الفصل الخامس

توجهت نحو شجرة الصفصاف، كان الهواء عليلاً، النسيم يداعب وجهها برقة، افترشت سجادتها المخملية تحت الشجرة، وجلست عليها.
فتحت دفترها الأزرق، كان دفتر مذكراتها، أهدته لها صديقتها المقربة قبل أن ترحل هي الأخرى إلى مدينة أخرى، اسمها عدن، كانت فاطمة تشاركها كل تفاصيل حياتها، تتحدث معها كأنها تتحدث مع نفسها، ولكن والد صديقتها كان رجلاً متعلما، أراد أن يضمن مستقبل أبنائه فقرر أن يرحل إلى المدينة، كان قراره صادماً بالنسبة لعدن، ولكنها ليس لها من الأمر شيء، أعطت فاطمة هذا الدفتر الأزرق كهدية وداع، لأن فاطمة تعشق الأزرق.
امسكت قلمها الذي أهداه لها ابن خالتها أحمد، ابتسمت ثم كتبت: مرحباً يا أمي، أعرف جيداً أنك الآن في مكان آخر ولن تسمعينني، ولكن فكرة أنني أبث لك ما في قلبي فكرة مريحة جداً، أتخيل وجهك وأنا أكتب، صورتك المشوشة في ذهني، دائما ما ألوم والدي، لماذا لم يلتقط لكِ صوراً في السابق، حقاً كما قالت سحر، نحن نعيش في العصور الوسطى، لا بأس، عزائي أنها دنيا، زائلة، ولنا لقاء في جنات الخلد بإذن الله، لم أنسك من دعائي في يوم يا أمي، ولدي حلم كبير، سوف أدرس الطب، وأعالج الفقراء مجاناً كصدقة لكِ يا حبيبتي..
دمعت عيناها، مسحت دموعها بأكمام قميصها ثم تابعت: أتعرفين، هذا القلم الذي أكتب به هدية من أحمد، ابن أختك، يقول أبي إنه يشبهك جداً، عيناه مثل عيناك، أحياناً أجد نفسي انظر إلى عينيه كالبلهاء، أبحث عنك فيهما، هل تظنين أنه قد أساء فهمي؟ صدقيني لم أقصد شيء!
يقول والدي بأنه شاباً طيباً، حنوناً، ألتحق بالجامعة وتخرج، وسعيدة هي من تتزوج به، أجد والدي دائما يمدحه أمامي، وفي مرة سمعته يتحدث معه، سمعت جملة واحدة: "ستكون من نصيبك يا ابني بإذن الله، أصبر قليلاً" ارتبكا عندما دخلت إليهما، هل تظنين أنني المقصودة! لا يا أمي، لا أريد ذلك، ترعبني فكرة الزواج، سمعت عمتي تقول لجارتنا، أن كل من في عمري قد تزوجن، وأصبحن بأبنائهن، شعرت بالرعب حينها، لا أستطيع التعامل مع الرجال، والدي هو كل الرجال في نظري، لن أجد زوجاً مثل والدي أبداً..
لكن عندما وصلت إلى هنا كان الأمر مختلف! يوجد كثير من الفتيات بعمري وأكبر مني بسنوات، ولكنهن ما زلن غير متزوجات، لماذا تتزوج الفتيات في قريتنا مبكراً؟!
دعك من هذا يا أمي، دعيني أحكي لك عن المدرسة، وعن سحر والبقية، تلك الفتاة القوية! لم أصدق بأنها ستصبح الأقرب إلي، وأنني سأحكي لها عنك، ولكنه حدث!
الحياة غريبة يا أمي، بين ليلة وضحاها تنقلب رأساً على عقب، أين كنت وأين صرت!
كنت في هذا الوقت، أجلس بالقرب من جدتي، في فناء منزلنا الواسع، الهواء النقي، الهدوء، ورائحة البن تداعب أنفي، استمع إلى حكاياتها عن زمنهم الجميل الذي يختلف عن زمننا كما تقول، وعن مغامراتها في صغرها، أما الآن، فأنا أجلس تحت شجرة صفصاف كبيرة، هي جميلة جداً يا أمي، ولكنني أشتقت إليهم، وإلى أختي، يا ترى كيف حالها، هل تراجع دروسها، هل ترضى بأن تمشط لها خالتي شعرها، أما تبكي كالعادة ولا ترضى إلا عندما امشطه لها بنفسي، هل يسمع أحداً حكايتها باهتمام كما كنت استمع لها! خالتي لا تعرف بأنها تحب أن ترتدي قميصها الزهري مع بنطالها الأسود القصير!..
ينقبض قلبي كلما تذكرها يا أمي، منذ أن فارقتنا وأنا أشعر بالمسئولية تجاهها، تقمصت دورك، أصبحت أمها، والدي مشغول يقضي معظم وقته في المزرعة، وخالتي تقضي جل وقتها في المدرسة، تدرس الطلاب، كما أنها لا تفهم أختي كما أفهمها أنا، الحياة من بعدك قاسية يا أمي…
لم تستطع أن تتمالك نفسها هذه المرة، لديها كثير من المشاعر المكبوتة والتي لن تستطيع إخراجها دفعة واحدة، بكت بحرقة، وبعده فترة طويلة، مسحت دموعها، ابتسمت ثم عادت إلى غرفتها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي