الفصل العاشر

توجه "ياسين" نحو باب الشقة فتحه،بملامح يبدو عليها السعادة تحدث قائلاً..
"ايه الدوشة دي يا ابني علي الصبح؟!"..

اعتلت الدهشة ملامح "ياسر، وشاكر وحتي أبناء شاكر" وتحدثو بصوت واحد..
"أنت كويس؟!"..

"كويس جداً جداً كمان"..
تفوه بها "ياسين" وهو يسير لداخل الشقة، ويقلد بيده رقصات "سراري" باستمتاع، وابتسامه هائمه تزين محياه..

خطو جميعهم خلفه للداخل يتابعون ما يفعله بأعين متسعه وفم مفتوح علي أخره ببلاهة..

ارتمي"ياسين"علي أقرب أريكة بإهمال ونظر لـ "شاكر" وبخبث تحدث قائلاً..
"عم شاكر أنت قولتلي أن "سراري" اختفت وهي 8سنين مش كده؟"..

"اححم ايه يا ابني اللي بتقوله هنا دا، ربنا يجعل كلامنا خفيف عليها"..
قالها "شاكر" بصوت مرتجف من شدة توتره..

انفجر"ياسين" ضاحكاً وتحدث بصعوبة من بين ضحكاته..
"هو فعلاً كلامك خفيف أوي يا عم شاكر وبيضحكني"..

أردف" شاكر"مغيراً مجري الحديث عن عمد..
"طيب احنا اطمنا عليك عن إذنك يا ياسين يا ابني هننزل احنا بقي"..

دفع أبناءه برفق، وسار بهم لخارج الشقه وصفق الباب خلفهم..

نظر" ياسين" بتجاه شقيقه وجده يقف بوجه يكسوه الحزن، والندم فعقد حاجبيه وتحدث بتساؤل..
" مالك يا ياسر؟!"..

" ياسين قوم معايا خلينا نمشي من الشقه دي"..
قالها "ياسر" وهو يقترب منه ويجذبه من يده يحثه علي النهوض..

فهب "ياسين" واقفاً وربت علي كتفه، وهو يقول بتعقل..
"اهدي يا حبيبي ومتخفش وفهمني في ايه مخبيه عليا"..

ظهر الزعر علي ملامح "ياسر"، ودار بعينه بأرجاء الشقه، وبصوت مرتجف تحدث..
"شكلها كده هتطلع زي ما الناس بيقولو عليها"..

"ياسين" بابتسامه.. "بيقولو ايه يا أبو إياد؟"..
هم "ياسر" بالرد، ولكن صوت رنين هاتف "ياسين"جعله يقفز بفزع، وبلحظه كان داخل حضن شقيقه معلق به بيده، وحتي قدميه..
................................
بالمستشفى..
داخل غرفة "كريم"..
الصمت ساد المكان بعد حضور "صافي" الغير مرحب بها وبوجودها من قبل والدة "كريم" علي الإطلاق..

اعتلت الدهشه ملامح" كريم" من جملتها التي لا تليق بما فعلته معه، أي واجب هذا التي تتحدث عنه وهي من تركته بمحنته العصيبه؟!..

لتقرر "عبير" قطع الصمت، وتحدثت قائله..
"واجب؟!، وانتي تعرفي الواجب يا صافي؟"..
قالتها بنبره ساخره وهي ترمقها بنظرات غاضبه..

ابتسمت لها "صافي" بصطناع، وببراءه مزيفه تحدثت..
"طبعاً يا طنط اعرف الواجب كويس اوي بدليل اني صبرت مع ابنك لما عمل الحادثه اكتر من 10 شهور، وعلي العموم"..
نظرت ل "كريم"..
"ربنا يتم شفاك علي خير يا كريم وتخرج علي رجلك المرادي"..

"متشكر يا صافي"..
قالها "كريم" بابتسامه هادئه تزين محياه..
"ومتبقيش تتعبي نفسك بعد كده وتيجي تزوريني"..

"بقي كده يا كريم؟"..
هتفت بها "صافي" بحاجب مرفوع، وهي تتنقل بنظرها بينه، وبين والدته التي تبتسم بنتصار، ليشعل" كريم" حنقها اكثر حين قال ببرود ولم تبرح الابتسامه محياه..
"نورتي يا صافي"..

ضربت بقدمها الأرض بغضب، ورمقتهما بنظره حارقه، وسارت للخارج بخطوات شبه راكضه وهي تتمتم بغيظ..

لتقترب "عبير" من عزيزها، وتربت علي يده بحنان وبذهول تحدثت قائله..
"مش عاجبها طريقة كلامنا معاها بعد اللي عملته معاك!! فعلاً انسانه مستفزه، ومش طبيعيه أبداً، ومش عارفه انت كنت مستحملها ازاي يا ابني؟!"..

"كريم" بتعقل.. "راحت لحلها يا أمي الله يسهلها"..
توجه بنظره ل "زياد" الواقف بإحدى جوانب الغرفه ممسك ببعض التحليل، ويمثل انشغاله بهم، وتحدث بجديه قائلاً..
"تقدر تكمل كشف يا دكتور"..

تنحنح" زياد"بحرج، واقترب منه وبدأ يفحصه مره أخرى..

"مصدقتش لما قالولي انك هنا قولت أجيلك بنفسي"..
هتف بها راجل خطي من الباب فجأه دون انتظار إذن واقترب من كريم، واحتضنه بحراره مكملاً..
"ان شاء الله هتقوم بألف سلامه يا حبيبي"..

" بإذن الله يا دكتور محمود انا عندي يقين بالله، وكل اللي مكتوبلي من تدابير ربنا وهيبقي خير بمشيئة الله تعالى"..
قالها "كريم" بثقه وابتسامة رضا بقضاء الله وقدره ، فعبث "محمود" وبعتاب تحدث قائلاً..
" بمشيئة الله يا حبيبتي بس ايه دكتور دي يا كريم؟!"..
احتضن وجهه بين كفيه، وبنبرة راجيه تابع..
"قولي يا بابا واحشتني الكلمه دي"..

اعتلت الدهشه ملامح" زياد" محدثاً نفسه..
" يعني دا كريم ابن دكتور محمود المهدي صاحب المستشفي؟! لا دا انا لازم اتصاحب عليه وابقي الانتيم بتاعه كمان"..
جمع أدواته بحماس، وتحدث بستأذان قائلاً..
"عن إذنكم انا، وهرجعلك تاني كمان ساعه أطمن عليك"..

اومئ" كريم" له بالايجاب، وانتظر حتي غادر الغرفه، ونظر لوالده نظرة مليئة بالألم استطاع اخفائها، وبتساؤل قال..
" عامل ايه يا بابا طمني عليك؟"..

أطبق"محمود"جفنيه بعنف فأبنه دوماً هو الذي يسأل عنه وعن أحواله حتي أثناء مرضه لم يكف عن السؤال عنه، وهو منشغل طيلة الوقت بعمله تاركاً ابنه، وزوجته بالأسابيع، وأحيانًا بالشهور..

حين تذكر زوجته اتسعت عينيه، ونظر خلفه ببطء ليجد "عبير" جالسه علي إحدي المقاعد عاقده زراعيها أمام صدرها، وترمقه بنظرات عاتبه يملئها الحزن..

ابتلع لعابه بصعوبه، وابتسم لها ابتسامه باهته، وتحدث بتوتر قائلاً..
"ازيك يا عبير؟"..
"الحمد لله يا دكتور"..
قالتها "عبير" باقتضاب لا يخلو من الجمود، فتهرب من نظرتها" محمود" سريعاً ونظر لابنه وبمرح تحدث قائلاً..
"لما صاحبك عايز يشتغل هنا في المستشفي مكلمتنيش ليه وعرفتني؟ ، ولا قولتله يجيلي مكتبي علي طول ليه؟لازم يعني يبعت السي في بتاعه وتمشوها رسمي؟!"..

" صاحبي مين؟"..
هتف بها" كريم" بعدم فهم..
فأجابه "محمود".. "ياسين النادي صاحبك يا كريم"..

اعتلت ملامح "كريم"الدهشه، وبذهول قال..
" ياسين النادي قدم ورقه عندك هنا في المستشفي؟!"..
" ايوه يا ابني، وأنا وافقت عليه، وهبلغ الإداره تكلمه علشان يجي يمضي العقد ويستلم شغله"..

ابتسم" كريم" بفرحه غامره مغمغماً..
" ياسين كان مسافر بره بقاله فتره كبيره، وميعرفش اصلاً ان المستشفي دي تبقي بتاعت حضرتك"..
صمت لبرهه، واكمل بلهفه..
" طيب ممكن تجبلي رقمه ومتخليش الإداره تكلمه، وانا اللي هكلمه"..
...........................
..بمنزل هنا..
تحتضن" هدير" شقيقتها بحب شديد، وتربت علي ظهرها بحنان وبتعقل تتحدث قائله..
"والله يا هنا هتخفي وهترجعي احسن من الاول، وربنا هيعوضك ويرزقك بالزوج الصالح، والحب الحقيقي اللي يصونك ويحطك جوه قلبه وعينه كمان"..

انكمشت "هنا" داخل حضن شقيقتها، وبصوت تحشرج بالبكاء همست..
" هو لسه في رجاله بتحب حب حقيقي يا هدير؟"..
هبطت عبراتها الحارقه علي وجنتيها ببطء، وبتساؤل تابعت..
" مشوفتيش زياد عمل معايا ايه؟"..

رفعت رأسها ونظرت لها، وبأسف أكملت..
" ولا ياسر جوزك وخيانته ليكي، ولأخوه كمان"..

"لا يا هنا مش كل الرجاله زي زياد الندل دا، وياسر جوزي انا طلعت ظلماه والست اللي كان بيكلمها طلع بينهم شغل، وفلوس أخوه وعدني انه هيرجعهاله وراحله فعلاً وهيقوله علي كل حاجه حصلت"..
هتفت بها "هدير" بلهفه تغمرها الفرحه، وبتنهيده وتمني تابعت..
" ربنا يصلح حاله وينور بصرته للطريق الحلال ويعمي عينه عن الحرام"..

آمنت" هنا"علي حديثها، وبوهن اعتدلت جالسه، وتحدثت بابتسامتها الرائعه بالرغم من عينيها الباكيه..
" يله خلينا نروح المستشفى انا بدأت أجوع خليهم يركبولي محلول"..

طريقة حديثها المتألمه جعلت شقيقتها تنهمر عبراتها بغزاره وعادت ضمها لحضنها بقوه محدثه نفسها بقلق..
"على الله يا ياسر تكون عملت اللي قولتلك عليه، وكلمت ياسين علي المستشفي اللي صاحبه فتحها"..
........................................
" ياسين"..
قهقه بملئ فمه وهو يري شقيقه معلب برقبته كطفل لم بتم عامه الثالث بعد، فربت علي ظهره برفق وهو يقول بمزاح..
"أنزل يا حبيبي اسم الله عليك متخفش دا موبيلي بيرن"..

" ياسر" بتوسل.. " أبوس أيدك خلينا نمشي من هنا يا ياسين انا مش مرتاح"..

"ياسين" بتعقل.. "طيب انزل يا ابني من علي ايدي خليني اغير هدومي واشوف مين اللي عمال يرن عليا دا، وبعدين نبقي نخرج علشان تحكيلي كل اللي حصل معاك بالتفصيل"..

علي مضض هبط" ياسر"من علي يد شقيقه، ووقف جواره، ليسرع" ياسين"نحو هاتفه، وضغط زر الفتح وتحدث بمنتهي سعاده..
"ياااااااااكيموووووو ليك واحشه يا غالي"..

لمرته الاولي بعد الحادث القوي الذي تعرض له يضحك "كريم" بقوه من صميم مردداً..
" حبيبي وصاحبي وعم عيالي"..

" دا دكتور كريم المهدي صاحبك يا ياسين اللي اتخصص جراحة أورام؟"..
هتف بها "ياسر" بفرحه شديده انبلجت فجأه علي محياه بينما عينيه تفيض بدمعاً كثيراً..

اجابه "ياسين" بستغراب.. "ايوه هو يا ياسر"..
صوت "ياسر"وصل لسمع "كريم" الذي قال بفخر..
" قوله يا ياسين اني مشتغلتش بالدكتوراه، وبقيت غواص محترف، او كنت غواص"..

ظهر الزعر مره أخرى علي ملامح "ياسر" وبصعوبه تحدث قائلاً..
"اخت مراتي الصغيره جلها ورم في الأمعاء، ومحتاجه عمله كبيره، و كنت هقولك تكلم كريم صاحبك علشان يعملها هو العمليه"..

صدمه اعتلت ملامح "ياسين" بعد ما القاه على سمعه شقيقه، فهنا تلك الصغيره يتذكرها "ياسين" جيداً حين ذهب برفقة "ياسر" ليطلب له يد شقيقتها وكم كانت شغوفه بالحديث عن كلية الطب الذي كان هو طالب بها وقتها..

"الو يا ياسين انت روحت فين يا ابني"..
قالها "كريم" بقلق حين انقطع حديث "ياسين" فجأه..
"معاك يا كريم"..
هتف بها "ياسين" وهو يقترب من شقيقه الواقف أمامه مستند علي الحائط، ومبتعد بنظره عنه ليخفي عبراته التي تخونه وتهبط علي وجنتيه بغزاره من شدة تأثره..
وضع زراعه حول كتفه، وضمه لصدره بحب شديد..

"كريم".. "معايا فين يا ابني، ومال صوتك اتغير مره واحده كده؟!"..

أخذ "ياسين"نفس عميق، وبأسف تحدث قائلاً..
"الكلام مش هينفع في التليفون، انا رجعت مصر ولازم أشوفك"..
"كريم" بلهفه.. "ياريت يا ياسين انت واحشني والله يا صاحبي بس انا في المستشفي ومش هعرف اجيلك فلو ممكن تجيلي انت"..

" ياسين".." ابعتلي ابليكشن بالعنوان وانا هجيلك يا حبيبي"..

"كريم" بفرحه غامرة.. "هستناك انهارده،وابقي هات الواد ياسر معاك واحشني هو كمان"..
ربت "ياسين" علي كتف" ياسر"وبتاكيد قال..
" هجيبه معايا طبعاً"..

أنهى جملته، وأغلق هاتفه ونظر لشقيقه وتحدث بهدوء قائلاً..
" ياسر عايزك تهدي وتحكيلي كل حاجه"..
سحبه خلفه متجه نحو اقرب اريكه ودفعه برفق ليجلس عليها مكملاً بنبره حانيه..
" مالك يا حبيب أخوك، واخت هدير مراتك اسمها هنا تقريباً مش كده؟"..

اومئ له "ياسر"بالايجاب فتابع "ياسين" متسائلاً..
"ايه اللي جرالها؟"..

مسح "ياسر" على وجهه بتوتر وهو يطرد زفرة نزقة من صدره، ثم قال بصوتٍ يملئه الندم..
"انا غلطت في حقك وفي حق نفسي يا ياسين، وهعترفلك بغلطي دا بس خلينا الأول نساعد البنت اللي تعبانه اوي دي، وبعدين هحكيلك كل حاجه"..

قال "ياسين" مستفسراً.. "طيب فهمني مالها هنا بالظبط؟"..
أطبق "ياسر" جفنيه بعنف كمحاوله منه لكبت عبراته، وبأسف قال..
"حالها اتبدل بعد ما حققت حلمها، ودخلت كلية الطب، واتخطبت لدكتور وكانت هتتجوز قريب وتكمل كليتها في بيت جوزها فجأه تعبت، وتعبها زاد اوي في فتره قصيره لحد ما اكتشفو ان عندها ورم في الأمعاء ولازم تعمل استئصال لجزء من الأمعاء هتتحلل ويعرفوا المرض خبيث، ولا حميد وعلي اساسه هيتحدد علاجها"..

صمت ليلتقط أنفاسه قليلًا، وبتنهيده تابع..
خطبها طلع ندل وسبها علشان مش قادر يشوفها مريضه ولا هيقبل بشكلها لو خدت كيماوي، والعمليه طلعت تكالفها عاليه، وحالتها متسمحش تستني دور في معهد الأورام فحماتي قالت هتبيع شقتهم علشان تعالجها"..

ترقرقت عينيه بالعبرات، اكمل بذهول وصوت اختنق بالبكاء..
" معقول في لحظه الحال يتبدل بالشكل دا، ويجي شويه تعب تضيع كل حاجه في غمضة عين؟!"..

ربت" ياسين"علي ركبته وتنهد بقوة مغمغمًا بخفوتٍ..
" علشان كده لازم دايماً نقول الدعاء دا يا ياسر.. اللهم إنا نعوذ بك من فواجع الأقدار، وغصة القلب، وضيق الحياة، ونعوذ بك من كل مرض ووجع وكدر، ومن سوء الحياة وشرها، ونعوذ بك من كل حزن يحتل قلبنا وعيوننا"..

أنتهي الفصل..
واستغفرو لعلها ساعة استجابة..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي