الفصل الخامس

"كريم"..
يجلس وحيداً بغرفته بوجه يكسوه الحزن، يشعل سيجاره تلو الأخرى رغم انه لم يدخن من قبل..

فما فعلته به زوجته كانت بمثابة صفعه داميه بل اكثر، هي طعنته بسكين بارد وتركته بمحنته غير عابئة له وما يعانيه من ألم وحسره علي ما وصل إليه بعدما كان من أشهر الغواصين المحترفين..

فأصعب أنواع الخذلان حين يأتي من أناسًا كنا نظنهم أقرب الناس إلينا، ما يمر به الآن جعله يدرك انه أمام خيارين لا تالت لهما..

إما ان يستسلم لحزنه وتزداد حالته سوء،أو يستجمع قوته ويواجه ازمته ويعود أفضل مما سبق..

صوت طرقات علي باب غرفته انتشالته من حيرته.. رسم ابتسامة علي محياه يخفي بها حزنه، وتحدث قائلاً..
"ادخلي يا ماما"..

فتح الباب وخطت منه سيده يظهر عليها الوقار والهيبه بثيابها المحتشمة ووجهها البشوش اقتربت منه ومسدت علي شعره الحريري بحنو قائله..
"قاعد لوحدك ليه يا حبيبي"..
تنقلت بنظرها بينه وبين السجائر التي أمامه وتابعت بعتاب..
"ومن أمتي وانت بتشرب سجاير يا كريم؟!"..

نظر لها "كريم" قليلاً، ليطبق جفنيه بعنف حين رأي عينيها الظاهر عليهما أثار بكاء حاد، وحزنها التي تحاول اخفائه عنه، فهو وحيدها لم تنجب غيره وقلبها ينزف من شدة ألمها عليه وهي تراه بتلك الحاله..

أبتسم لها ابتسامة مطمئنه ومال علي يدها دون كعادته وقبلها مرات ومرات وهو يقول..
"انا موافق ادخل المستشفي واعمل العمليه وبمشيئة الله هتعالج وهخف وابقي احسن من الأول يا احلي عبير في الدنيا"..

نظر لها يستجديها بعينيه وتابع بتوسل..
"ادعيلي من قلبك ان ربنا يشفيني يا أمي"..

"دايماً قلبي بيدعيلك يا حبيبي في كل آذان وكل صلاه بدعيلك يا ابني"..
هتفت بها" عبير" ببكاء وهي تضم رأسه لحضنها وتربت علي ظهره بحنان بالغ، وبلهفه وفرحة غامره رغم عبراتها التي تهبط بغزاره علي وجنتيها تابعت..
"يعني اكلم المستشفي وابلغهم يجهزولك أوضه"..

أخذ" كريم"نفس عميق، وبعزيمه وأصرار تحدث قائلاً..
" كلميهم انا عايز اخف وأرجع احسن من الاول في أسرع وقت"..
...........................................
"ياسر لو في حاجه مخبيها عليا قولي انت عليها علشان لو عرفتها من بره ساعتها زعلي منك صدقني هيزعلك"..
هتف بها" ياسين" بنره محذره بعدما رأي زعر شقيقه الواضح علي محياه من تواجده داخل الشقه..

شحبت ملامح" ياسر"اكثر وابتسم له ابتسامة زائفه وهو يقول..
"لا طبعاً مش مخبي عليك حاجة يا ياسين"..
صمت لبرهه وتابع بستغراب مصطنع..
" هي الشقه معجبتكش؟"..

" عجبتني و أوي كمان بس اللي معجبنيش اللي حصل فيها اول ما دخلتها"..
هتف بها "ياسين" وهو يقترب من إحدي الارائك ويجلس عليها مستنداً بمرفقيه علي ركبتيه وبأسف تابع..
" ياسر انا بعتلك تحويشة عمري كلها وانت حطتها في الشقه دي، واللي معايا حالياً يكفي بالعافيه اجهز أوضه فيها واعملها عياده علي ما حد يرد عليا من المستشفيات اللي قدمت فيها علي شغل"..

نظر له بتفحص وتابع برجاء..
"فلو في حاجه حصلت انا معنديش علم بيها قولي عليها لأني معنديش استعداد اخسر فلوسي اللي تعبت وشقيت بيها وارميها في شقه شكلها كده مش تمام ووراها مصيبه كبيره"..

" صلي علي الحبيب في قلبك يا دكتور، هي ايه دي اللي مش تمام، الشقه ماشاء الله تخطف القلب ربنا يباركلك فيها ويكرمك ببنت الحلال اللي تملهالك ولاد وبنات"..
هتف بها "ياسر"وهو يقترب منه ويجلس بجواره،وغمز له مكملاً..
" قولي بقي انت مرتبط ولا ظروفك ايه بالظبط؟"..

تفهم" ياسين"ان شقيقه يغير مجري الحديث فتأكدت ظنونه أن هناك ما يخفيه عنه ويخشي اخباره به ففضل عدم الضغط عليه واعطائه فرصه لعله يصارحه بنفسه..

_________


"ياسين".. " لا مش مرتبط لأني مكنتش بعمل حاجه غير اني اشتغل وادرس وبس، وانت عارف ان كلية الطب صعبه جداً فمكنش عندي وقت اهرش حتي"..

هم" ياسر"بالرد عليه ولكن صوت رنين هاتفه جعله ينتفض بفزع واوشك علي الصراخ من شدة فزعه لكنه تمالك نفسه سريعاً وضحك بصطناع وهو يقول..
"ههه دي هدير مراتي"..
ضغط زر الفتح ورد عليها بتوتر أمام أعين" ياسين"التي تطلع به بنظرات مندهشة..
" أيوه يا ام إياد"..

"انت فين يا ياسر"..
هتفت بها "هدير" بصوت غاضب..

"انا مع ياسين في شقته الجديده، وهسيبه يرتاح انهارده من السفر ونبقي نجيله سوا بكره بإذن الله"..
قالها"ياسر" بابتسامة مرتجفه وملامحه اصبحت شاحبه..

لتتسع أعين" هدير" علي أخرها وبذهول قالت..
"هيهون عليك تسيب اخوك لوحده في الشقة المسكونة دي يا ياسر "..

أسرع" ياسر"بالابتعاد عن شقيقه خوفاً من أن يصل صوت زوجته لأذنه، وهب واقفاً ونظر له وتحدث وهو يسير نحو الخارج علي عجل قائلاً..
"انا همشي واسيبك ترتاح يا ياسين"..

اشار بسبابته علي الكثير من الأكياس موضوعه علي طاولة مستديره وتابع وهو يسير لخارج الشقه بخطوات واسعه..
" انا جبتلك كل حاجه ممكن تحتاجها من أكل وشرب ولو احتاجت حاجه تانيه ابقي كلمني وانا ابعتهالك"..

حرك "ياسين" رأسه بالايجاب وبابتسامة تحدث قائلاً..
"تسلم يا ياسر تعبتك معايا"..

فور خروج "ياسر" من الشقه التقط أنفاسه المسلوبه من شدة رعبه، وأغلق الباب خلفه ورفع الهاتف علي أذنه وتحدث بغضب مكتوم بصوت خفيض..
"اقفلي يا هدير انا جاي اطلع عينك واكسر دماغك اللي مبتفهمش دي"..

"وانا مستنياك يا ياسر"..
هتفت بها" هدير"بلامبالاه ونبره جمود جديده تظهر بصوتها لأول مره جعلت الدهشه تعتلي ملامح "ياسر"..
..........................................
"ياسين"..
يجلس مكانه بثبات، يدور بعينيه بأنحاء الشقة يتأمل أدق تفاصيلها حتي توقف بنظره علي الغرفه الذي منعه "شاكر" من الاقتراب منها تأملها قليلاً..

ومن ثم وجه نظره لساعة مستديره معلقه علي إحدي الجدران يري بها الوقت وجده يقترب علي الثانية عشر ظهراً..

فتمدت علي ظهره واضعاً كلتا يده أسفل رأسه وعاد بنظره ثانياً علي تلك الغرفة، محدثاً نفسه بفضول..
"يا تري حكايتك ايه، وتطلعي ايه بالظبط يا"..

ظهرت ابتسامة علي محياه دون أرادته، وبإعجاب قال..
"سراري؟!"..

فور نطقه لأسمها انتشرت رائحة اللافندر بكثره جعلته يغمض عينيه ويستنشقها بستمتاع شديد
لحظات قليله وكان ذهب بنوم عميق من شدة إرهاقه، لتبدأ الستائر ذات الأقمشه الثقيله تنغلق بمفردها حتي اخفتي نور الشمس تماماً وحل الظلام الدامس أرجاء المكان..

وهو غارق بالنوم كالذي تم تخديره حتي انه لم يشعر بباب الغرفه الذي فتح ببطء ليظهر منه إضاءة حمراء ومن ثم اندفعت منها فتاه بأواخر عقدها الثاني دون سابق انظار ترتدي فستان أبيض كالون بشرتها الناصعه، جسدها ممشوق بمنحنيات فاتنه،وشعرها حريري أسود قاتم كسواد الليل يصل لأخر ظهرها، ويخفي نصف وجهها..

حافية القدمين خافضه رأسها، وتسير علي أطرف أناملها بخطوات مدروسه كالاعبة باليه محترفه حتي اقتربت من الاريكه النائم عليها "ياسين" وبدأت تحوم حولها مرات ومرات صادراً عن خصلات شعرها نسيم هواء طفيف ممزوج برائحة اللافندر الذي وصل لأنف ياسين جعله يستنشقه بستمتاع ويتململ قليلاً..

لتتوقف هي فجأه واقتربت منه جلست جواره علي ركبتيها ومازالت خافضه رأسها، وبصوت رقيق للغايه ومتقطع همست..
"انا سراري"..

رفعت رأسها ببطء ليظهر نص وجهها الطفولي شديد الجمال، وعينيها الواسعة ذات أهداب طويله، أنف صغير ومنمق، وشفاه مكتنزه مزينه بلون أحمر قاتم جعلها بغاية الأثارة..

تأملت وجهه الوسيم وملامحه الذكورية الظاهر عليها الصرامة بابتسامة زائفه ولكنها أظهرت غمازه وجنتيها اليسار الأكثر من رائعة، ورفعت يدها وبدأت تسير علي وجهه ترسم ملامحه دون ان تلمسه محدثه نفسها دون إصدار صوت..
"اضحك عليك، واتخدعت من أقرب الناس ليك ياتري علشان أنت تستاهل تيجي عندي هنا، وتكون في مكاني؟، ولو تستاهل ياتري اعاملك بأني وش؟!"..

أشارت علي نص وجهها..
"وش سراري الجميلة"..
بلحظه كانت تحولت ملامحها لأخرى شريرة، وبعدت شعرها عن باقي وجهها ليظهر نص وجهها المحروق حرق قوي اخفي معالم وجهها الجميلة وترك منظر مشوه يرتعد قلب كل من يراه وتابعت بصوت تحول لفحيح مكمله..
" ولا سراري المرعبة يا"..

أقتربت من أذنه بشده حتي لفحت أنفاسها الباردة بشرته وتابعت بتلذذ..
"ياسين"..

انتهي الفصل..
استغفروا لعلها ساعة استجابة..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي