الفصل الخامس عشر

.. بغرفة هنا..

تقف "هنا" على قدمها مستنده بكلتا يدها على والدتها التي تمسك بها بأحكام تحت أنظار "كريم" المترقبه، وبتشجع تحدث قائلاً..
"هايل يا هنا.. يله حاولي تمشي أول خطوه"..

شعرت "هنا" أن كل حركه ونفس نابعه من جرحها جعلها غير قادره على النطق بحرف واحد.. تفهم "كريم" وضعها.. فتابع بهدوء..
"انا عارف انك مش قادره، ولا عارفه حتي تنطقي من الألم اللي حاسه بيه.. بس لازم تبدأي تمشي، وتحركي الدوريه الدمويه في جسمك علشان ميحصلش أي جلطات لقدر الله"..

أردفت "هدي" قائله بتأيد.. "ايوه يا حبيبتي كلامه صح.. انتي مش فاكره لما اختك ولدت إبنها قيصري انتي اللي قومتيها، وساعدتيها تتمشي أول ما البنج راح من جسمها"..

ابتسم" كريم" برزانه وهو يقول.."دكتوره هنا اكيد عارفه كل الكلام اللي بنقوله دا"..
ضحكت" هدي" متمتمه.. "ايوه صح دا انا نسيت خالص ان بنوتي في كلية الطب"..

بينما "هنا" منفصله عنهما بتركيزها بأولى خطوتها.. استجمعت كل قوتها، وحركت قدمها بخطي بطيئه متثاقله..
"برافو يا هنا".. قالها "كريم" بحماس شديد.. لتتابع "هنا" السير بصعوبه ممزوجه بالتحدي..

زحف القلق لقلب "كريم" حين لمح شحوب وجهها وتناثر حبيبات العرق علي جبينها، وبدأ جسدها يرتجف بوضوح، وبدأت تتمايل بين يد والدتها التي صرخت بفزع مردده..
"مالك يا هنا"..
ارتخي جسدها اكثر واوشكت ان تسقط ارضاً من يد والدتها..

أسرع" كريم" بكرسيه نحوهما وبلحظه كان جذبها من خصرها بمنتهي الرفق اجلسها على قدميه،ويده تحيط ظهرها بحمايه، ويده الأخرى تزيل حبيبات العرق عن وجهها.. بينما رأسها يتوسط صدره العريض، وبلهفه تحدث قائلاً..
"هاتي كوبايه ميه بسرعه من فضلك يا مدام هدي"..

أسرعت "هدي" بهروله لإحضار المياه.. بينما
خبط "كريم" برفق على وجنتيها، وبنبره هادئه تحدث..
"هنا متخفيش انتي دايخه مش أكتر ، ودا طبيعي يحصل لأنك بقالك فتره مبتتحركيش من السرير"..

اختلجت أنفاسها حين سمعت همسه الخافت فوق رأسها، وأسرعت بأطباق جفنيها بعنف، و قد تلون وجهها بحمرة قاتمة دليل على شدة خجلها..

" الميه يا ابني".. هتفت بها "هدي" الباكيه، وهي تعطيه كاسة مياه بيد مرتجفه..

أخذها منها،وقربها من فم "هنا" مغمغماً..
"اشربي شويه صغيرين"..
إعترتها رجفة مباغتة أخرى عندما سمعت صوته بنفس الطريقة الهادئة..يكاد يسمع..

لا تعرف لماذا داهمتها رغبة قوية للبكاء الآن، مع شعورها به باللحظة التالية يتحرك مبعدًا إياها عنه قليلًا، وعدل وضعها داخل حضنه ليحملها على مواجهته وهو يتمتم برفق..
"هنا انا عارف انك سمعاني.. فتحي عيونك علشان تطمني والدتك اللي قلقانه عليكي دي"..

تلاحقت أنفاسها وبدأ صدرها يعلو ويهبط بوضوح..
ليسرع هو باعطاء كاسة المياه ل "هدي"، وبدأ يبعد عنها حجابها وهو يقول..
"هبعد حجابك علشان تقدري تاخدي نفسك"..

إنقبض قلبه حين شعر بأصابعها الباردة تقبض على كفه بقوة دون سابق إنذار.. فهمس بأذنها قائلاً..
"متخفيش مني يا هنا.. حاولي بس تاخدي نفسك براحه"..

تشنجت بين يديه و إرتفع صوت نشيجها، لتغص فجأة و تنتفض و هي تطلق شهقة عميقة و قد فتحت عينيها مرة واحدة،وهي تتمسك بثيابه بكلتا يدها بقوه دليل علي شدة ألمها، ورعبها البادي على ملامحها.. مما دفعه لضمها داخل صدره دون ذرة تفكير، ويده تربت علي خصلات شعرها الحريريه مردداً..
"ماتركزيش على التعب.. إهدي خالص يا هنا"..

استكانت داخل حضنه.. جبرها ألمها على ذلك.. أخذ الأمر منها لحظات حتي استطاعت التقاط انفاسها بصوره طبيعيه، وهدأ ارتجاف جسدها قليلاً..

بينما أصبح "كريم" بحاله يرثي لها من خوفه وفزعه عليها.. هيئتها كانت بمثابة قبضه قويه اعتصرت قلبه بلا رحمه.. ليزيد من ضمها لصدره دون ارادته..

صوت طرقات على باب الغرفه جعلته يخف من ضمها له على مضض.. لينفتح الباب،وتخطو منه "هدير" ومن خلفها زوجها الممسك بيدها، وبيده الأخرى ممسك ب "إياد" صغيره..

جحظت اعينهما واعتلت الدهشه ملامحهما وهما يتطلعان ل "كريم" الذي يحمل "هنا" على قدميه داخل حضنه..

انقطعت أنفاس "هدير" وارتعد قلبها من بكاء والدتها الشديد، وتحدثت متسائله.. "هنا مالها يا ماما؟"..

"كنت بمشيها شويه داخت وكانت هتقع مني على الأرض لولا دكتور كريم الله يستره لحقها قبل ما تقع"..

لم يستمع "كريم" لكلمه من نا يدور حوله، منفصل عن العالم بتأمله لملامحها الرقيقه.. حتي شعر بنتظام أنفاسها وعلم أنها ذهبت بثبات عميق..

فتحرك بكرسيه بحذر حتي وصل عند فراشها، وحملها بين يديه.. ليسرع "ياسر" ويقترب منهما مغمغماً..
"خليني أشيلها معاك يا كريم"..

"لا خليك انت يا ياسر".. أردف بها "كريم" بصرامه،وهو يضع "هنا" على الفراش بحرص شديد، ودثرها جيداً بالغطاء حتي انه عدل لها وضع حجابها وتأكد من إخفاء شعرها، ونظر لوالدتها وتحدث قائلاً..
"اطمني يا مدام هدي، وكفايه عياط هي الحمد لله كويسه، واللي حصل دا طبيعي لأنها للأسف ضعيفه شويه.. انا هعلق لها محلول يغذيها شويه، وهتصحي من النوم تقولك بنفسها عايزه اقوم اتمشي يا ماما"..

قالت "هدير" ببكاء.. "طيب هي هتاكل امتي بقي.. دي بقت عايشه على المحاليل"..

اجابها "كريم" بابتسامه قائلاً.." قريب جداً بإذن الله هنبدأ نسمح لها بأكل خفيف وهيبقي كله عباره سوايل"..

اثناء حديثهم رن هاتف "ياسر" برقم "ياسين" فسار لخارج الغرفه، وهو يقول..
"طيب انا هروح ل ياسين مكتبه وارجعلكم تاني"..

" بس ياسين مش في مكتبه.. دا روح شقته"..
قالها "كريم"، وهو يسير نحو الخارج بعدما انتهي من تعليق المحلول بيد "هنا"، ورمقها بنظره اخيره تظهر مدي لهفته عليها مكملاً ..

"هبقي ارجع اطمن عليها تاني انهارده"..
" شقته؟!".. هتف بها "ياسر" بذعر ظاهر على محياه،وسار برفقة "كريم" للخارج وصفق الباب خلفه، وتابع ببكاء مصطنع..
"راح الشقه المنيله دي يعمل ايه بس، وانت سبته يروح ليه يا كريم"..

أشار "كريم" على هاتف "ياسر" الذي لم يتوقف عن الرنين، وقال بأمر.. "طيب رد عليه يا ابني شوفه عايز ايه ليكون فيه حاجه"..

اسرع "ياسر" بالضغط على زر الفتح وتحدث قائلاً.. "ايوه يا ياسين.. انت كويس؟.. طمني عليك"..

جاءه صوت "ياسين" يتحدث بسعاده بالغه..
" كويس الحمد لله، وعايزك تجيب الواد كريم وتجولي على الشقه، وتجيبو مأذون معاكم"..

صمت لبرهه، وتوجه بنظره ل" سراراي" التي تنظر له بخجل، وغمز لها بشقاوه مكملاً..
"انا هتجوز يا ياسر"..

رفع "ياسر" حاجبيه بذهول، وهو يقول..
"تتجوز يا ياسين؟!"..

اجابه "ياسين" بضيق.. "ايوه يا ابني هتجوز.. انجز وتعالي أوام انا مطبق من امبارح ومنمتش خالص"..

"طيب فهمني ايه اللي حصل علشان تتجوز بالسرعه دي؟،ومين دي اللي هتتجوزها؟"..

تنهد "ياسين" وببطء واستمتاع قال..
" هتجوز سراراي"..
جحظت أعين "ياسر"، وفغر شفتيه وبصدمه قال..
" العفريته؟!"..
" انجز يا ياسر واعمل اللي قولتلك عليه، ولما تيجي هفهمك كل حاجه".. قالها "ياسين"، واغلق الهاتف بعدها مباشرة ونظر ل" سراراي" وتابع بفرحه غامرة ظاهره على محياه..
"خلينا نجهز على ما يوصولو"..

بينما"كريم" عقد حاجبيه، وهو ينظر ل" ياسر" الذي الجمته الصدمه، ووقف ثابت بلا حراك..

ليردف "كريم" مستفسراً.. "مالك يا ابني؟"..
"اخويا اتلبس يا كريم، وبيقولي هات المأذون علشان هيتجوز سراراي العفريته اللي عايشه في الشقه"..
قالها "ياسر" بصوت متحشرج بالبكاء من شدة خوفه على شقيقه،وبندم تابع قائلاً..
"انا السبب.. انا اللي دبسته في الشقه المهببه دي"..

"كريم" بتعقل.. "اهدي يا ياسر مافيش عفاريت بتتجوز بمأذون، وخلينا نروحله ونفهم منه ايه اللي حصل بالظبط"..
حرك" ياسر" رأسه بالايجاب، وبلهفه قال..
" طيب خلينا نروحله بسرعه يا كريم.. هو قالي اجيبك معايا"..

سار "كريم" بكرسيه، وبهدوء قال..
"هغير هدومي، واجي معاك"..
.........................................
.. صافي وزياد..

بجوار جسرًا نيليًا مضاء بالمصابيح الملونة.. اختار "زياد" مكانٍ جانبي قليلاً خال من الناس، و فرمل سيارته بتراوي..
ليستمع صوت" صافي" من جانبه ينطلق بغنج..
"خير يا زياد.. ايه هو الموضوع المهم اللي عايزني فيه؟"..

أدار رأسه إليها.. يرمقها بنظرات خبيثه مغمغماً..
"عايزك انتي يا صافي"..

انكمش جبينها وقالت بتهكم لا يعجبها لهجته العابثة، وعيناه التي تشع مكر وشر.. فأدرفت متستفسره بحده..
"ايه عايزني دي؟.. تقصد ايه بالظبط؟"..

ارتفع حاجبيه بمرح متمتم بجدية مصطنعه حاول بها تلطيف الأجواء..
"أقول إزاي وانا حاسس انك عايزه تضربيني"..

التوى فمها ببسمة جانبية، وعينيها معلقة عليه لا تزيحها رغم ما يعتريها من مشاعر متخبطة لجلوسهم بمفردهم فقالت بقوة استجمعتها بصعوبة بالغة، محركة كتفيها ببراءة مزيفة..
"لا أبداً انا بس مستغربه كلامك.. فياريت تتكلم على طول وتقولي عايزني في ايه"..

تأملها قليلاً ثم اقترب بوجهه منها حتي كادت ان تتلامس انفهما، وخرج صوته بجدية وعملية بحتة..
"عايز اتجوزك يا صافي"..

سرت رجفة ليست ببسيطة بجسدها أثر أنفاسة اللافحة لبشرتها، أزدردت ريقها بصعوبة، وبهمس يكاد يسمع متمتمه..
" انا لسه مطلقه و؟!"..
قاطعها هو بابتسامه زائفه..
"عارف انك لسه في فترة العده.. لو وافقتي هنعتبر اننا في فترة خطوبه لحد ما عدتك تخلص ونتجوز على طول"..

أغمضت أهدابها الكثيفة لوهله،ومن ثم فتحت عينيها مبتسمة له، وحركت رأسها بالايجاب قائله..
"موافقه"..

تأهب الجميع حين استمعو لصوت المأذون الجاد يقول..
"يله يا عريس تعالي جنبي هنا، وفين وكيل العروسه"..

تنحنح "شاكر" وهو يخرج بطاقته وبطاقة "سراراي" ايضاً مغمغماً..
"اححم انا يا شيخنا"..

أسرع "ياسين" بالجلوس بجوار المأذون، و"شاكر" جلس بالجهه الأخرى..

نظر المأذون بالبطايق مردفاً..
"اسم العروسة سارة محمد شرف الدين"..
اعتلت ملامح "ياسين" الدهشة، ونظر ل" شاكر" بغضب قائلاً..
"مين سارة دي؟!"..

ارتعد قلب "سراراي" الواقفة خلف باب غرفتها تتابع ما يحدث بقلق وخوف بادي على وجهها..

ازدراد "شاكر" لعابه بتوتر، وبابتسامة باهتة قال..
"سراراي اسمها الحقيقي سارة"..
عض "ياسين" على شفتيه بغيظ، وكور قبضة يده، وود بشدة ان يلكم "شاكر" بقوه..ليسرع "شاكر" ويتراجع للخلف مبتعداً عنه، وهو يقول..
"يا ابني سارة كانت لازم تختار اسم عفاريتي.. فخترعت سراراي اللي قعدنا كلنا فترة كبيرة على ما حفظناه"..

حرك "ياسين" رأسه بالإيجاب، وبابتسامه مصطنعة قال..
"حسابي مبقاش معاك انت يا عم شاكر.. بقي مع اللي هتتكتب على اسمي"..
نظر للمأذون، واردف بهدوء ما قبل العاصفة..
"اكتب يا مولانا بسرعه الله يرضي عليك"..

جملته جعلت "سراراي" تبتسم بخجل، وتشتعل وجنتيها بحمرة قاتمة..

بينما انتفض "ياسر"، وهب واقفاً، واقترب من"ياسين"جلس بجواره.. عفواً بل جلس على قدمه، وهمس بإذنه بنبره راجيه..
"ابوس ايدك بلاش الجوازه دي وقوم بينا نجري يا ياسين".. وجه نظره ل "شاكر" الذي لاعب حاجبيه له وتابع ببكاء مصطنع.. "انا حاسس ان شاكر دا هيرفع رجله مره واحده هنلاقيها رجل معزه"..

قهقه "ياسين" بقوه، ونظر ل "شاكر" وأردف بمزاح..
"عم شاكر ياسر اخويا عايز يشوف رجلك"..

رفع "شاكر" حاجبيه بدهشه، ونظر ل"ياسر" مردداً..
" يشوف رجلي؟!"..

" لااااااااا.. مش عايز اشوف حاجه"..
صرخ بها "ياسر" بخوف وهو يرمق "ياسين" بنظرات عاتبه..

ليردف المأذون قائلاً..
" يله يا ابني عندي كتب كتاب تاني"..

تنهد "ياسين" براحه، وبفرحه تحدث قائلاً، وهو يمد يده ل "شاكر"..
"يله ابدأ على بركة الله يا شيخنا"..

وبين لحظات من التوتر والخوف، والفرحة، والكثير من المشاعر المختلطة.. أعلن المأذون "ياسين" زوج ل "ساره"..

هب "شاكر" واقفاً وتحدث بفرحه قائلاً..
" همضي العروسة، واجبها واجي"..

همس "ياسر" بأذن "ياسين" قائلاً بخوف..
"طيب انا همشي بقي يا ياسين"..
ربت "ياسين" على ركبته، وبجديه قال..
"تمشي فين يا ابو إياد.. أمال مين اللي هيصورني انا ومراتي؟"..

"خلي كريم هو اللي يصورك".. هتف بها "ياسر" بنبره راجيه.. حرك "ياسين" رأسه بالنفي، وبتعقل قال..
" اسمعني كويس..انت مش بتقول ان "ناني" دي هي الوحيدة اللي بتكلم صاحبة الشقة؟"..
حرك "ياسر" رأسه بالإيجاب، وهو يقول..
" ايوه نهي هي اللي كانت بتجبلي منها الموافقة على اي ورق يخص بيع الشقة..انا معرفهاش ومشوفتش حتى شكلها قبل كده خالص"..

"ياسين".. "طيب انا عايزك تخلي ناني ولا نهي دي توصل الصور بتاعتي انا وسراراي لصاحبة الشقة، وتقولها بنت اخوكي عايشه، واتجوزت وطالبه حقها في الفلوس اللي لهفتيها"..

توقف عن الحديث حين فتح باب غرفة "سراراي" جعله يهب واقفاً ويتطلع تجاهه بلهفه..

استقطبت "سراراي" جميع الأنظار لحظة خروجها بجوار "شاكر" الذي خانته عبراته، وهبطت على وجنتيه،وهو يقول..
"الحمد لله انا كده سلمت الأمانه.. عروستك اهي يا ابني"..

أنتهي الفصل..
واستغفرو لعلها ساعة استجابة..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي