ليه".. غمغمت بها "سراري " الواقفه أمامه مباشرة خافضه وجهها كالعاده.. كان صوتها الهامس يظهر به مدي حزنها، وأيضاً مدي لهفتها..

تأملها "ياسين" بشغف بداية من خصلات شعرها الحريريه شديدة السواد، والمنسدله على وجهها تخفيه تماماً، ومن ثم على فستانها الأبيض الذي يظهر جمال ورشاقة جسدها الممشوق ذو المنحنيات المهلكه،وبهمس قال..
"رجعت علشانك".. مد يده لها بباقة الورود الرائعه مكملاً بنبره راجيه..
"سراراي بصيلي"..

رفعت رأسها ببطء حتي توقفت بعينيها على باقة الورود.. فشهقت بصوت خفيض متمتمه..
"واو ورد الجوري"..
قد راقها جمالها كثيراً، وبلحظه كانت أخذتها من يده وضمتها بفرحه طفوليه، ودارت بها أكثر من مره ليتطاير حولها شعرها بهيئه تخطف الأنفاس جعلت "ياسين" يتطلع لها بفتنان..

"أفهم من كده انك مش زعلانه إني رجعت؟!"..
قالها "ياسين" بلهفه وهو يسير خلفها.. لتتوقف هي فجأه وتحدثت بخجل، ومازالت خافضه رأسها، ولم تنظر له بعد..
"لا مش زعلانه.. انا مبسوطه انك رجعت"..

اقتربت هي منه، وتابعت بصوت تحشرج بالبكاء..
" انا كنت مستنياك، وخايفه مترجعش"..
كلماتها، وصوتها الساحر خطفت قلبه جعلته يهمس لها قائلاً..
"مقدرش مرجعش ل"سراري".. اللي سحرتني"..
ضيق عينيه رتابع بمرح.. "ورعبتني"..

"قولت انك هتساعدني".. أردفت بها "سراري " بتساؤل..
اتسعت ابتسامة "ياسين" وبلهفه اجابها..
"طبعاً هساعدك.. بس احكيلي حكايتك وقوليلي انتي مين بالظبط؟!"..

سارت نحو أقرب مقعد جلست عليه محتضنه باقة الورود ولم ترفع رأسها إلى الآن وبهدوء قالت..
"مش انكل شاكر حكالك اللي حصل لصاحب الشقه ومراته؟"..

"ياسين" بأسف.. "حكالي.. بس كلامه مش مقنع بنسبالي، وكنت ناوي اسأل الناس اللي ساكنه هنا في العماره يمكن اطلع منهم بمعلومه"..

قالت "سراراي" مستفسره.. "ايه اللي مش مقتنع بيه بالظبط؟"..
سار نحوها، وجلس على المقعد المقابل لها مستند بمرفقيه على ركبتيه مغمغماً بثقه..
" انك مش عفريته"..
همست "سراري " قائله.."وليه متأكد كده؟"..

تراقصت ابتسامه عابثه علي محياه، وهتف بجديه مصطنعه..
"اعتقد مافيش عفريته بتتكسف، ولا بتلبس بنطلون تحت فستانها؟"..
قاطعت حديثه هي، وهمست بخجل..
"ياسين اسكت"..

كبح ضحكاته احتراماً لخجلها، وبطاعه همس قائلاً..
"حاضر هسكت.. بس اتكلمي انتي، واحكيلي"..

أخذت نفس عميق، وبصوت يكسوه الحزن قالت..
"هحكيلك.. انا ابقي بنت صاحب الشقه اللي مات مقتول هو ومراته"..
اعتلت ملامح "ياسين" الدهشه، وردد قائلاً..
"مقتول؟!.. عم شاكر قالي ان الشقه حصل فيها حريقه؟!"..

تنهدت بألم واجابته بأسف..
" ايوه حصلت فيها حريقه..السبب فيها كانت عمتي اخت بابا"..
هبت واقفه، وسارت نحو نافذه مغلقه، ووقفت أمامها وتابعت..
"عمتي وماما كانوا أصدقاء عمر وروحهم في بعض لدرجة انها جوزتها اخوها اللي هو بابا وسافرو سوا بره مصر، ولما رجعو عمتو جت معاهم وفضلو عايشين مع بعض لان عمتي متجوزتش خالص.. عنست بمعني الكلمه ودا خلي حبها لمامتي يتحول لكره وغل لدرجة خلتها تخلص منها وتحطلها حبوب في الأكل واي حاجه بتشربها خلت ماما بقت تنفصل عن العالم وتبقي واحده تانيه خالص عدوانيه لأقصى حد..وقتها انا كنت صغيره لسه طفله مكملتش التسع سنين، وبشوف عمتي وهي بتحط الحبوب لماما ومعرفش دي ايه،وبابا تعب من كتر اللف بيها على الدكاتره وهي كمان حبيبتي تعبت أوى خصوصاً لما عرفت انها كانت هتموتني محروقه"..

توقفت عن الحديث تلتقط أنفاسها، وتحاول السيطره على بكائها.. بينما يستمع لها" ياسين" بهتمام، وقلب يعتصر على حزنها وألمها الشديد الظاهر بنبرة صوتها، وقد ظن أن حرق وجهها والدتها هي السبب به..
لتسطرد هي بصوت متحشرج بالبكاء..
"وصل بيها تعبها انها تتخلص من حياتها قبل ما تأذينا انا ولا بابا اكتر من كده،وقررت تموت نفسها، وهي متعرفش ان بابا اللي بيعشقها هيحاول ينقذها بأي طريقه حتي لو هيموت معاها"..

"كملي".. همس بها "ياسين" الذي تحرك من مكانه، واقترب وقف خلفها..
علقت أنفاسها بصدرها و هي تستشعر الذبذبات الحارة المنبعثة من جسده الآخذ بالاقتراب منها.. استدارت له ليفاجأها فارق الطول بينهما.. فرأسها بالكاد تصل لبداية صدره العريض.. اجتاحتها رجفه قويه حين استنشقت رائحته الرجوليه المثيره..

"كملي يا سراراي انا سامعك".. همس بها "ياسين" بخفوت.. جعلها تلملم شتات نفسها، وتستعيد قوتها قليلاً وتابعت قائله بغصه مريره..
"ولعت في نفسها يا ياسين، وبابا حاول يلحقها بعد ما ما خرجني بره الشقه بس للأسف ملحقش، ومات معاها"..

تهللت اسارير "ياسين" وبفرحه غامره قال..
" يعني انتي مش عفريته؟!"..
حركت رأسها بالنفي ببطء..
عقد "ياسين" حاجبيه وتحدث متسائلاً..
"طيب واسمك اللي بالدم اللي كان مالي الحيطان، وظهورك في المرايه، والازاز اللي بيتكسر دا كله كان ايه؟!"..
" سراري " بهمس.. "اسمي دا مكتوب بالألوان علي استيكر بطول الحيطه بنلزقه عليها، ونشيله بسهوله، والمرايه دي باب بيودي لاوضتي المقفوله اللي انكل شاكر حذرك تفتحها، وصوت الازاز دا كان تسجيل"..

صك "ياسين" على أسنانه بغيظ متمتماً بتساؤل..
" بتلزقوه؟ دا اللي هما مين بالظبط؟!"..
اجابته ببراءه.." انا وولاد عم شاكر الاربعه، وطنط عفاف مراته"..

مال على أذنها، وهمس من اسفل أسنانه..
"ومين اللي كهربني؟"..

" بودي".. غمغمت بها بنعومه جعلته يقترب بوجهه منها أكثر مدمدماً..
"اممم ويبقي مين بودي دا؟"..

" سراراي".. بصوت خفيض.."دا عبد الرحمن ابن انكل شاكر، وهو اللي كان بيخدرك ويشيلك هو واخوه عبدالله، وعائشه وفاطمه هما اللي كانوا بيطفو النور، وطنط عفاف اللي عملتلك الأكل علشان صعبت علينا، وانت جاي بعد سنين طويله في الغربه وحظك يوقعك تحت أيدينا"..

اقترب منها اكثر لتتراجع هي بظهرها حتي التصقت بالحائط خلفها.. حاصرها هو بجسده، ورفع كلتا يده حولها، ومال برأسه أكثر عليها حتي شعرت بأنفاسه
المهتاجة الملتهبة تصفع وجهها، وأردف بهمس قائلاً..
" انتي عارفه عاملتي فيا ايه؟"..

"رعبتك".. قالها "شاكر" بدون سابق أنظار وهو يجذب" ياسين" من كتفه يبعده عن" سراراي" جعله يقفز برعب، ويتحدث بغضب قائلاً..
"اييييه داااا ياااااعم شاااااكر"..

ضحك "شاكر" بقوه مغمغماً..
"لامؤاخذه يا ابني مش قصدي اخضك والله"..

مسح "ياسين"
على وجهه بعصبية و هو يطرد زفرة نزقة من صدره، ثم قال بصوتٍ أجش..
"انتو ليه مصممين تقطعولي الخلف؟!"..

تنقل "شاكر" بنظره بينه وبين أبنائه الأربعه الذين خرجوا من إحدي الغرف ووقفو بجوار "سراراي"، وتحدث قائلاً.. "مكنش قصدنا نرعبك اوي كده.. بس نعمل ايه انت اللي قلبك جامد شويه غير اللي قبلك كانوا بيجرو على بره ميرجعوش هنا تاني"..

اقترب منه "ياسين" وتحدث بغضب عارم، وهو يشير نحو أبناء شاكر، ومعذبته قائلاً..
"طيب هما وهنقول عليهم شباب طايش وكانوا بيهزور مع بعض بلي عملوه دا.. انما انت بقي يا عم شاكر يلي شوفتك وانا طالع ماسك المصحف بتقرا فيه وافقتهم ليه؟.. انت مش عارف
ان في حديث بيقول "لا تروعوا المسلم فإن روعة المسلم ظلم عظيم"..

ظهر الأحراج على وجه "شاكر" ونظر له وتحدث قائلاً..
"عندك حق طبعاً يا ابني،وانا مكنتش موافقهم على اللي عملوه دا،ولا مصدق ان الدكتوره رحمه اخت الباشمهندس محمد تعمل في الست شوشو اللي كانت بتعتبرها اختها الكلام اللي بتقوله سراراي دا.. بس لازم كنت اساعد البنت اللي أبوها افضاله مغرقاني انا وولادي،واللي كنت بعتبره اخ وصاحب، وبنته دي انا بعتبرها واحده من بناتي"..

عقد "ياسين" زراعيه أمام صدره،وتحدث متسائلاً..
"وكان ايه لزمته كل اللي عملتوه دا؟..مش فاهم برضوا تقصدو بيه ايه؟"..

اجابه" شاكر" قائلاً.. "نقصد نمشيك من الشقه لأنها بتاعت سراراي، ومش ناويه تبعها أبداً"..
أردف "ياسين" متسائلاً.. "طيب هي معاها أوراق تثبت ملكيتها للشقه دي؟"..

اجابه "شاكر" قائلاً.. "ايوه طبعاً.. ابوها الله يرحمه عطاني نسخ من كل الأوراق اللي تثبت أن سراراي بنته، وانها الوريثه الوحيده للشقه"..

" طيب ما كنتو قولتو كده من الأول من غير كل اللف والدوران دا".. قالها "ياسين" بضيق، وصوت عالِ نسبياً..

"مينفعش اظهر قبل ما أكمل السن القانوني اللي هو 21سنه وإلا عمتي هتبقي هي الوصيه عليا، وانا للأسف معنديش دليل واحد على اللي عملته مع مامتي غير إني شوفتها بعيني وهي بتحطلها الحبوب"..
هتفت بها "سراراي" برقتها المعهوده دون ان ترفع رأسها.. مكتفيه بالنظر للورود التي تحتضنها وكأنها تستمد قوتها منها حين شعرت بأعين "ياسين" تشملانها بنظرة بدت مدمرة..

"شاكر" بأسف.."واحنا منعرفش عمتها دي فين دلوقتي..مجتش هنا نهائي بعد موت اخوها ومراته لحد ما ما باعت الشقه لأخوك، وبرضوا معتبتش المكان هنا، وكل تعاملها من بعيد عن طريق المحامي بتاعها"..

ساد الصمت لبرهه قاطعه "ياسين" حينها انبعث صوته الهادئ المزلزل لكيانها..
"اطمني انا قولتلك اني هساعدك، وانا لسه عند كلمتي، وانتي هتظهري يا سراراي، وحقك هيرجعلك، وعمتك دي هنوصلها و هتتعاقب على اللي عملته"..

تأوهت دون صوت ..فصوته وحده يدغدغها.. اذداردت لعابها بتوتر، وبصوت مرتجف همست مستفسره..
"بس انت هتساعدني بصفتك ايه يا ياسين"..
كان صوتها يكاد يسمع.. لم تعرف كيف سمع همستها ذات الحنين المتأوه..

فأجابها بصرامه اخافتها قليلاً ..
"بصفتي جوزك يا سراري "..
جملته جعلتها أخيراً ترفع وجهها بحرص حتي تخفي نصف وجهها المشوه، ومن ثم رفعت عينيها
.. فالتقتا بعينيه.. واللتين اشتعلتا الآن كحمم بركانية ما ان التقتا عينيها.. حينها تزلزل كيانها كله دفعة واحدة..

على مضض ابتعد بعينيه عنها، ونظر ل "شاكر" الواقف يتابع حوارهما بابتسامه متسعه، وتابع بجديه.. "عم شاكر بما انك بتعتبر سراري زي بنتك.. فأنا يشرفني اطلب ايدها من حضرتك"..

"شاكر" بترحاب.. "والله يا ابني انت متتعيبش.. لكن الرأي في الأول والأخر رأي سراري "..

"هتقبل تتجوز واحده وشها محروق ومشوه زي؟!"..
غمغمت بها "سراراي" بغصة ملؤها الأسى..

سار نحوها "ياسين" بخطوات واثقه حتي توقف جوارها.. بينما هي أصبحت بحاله يرثي لها فقد أوشك قلبها على مغادرة صدرها من عنف دقاتهو
حين مال على أذنها، وهمس مازحاً بصوته الخافت المدمر..
"انا بالنسبالي موافق وجداً كمان.. انتي بقي هتوافقي تتجوزيني بعد ما قطعتيلي الخلف من اللي عملتيه فيا؟"..

انتفاضتها القلبية جعلتها غير قادره على النطق بحرف واحد.. تلك الإنتفاضة اللذيذه، والجديده عليها كلياً جعلتها تخفض رأسها سريعاً دليل على شدة خجلها.. ليبتسم "ياسين" بسعاده مغمغماً..
"يبقي السكوت علامة الرضا"..

أنهي جملته، وأخرج هاتفه من جيب سرواله، وطلب رقم شقيقه وهو يقول..
"هكلم ياسر اخويا يجيب المأذون ويجي على هنا، وبالمره نعرف منه إزاي نوصل لعمتك"..

أنتهي الفصل..
واستغفرو لعلها ساعة استجابة..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي