الفصل الثامن

في اليوم التالي، قبل أن يرن جرس الإفطار بقليل، دخل أحد العاملين إلى الفصل، منادياً باسم فاطمة عبد الله، توجهت نحوه فقال لها بأن تذهب معه لأن هناك أحداً ينتظرها في الخارج، من ينتظرها! لا تعرف أحداً هنا!
خرجت، فانفرجت أساريرها عندما رأت والدها، ركضت نحوه كالطفلة، ضمته بقوة، كان يضحك على تصرفها الطفولي، نزلت دموعها وقالت: كم كنت أشعر بالقلق عليك
رد ضاحكاً: أعرف ذلك، لذلك أتيت إليك، لكي تري بنفسك أنني بخير
قالت: ولكن يبدو على ملامح وجهك التعب
رد: لا تقلقي، سوف أكون بخير، دعينا نجلس، وأخبريني، كيف حالك؟
روت شوقها، تحدثت معه كثيراً، قال لها بأنه سوف ينتظرها إلى أن ينتهي يومها الدراسي، ثم يذهبان معاً ليتنزها في المدينة، أراد أن يشبع من رؤيتها، لا يعرف، ربما عندما تعود لا تجده، كان ينظر إليها من حين إلى آخر بنظرة حزينة، تلك المسكينة! قد تعيش يتيمة بقية حياتها..
قضيا معاً وقتاً ممتعاً، حكى لها عن أختها وعائلتها هناك، ما حدث في غيابها من أحداث، عدا أحداث مرضه طبعاً.
قال لها موصياً: يا ابنتي، ثقي في أحمد، هو رجل شهم، وطيب القلب
لم تفهم، لماذا يقول لها ذلك، قالت بابتسامة وهي تمسك الايسكريم في يدها وتلعقه كالطفلة: أنا أثق فيك أنت فقط، لا أحتاج أن أثق في شخص آخر، أنت ملاذي في هذه الحياة، وطالما أنت بقربي، فلا أحتاج لشخص آخر
نزلت دمعة يتيمة من عينيه، فمسحها بسرعة قبل أن تلاحظ ثم قال لها: ولكن قبلي أنا، فيمن تثقين؟ لمن يجب أن تكون الثقة المطلقة
ردت: لله
قال: بالضبط! لذلك علينا أن نرضى بكل ما يكتبه الله لنا، حتى وإن كان مؤلماً أو جارحاً، وتعرفين أن أمر المؤمن كله خير إن صبر وشكر.
قالت بابتسامة: أعرف ذلك يا أبي وأؤمن به، ولكن لماذا تحدثني بهذه الطريقة؟
رد عليها بابتسامة: لأننا جميعاً لدينا مبادئ، ونظن أنها راسخة فينا، ولكن عندما يأتي وقت الاختبار الحقيقي لهذه المبادئ، اغلبنا يرسب في الاختبار، لذلك يا فتاتي، كوني حريصة، واثبتي في وقت الاختبار أن مبادئك حقيقية، وأنك راضية بكل ما يكتبه الله، وموقنة تماماً أنه الخير لك، أتعرفين! أنا لم أحب أحداً كما أحببت والدتك رحمها الله، ولكن عزائي في كل ما حدث، أن هذه الدنيا فانية، هي دار مرور، وسنلتقي جميعاً في دار الخلد، حيث لا خوف ولا حزن، نجتمع جميعنا، بإذن الله، لا تنسي يا حبيبتي أن تدعي لوالدتك، ولكل عزيز فقدتيه أو قد تفقديه فيما بعد، أتفقنا؟
أومأت برأسها علامة الموافقة دون أن تنطق بكلمة، قضيا الوقت معاً، استمتعا كثيراً، ثم عادت فاطمة إلى السكن وعاد والدها إلى قريتهم..
كان اليوم جميلاً جيداً، ارتاحت فاطمة كثيراً بعد أن رأت والدها، ازداد حماسها، وتعدل مزاجها، وعادت إلى الدراسة بصدر رحب..
دخلت إلى الغرفة، فوجدت الفتيات متكومات على السرير العلوي، يراقبن منزل الجيران
قالت بحماس: هي، ماذا تفعلن؟
قالت سحر بحماس أكبر: لقد فاتك كثيراً، يبدو أن لدينا عرس
قالت فاطمة بتعجب: عرس؟!
ردت سمر: اليوم باب الجيران مفتوح على مصراعيه، أناس يدخلون وآخرون يخرجون، وعدد ضخم من الكراسي في الخارج
قالت سعاد: تعالي وانظري بنفسك
صعدت فاطمة على السرير، وصارت تراقب هي الأخرى، كان هناك شاباً يلبس نظارات طبية، يهرول بسرعة من مكان إلى آخر في فناء المنزل الواسع، يبدو أنه مسئول عن التحضيرات
قالت سعاد: انظرو إلى ذلك الشاب، لماذا يلبس بنطالاً قصيراً
قالت سمر: وملتحي أيضاً، يبدو أنه شاباً ملتزماً، ويبدو أنه وسيم أيضاً
قالت سحر بلهفة: وجسده رياضي
قالت فاطمة بحزم: اخرصن، هذا آخر التجسس على منازل الآخرين، هيا انزلن من سريري، وكل واحدة إلى سريرها
ضحكن ثم قالت سحر: كيف كان يومك مع والدك؟ وكيف صحته
ردت فاطمة بابتسامة وحماس: كان رائعاً، بل أروع ما يكون!
أخذت دفترها الأزرق ثم ذهبت إلى شجرة الصفصاف، كان الهواء عليلاً، والجو جميلاً، وكل شيء حولها رائعا
فتحت دفترها ثم كتبت " أدركت اليوم أن الجمال يبدأ من داخلنا، من نظرتنا ..في الأيام السابقة، كنت أرى كل شي سوداوي، أختنق من كل شيء، وأرى مشكلة في كل شيء، لا يعجبني شيء، ولكن اليوم! أنا سعيدة جداً، أرى كل شيء جميل، الطرقات، والسكن، والأشجار، والكون بأكمله..
استشعر جمال الهواء، والسماء الصافية، وتلك الزهور..أدركت كم هم سعداء أولئك الأشخاص الذين لا يتركون مزاجهم يتعكر لأسباب تافهة، كم هو سعيد من كان سيد مزاجه..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي