الفصل الثالث عشر

..بشقة ياسر وهدير..

"اطمني انا هرجع الفلوس ل" ياسين" انهارده يا هدير.. بس ادعيلي من قلبك انه ميزعلش مني"..
قالها "ياسر" متعهدًا، مال بوجهه على وجهها طابعاً قبلة رقيقة مطولة فوق جبينها..

التفت "هدير" بكلتا يدها حول خصره تضمه لها بقوه مردفه بفرحه غامره..
"انا مبسوطه بيك أوي يا ياسر علشان رجعت الراجل اللي انا حبيته واتجوزته.. ربنا ينور بصيرتك للصح دايماً ويعمي عينك عن الحرام يارب"..

أمن "ياسر" علي دعائها، وتنهد بأسف وهو يقول..
"بس هديله الفلوس ناقص منها مبلغ"..
جملته جعلتها تعتدل بنصف جزعها فوق جسده.. تطالعة شرزًا متمتمه بتساؤل..
" انت صرفت منهم عليا انا وابنك يا ياسر؟"..

أعاد رأسها على صدره برفق وهو يقول..
" انا مختش منهم مليم.. بس" ناني" اللي عرفت الشقه عن طريقها لهفت مني نص المبلغ، ودي كلبة فلوس مستحيل ترجعهم"..

لكزته "هدير" بكتفه واردفت بغيظ، وغيره شديده..
" مش دي اللي كانت ليل نهار ترن عليك، وتبعتلك رسايل بصوتها المايع دا بتقولك فيهم كلهم يابيبي"..

ابتسم" ياسر" ابتسامه ماكره مستمتعاً بغيرتها عليه، ولاعب حاجبيه لها واردف بتساؤل..
"بتغيري عليا يا بيبي"..

تأوه ضاحكاً حين لكمته بقبضة يدها بمعدته بقليل من القوه مردده بلهجة آمره..
" متقولش الكلمه دي تاني علشان بتستفزني، واتفضل قولي هتعمل ايه في المبلغ الناقص"..

أجابها "ياسر" قائلاً.. "هحاول اقدم على سلفه من الشغل، واطلب من ياسين يستني عليا في الباقي شويه"..

" هدير" بتعقل.. "شوف هيفضل فلوس اد ايه وخد دهبي وبيعه وكمل الفلوس وردها كامله علشان متحرجش أخوك ويقولك خلاص انا مش عايز الباقي"..

لتسمع صوت زوجها ينطلق بلهجة خفيضة لا تخفي غضبه المشحون أبدًا..
"مش هاخد دهبك يا هدير"..

" دهبي دا انت اللي جايبهولي من خيرك، وبإذن الله هتعوضني عنه وتجبلي احسن منه يا حبيبي"..
هتفت بها "هدير" بابتسامه حانيه تعكس مدي حبها.. بل مدي عشقها له..

بادلها نظرتها بعشق أشد مدمدماً..
" لو في حاجه عملتها صح في حياتي فهي جوازي منك يا هدير"..
مسد علي شعرها مكملاً بهمس..
"ربنا ما يحرمنيش من وجودك في حياتي انتي، وابننا يا حبيبتي"..

"ولا يحرمنا منك أبداً أبداً يارب"..
همست بها بخفوت وهي تلتصق به أكثر، وتابعت همسها بخجل يكاد يسمع..
"واحشتني يا ياسر"..

" انتي أكتر يا حبيبة ياسر"..
قالها وهو يأخذها في عناق محموم ساحبها به لعالمه الخاص..

بالمستشفي..
بغرفه "هنا" التي نقلت اليها بعدما ظلت يومان داخل العنايه المركزه فور خروجها من جراحه استمرت اكثر من ثلاث ساعات على التوالي..

لم تتركها والدتها "هدي" لحظه واحده.. حتي في وجود شقيقتها ترفض الارتياح بعيداً عنها.. تفضل ان تغفو للحظات بالفراش المجاور لها حتي تكون قريبه منها..

انتفضت جالسه حين استمعت لهمس "هنا" تقول بخفوت..
"ماما اصحي يا حبيبتي"..

أسرعت "هدي" بالنهوض، واقتربت منها مردفه بلهفه..
"ايوه يا نور عيني انا صحيت اهو..عايزه حاجه يا ضنايا"..

ابتسمت لها "هنا" وامسكت يدها قبلتها بعمق مغمغمة.. "لا يا حبيبتي انتي مش مخلياني محتاجه حاجه.. ربنا ميحرمنيش منك أبداً يارب" ..

صمتت لبرهه تلتقط أنفاسها وبهمس ضعيف تابعت..
"انا بصحيكي علشان ميعاد العلاج بتاعي قرب والدكتور هيدخل يدهولي ميشوفكيش نايمه كده.. لما يخرج ابقي نامي تاني"..

ربتت "هدي" علي يدها بحنان، وهي تدعو لها من صميم قلبها..
" ربنا يتم نعمته عليكي وتقومي بألف سلامه يا قلب أمك"..
رفعت "هنا" عينيها للسماء وأمنت على دعائها بقلبها بتمني شديد..

قبلتها "هدي" من وجنتيها وهي تقول..
"يله خليني اغسلك وشك واسرحلك شعرك قبل ما الدكتور ما يجي"..

أحضرت بعض المياه الدافئه في إناء صغير وضعتها على طاوله صغيره بجوار فراشها، وبدأ تملس على وجهها وعنقها بيدها بحنان بالغ حتي انتهت، بحذر وحرص شديد بدأت تساعدها على الأعتدال قليلاً حتي تتمكن من تمشيط خصلاتها الحريريه.. كان قلبها يعتصر ألماً على صغيرتها، وما تمر به من حمل كبير يفوق قدرتها، ولكنها دوماً راضيه بقضاء الله..

أطبقت جفنيها بعنف كمحاوله منها لكبح عبراتها حتي لا تخونها وتهبط علي وجنتيها.. وقامت برفع شعرها علي هيئة ذيل حصان،وتحدثت بحب قائله..
"زي القمر يا نور عيني.. عقبال ما اجهزك وانتي عروسه ياارب"..

ابتسمت "هنا" لها ابتسامه حزينه، وهمست قائله بنبره راجيه..
"لبسيني حجاب يا ماما من فضلك"..

"هدي".. "عنيا يا حبيبتى"..

"انتي بدفعي فلوس المستشفى يا ماما؟"..
قالتها "هنا" دون مقدمات.. كان القلق ظاهر على محياها وهي تنظر لوالديها تنتظر اجابتها..

التزمت "هدي" الصمت حتي انتهت من لف حجابها، ونظرت لها بعتاب قائله..
"انتي فكراني مبدفعهاش علشان صاحب المستشفى صاحب جوز اختك يا هنا؟!"..
لتسطرد دون إعطائها فرصه للرد..
"أمال انا بعت شقتنا ليه يا حبيبتي.. اطمني انا بدفع والله كل اللي بيقولولي عليه، وحتي تمن العلاج"..

همست "هنا" بنبره راجيه.. "متزعليش مني يا ماما.. حقك عليا انا مش قصدي أزعلك"..
هتفت "هدي" بلفهه.. "عمري ما أزعل منك يا ضنايا، وانا فاهمه قصدك وعارفه انتي قولتي كده ليه.. بس عايزاكي تعرفي ان امك لا يمكن تعمل حاجه تسبب في احراجك أبداً"..

ابتسمت بمكر مكمله..
"خصوصاً أدام دكتور "كريم" الزوق اوي دا، واللي بيجي يديكي العلاج بنفسه كل يوم"..
توردت وجنتي "هنا" بحمرة الخجل.. لتكمل" هدي" بستغراب مصطنع.." تعرفي ان جوز اختك قالي انك الوحيده في المستشفي كلها اللي متابع حالتها!!"..

اعتلت الدهشه ملامح "هنا" متمتمه..
"لا طبعاً دا دكتور يعني اكيد عنده حالات غيري"..
اتسعت ابتسامه "هدي" وهي تقول..
"هو فعلاً دكتور بس مكنش بيشتغل بشهادته.. كان غطاس وحصلتله حادثه كبيره خلته قاعد على كرسيي متحرك زي ما شوفتيه كده، وجه المستشفي هنا علشان يعمل عمليه؟!"..

صوت طرقات على باب الغرفه قطع حديثها، وهبت واقفه سارت نحو الباب وهي تقول بثقه..
"دي خبطة دكتور كريم.. انا عرفتها خلاص"..
انبلجت ابتسامه على ملامح "هنا" قمعتها سريعاً، وسحبت الغطاء حولها بأحكام..

تعالت نبضات قلبها حين اخترقت انفها رائحة عطره النفاذه..

" صباح الخير".. قالها "كريم" بابتسامه هادئه..
أردفت "هدي" ببشاشه وهي تبتعد عن مدخل الباب ليتمكن من المرور بكرسيه..
" صباح النور يا ابني.. اتفضل"..

تحرك "كريم" للداخل أمام أنظار "زياد" الذي يتابعه عن بعد بفضول شديد محدثاً نفسه..
"ياتري اشمعني "هنا" الوحيده اللي مهتم بيها كده ومتابع حالتها بنفسه؟!"..

انتبه لرنين هاتفه.. فبتسم بمكر حين لمح اسم "صافي" التي تطورت علاقتهما سريعاً، وأصبحت تحدثه يومياً لساعات طويله.. اسرع بالرد عليها قائلاً..
" دا أحلى صباح دا ولا ايه"..

" صباح الخير يا دكتور".. قالتها "صافي" بغنج وميوعه..

"زياد".. "برضو دكتور؟.. قولتلك انتي بالذات تقوليلي يا زيزو"...
دمدمت "صافي" بتفكير قائله.. "امممم طيب انا موافقه نتقابل يا زيزو، وتقولي الموضوع المهم اللي عايزني فيه"..

" صدقيني عايزك في كل خير".. قالها "زياد" بمكر، وتابع محدثاً نفسه.. "ليا طبعاً"..
فقد علم أن "صافي" تمتلك مجموعه أسهم من المستشفى الذي يعمل هو بها..

.. داخل غرفه "هنا"..

"عامله ايه انهارده؟"..
قالها" كريم" وهو يفحص "هنا" بعنايه رغم توتره الذي نجح في إخفاءه ببراعه..

ملتزمه هي الصمت..تجاهد حتي لا تلتقيان اعينهما، وحتي لسانها لم يسعفها بالرد عليه..

شعرت والدتها بها.. فأسرعت هي بالرد عليه قائله..
"الحمد لله يا ابني.. هي بفضل الله بتتحسن عن الأول بكتير"..

أمسك" كريم" كف يدها المنغرس به أبره طبيه.. لينتفض قلب كلاً منهما بنبضه غريبه لم تمر عليهما من قبل.. ثبت يدها الصغيره داخل قبضة يده الضخمه، ووضع به محلول بمنتهي الرفق تحت أنظار "هدي" التي تبتسم ببلاهه..

رفع عينيه، ونظر لها لتسرع هي بخفض عينيها.. ابتسم بستمتاع من خجلها، وضغط على يدها برقه جعلها ترمقه بنظره مندهشه..

ابتسم لها وترك يدها ببطء وهو يقول..
"تقدري تتمشي في الاوضه شويه اول ما المحلول يخلص.. بس خطوات بسيطه ولو حسيتي انك دايخه او مش قادره متجزفيش علشان متعرضيش نفسك للخطر"..

حركت رأسها بالايجاب، وبصوت هامس قالت..
"هو انا هروح البيت امتي؟"..
عقد "كريم" حاجبيه، وبمرح قال..
"لو زهقتي مننا أوي كده خفي بسرعه علشان تروحي"..

ترقرقت اعين "هنا" بالعبرات وهمست بصوت مبحوح قائله..
"طيب وشعري هيقع امتي؟"..

جملتها جعلت والدتها تنفجر ببكاء مرير، وحتي "كريم" شعر بقبضه قويه تعتصر قلبه حين لمح نظرة الألم والحزن الشديد بعينيها تحاول اخفائهم خوفاً على والدتها..لتذهله أكثر حين همست "هنا" بحنان بالغ ونبره راجيه..
" متعيطيش يا ماما علشان خاطري"..
لينتبه" كريم" على نظرته المتفحصه لها.. وتنحنح قائلاً..
" اطمني يا هنا.. الحمد لله الورم اللي عندك طلع حميد وعلاجك الكيماوي هيخلص قبل حتي ما شعرك يبدأ ينزل، وانا هفضل معاكي، وهكتبلك مقويات ونظام غذاكي تمشي عليه هيرجعك احسن من أول كمان بمشيئة الله"..

سيطرت "هدي" على بكائها، وبمتنان تحدثت قائله..
"ربنا يباركلك يا دكتور كريم"..

" ويباركلك في هنا، ويتم شفاها على خير".. قالها "كريم"، وبدأ يسير بكرسيه نحو الخارج مكملاً..
" انا هستني بره لحد ما المحلول يخلص، وهرجعلك تاني علشان اشوفك وانتي واقفه على رجلك"..
تنهد بصوت عالِ وتابع بمرح رغم الحزن الذي كسي ملامحه..
"لعل الله يكتبلنا الشفا العاجل، وأقف انا كمان معاكي"..

تهللت اساريره حين نظرت له أخيراً بابتسامتها الساحره التي يرها لأول مرة مغمغمه بثقه، ورضا تام بقضاء الله..
"بإذن الله ربنا يشفينا ويشفي كل مريض يارب"..
...................................
"ياسين"..
بعد انتهاءه من الاطمئنان على كافة حالاته..نظر بساعة يده وجدها اوشكت على الثامنه صباحاً وهو مستيقظ من ليلة أمس..

وبرغم تعبه البادي بوضوح على ملامحه إلا انه اندفع لخارج المستشفى بحماس، ولهفه، واستقل سيارته وقادها لأقرب محل ورد بطريق منزله..

ضغط على بوق السياره.. فركض نحوه إحدي عمال المكان وتحدث بإحترام..
"اؤمر يا فندم"..

"من فضلك عايز بوكيه ورد أحمر يجنن"..
قالها "ياسين" بصوت يغلبه النعاس، وصمت لبرهه واستطرد برجاء..
"بس بسرعه الله يباركلك قبل ما أنام علي نفسي"..

أسرع العامل بتجهيز أجمل باقة ورد..بينما "ياسين" شارد في تلك ال "سراري " التي اشتاقها دون أرادته..

أنتهي الفصل..
واستغفرو لعلها ساعة استجابة..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي