الفصل الثاني عشر

أوقف أحمد السيارة قرب الباب، اندهشت عندما رأت أعداد هائلة من الناس متجمهرون قرب باب منزلهم، يدخلون ويخرجون، صوت صراخ بالداخل، كلها أصوات تعرفها..
شعرت بالدوار، أمسكت رأسها، التفتت نحو أحمد الذي كان ينظر إليها بحزن، قالت له بكلمات بالكاد استطاعت أن تنطقها: من مات؟
دمعت عيني أحمد، قال لها: عمي عبد الله، نسأل الله له المغفرة، البقاء لله..أصبري يا فاطمة، والدك قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة قال: أخبرو ابنتي فاطمة بأن تظل قوية كما هي، لا تنكسر ولا تشعر بالانهزام، وأخبروها بأن تكون لأختها الصغرى كأمها كما اعتادت، هي في حاجتها أكثر من أي وقتٍ آخر..
في تلك اللحظة لم تشعر فاطمة بما حولها، كانت الصدمة أكبر من كل توقعاتها، دخلت في حالة من اللا وعي
ترجلت من السيارة، توجهت نحو باب المنزل ببطء، تنظر أمامها ولا ترى شيئاً، عندما دخلت إلى المنزل ازداد الصراخ والعويل، ضمتها جدتها وهي تصرخ ولكنها لم تبدي أي رد فعل، وكذلك خالاتها وعماتها، جعلتها خالتها تجلس على السرير، جلست وبدأن النساء يأتين إليها واحدة تلو الأخرى، يربتن على رأسها ويبكين ثم يذهبن
قالت لها جدتها: ابكي يا ابنتي، ابكي
لم ترد، ظلت صامتة، قالت عمتها: تأخرتي يا ابنتي، حملو الجنازة قبل قليل للدفن، كنا نريدك أن ترينه للمرة الأخيرة
كانت تسمع صدى صوت كلمات عمتها يتردد على أذنها، سدت اذنيها بكلتا يديها وهي ترتجف، نظرت بعيداً، فلمحت أختها جالسة في ركن بعيد عن الناس، تبكي بصورة هستيرية
قامت من محلها، كادت أن تسقط ولكنها تمالكت نفسها، توجهت نحو أختها، ضمتها إليها فازداد بكائها، امسكتها من يدها، جلست على الأرض وضمتها إليها، ومع ذلك لم تنزل أي دمعة من عينيها..
كانت بعد كل فترة تسمع صوت صراخ جديد، يعني إن إحدى قريباتهم قد وصلت للتوه..
قالت خالتها لجدتها بصوت متقطع من البكاء: لا يعجبني وضعها، عليها أن تبكي، ما زالت مصدومة، المسكينة!
توجهت نحوها، حاولت أن تجعلها تبكي، قالت لها وهي تبكي وتولول: اه يا فاطمة، لقد ذهب أبوك وتركنا، أصبحت يتيمة يا فاطمة، وأنا أصبحت أرملة، ذهب أبوك الرجل الطيب الحنون، لم تستطيعي رؤيته حتى، ولا لمرة أخيرة، اه يا مسكينة..
كانت كلمات خالتها تتردد عليها، عقلها لم يستوعبها، فسقطت على الأرض مغشياً عليها..
استيقظت بعد يوماً كاملاً، لم تدخل أي طعام إلى فمها، ظلت هكذا لثلاث أيام، تعيش على المحاليل الوريدية، حاول الجميع جعلها تأكل شيئا ولكنها لم تتجاوب مع أحد
عندما سمع عمها جعفر بذلك، دخل إليها غاضباً، صفعها صفعة قوية على خدها، قال: ذلك لكي تفيقي من صدمتك، هل تريدين أن تلحقيه؟ الموت حق، وكلنا سوف نموت، والآن كلي هذا الطعام
ولكنها لم تتجاوب ولم تقل شيء، لم تتحدث منذ أن جاءت،
بعد قليل دخلت إليها أختها سارة، نظرت إليها بحزن، رفعت عينيها نحوها فرأتها، تذكرت كلمات أحمد، عندما قال لها بأن والدها وصاها على أختها، نادتها بصوت أقرب إلى الهمس فركضت سارة نحوها وهي تبكي، قالت فاطمة: لا تبكي يا حبيبتي، أنا هنا، هل أكلتِ؟
هزت رأسها نافية، فقالت لها: هيا إذن لنأكل معاً
أخذت قطعة خبز، وتناولتها..
في تلك اللحظة تنهد الجميع بقوة، جدتها وخالاتها وصديقاتها..
مر أسبوع على وفاة والدها، لم تنزل دمعة من عينيها، أصبحت تتحدث قليلاً، تنظر حولها ببلاهة، تظل معظم الوقت شاردة، وتتناول قليل من الطعام الذي يجعلها تحافظ على حياتها فقط، لا تنام الليل، أصبحت الهالات السوداء تحيط بعينيها كدب الباندا..
بعد مرور عشرة أيام، حضرن سحر سمر وسعاد، لم يتمالكن أنفسهن عندما رأين حالتها، حاولن أن يصبرنها ويجعلنها تبكي ولكن لا حياة لمن تنادي..
قالت لهن: لماذا أتعبتن أنفسكن، كيف وصلتن إلى هنا؟
قالت سحر بحزن: لم نكن نعرف، كان هاتفك مغلقاً، وبالأمس فقط استطعنا أن نصل إليك، تحدثنا مع خالتك وأخبرتنا بما حدث، أسأل الله أن يقويك ويصبرك يا فاطمة
قالت: آمين
قالت سمر التي لم تتوقف دموعها منذ أن رأت حالة فاطمة: لماذا لم تبكي يا فاطمة، لا تكبتين في داخلك، هذا ليس جيد
ردت بصوت متقطع: أنا بخير
---------
مر شهر كامل على وفاة والدها وحالتها كما هي، لا تستطيع النوم، وعندما تنام قليلا، تستيقظ فزعة بسبب كابوس تراه كثيراً، تسرح قليلاً، تتذكر حديث عمها، الذي لم تفهمه في ذلك اليوم، عندما قال لأبيها لن يتدخل أحد في ابنتك ما دمت حياً، كانت الأحداث أكبر من أن تستوعبها، والدها مصاب بالسرطان منذ وقتٍ طويل ولم يخبرها؟! واستسلم للمرض بهذه السهولة! أخبرتها خالتها بأنه قد أخبروه بأن المرض في مراحله الأخيرة، لذلك رفض أن يتعالج بالكيماوي، فهو في تلك المرحلة مجرد مخدر فقط…
مرت ثلاث أشهر، كانت حالة فاطمة تزداد سوءاً، تتناول العلقة من الطعام، أصبح جسدها هزيلاً جداً، وجهها شاحب، لا تتحدث كثيراً إلا مع أختها، تقضي معها معظم الوقت، تراجع معها دروسها، تمشط لها شعرها، تأنس بها...
في يوم كانت جالسة مع جدتها وخالتها، دخل إليها عمها جعفر، قال لها:أريد أن أتحدث معك في أمر مهم
زادت دقات قلبها وعرفت بأن هناك مصيبة سوف تحدث
قالت له: تفضل يا عمي
تنحنح ثم قال لها: بدون مقدمات، هناك من تقدم لخطبتك يا ابنتي فاطمة، كفاك حزناً، حان الوقت لتعيشي حياتك
قالت: ولكنني لا أريد أن أتزوج الآن
قال لها بانفعال: ومتى تريدين الزواج يا فتاة، الفتيات اللاتي في عمرك بابنائهن
قالت: أريد أن أدرس، تبقى أسبوع واحد على ظهور النتيجة
قال لها ساخراً: أي دراسة وأي نتيجة! أنا لست والدك، ولى زمن عبد الله، والآن كلمتي هي التي سوف تكون مسموعة هنا، لا دراسة بعد الآن، أزيحي الفكرة من بالك، سوف تتزوجين، نحن لا نستشير فتاة في أمور الزواج، ولكن تقديراً لحالتك جئت وأخبرتك، الرجل ميسور الحال، وسوف تعيشين معه في عز وجاه، عموماً سوف يأتي الرجل مساءاً ليراك..
ثم خرج من الغرفة
كانت فاطمة صامتة، ترتجف، شعرت بأنها وحيدة في هذا المكان، لا أحد يقف معها، تذكرت قول والدها: الله يا فاطمة، الله حين لا يوجد أحد..
صلت صلاة الظهر، دعت في صلاتها بأن يكتب لها الله ما فيه خيراً لها، كانت تشعر باليأس، حتى شغفها للدراسة بدأ بالتلاشي، أصبحت حطام إنسان، يتنفس فقط ولكنه لا يتذوق طعم الحياة، أصبح الكون أضيق من خرم إبرة بالنسبة إليها، تشعر بالاختناق من كل شيء، فقط تشعر بالمسئولية تجاه أختها، ولا تعرف ماذا سيحدث لها! وما مصيرها هي، هل سوف تستسلم، ماذا بيدها أن تفعل، عمها الآن هو ولي أمرها، هل تستطيع مقاومته، بل من أين ستأتي بالطاقة لكي تقف في وجهه، ولماذا أساساً سوف تقف في وجهه! من أجل الدراسة التي أصبحت مستحيلة! حتى وإن أرادت أن تدرس من سيقف معها، ومن سيعولها، أصبحت كل الطرق مسدودة، وكلها نهايتها إلى القاع، هكذا كانت تفكر..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي