الفصل العاشر

مرت الأيام بسرعة كبيرة، كانت فاطمة تقضيها بروتينها الثابت والمعتاد، تتصل بوالداها عند الصباح، تبدأ يومها بورد من القرآن وأذكار الصباح، تدرس معظم اليوم، تجلس تحت شجرة الصفصاف، تتنفس هواءاً نقياً، تكتب مذكراتها، تدرس مرة أخرى وهكذا، تخرج مع صديقاتها أحياناً، ترى شهد كثيراً في طريق عودتها، أصبحت قريبة منها، تجلسان معاً، وقد أخبرتها أن أحمد حبيبها، لم تسألها فاطمة بطريقة مباشرة، ولكن حدثتها أنها قبل فترة ألتقت بحبيبها، ويدعى أحمد، فعرفت فاطمة أنه هو ..
كانت ترى عبد الرحمن أيضاً، تصادفه أحياناً في طريق عودتها إلى السكن، تنظر إليه بقرف، أما هو فلا ينظر ولا يعرها أي اهتمام من الأساس…
مرت الأيام، واقترب موعد الامتحان التجريبي، الذي يكون قبل إمتحان الشهادة بشهر واحد فقط، كانت الجميع متوتر، إلا فاطمة، كانت ثابتة، لأنها درست بجد، وفعلت كل ما تستطيع فعله، وفوضت أمرها إلى الله، بيده الأمر..
كانت تقضي معظم وقتها في المدرسة، بعد انتهاء الدوام، تظل في المدرسة، تدرس حتى قبل المغرب بقليل، ثم تعود إلى السكن..
في يوم من الأيام، وهي في طريق عودتها، كان الطريق خاليا من المارة على غير المعتاد، رن هاتفها، فأخرجته من حقيبة الظهر التي ترتديها، كانت المتصلة هي سحر، ردت عليها، فأخبرتها بأن تحضر معها خبزاً من المخبز القريب من السكن، فهي تشعر بالكسل ولا تريد الخروج
انهت المكالمة، وقبل أن تزيح الهاتف من على أذنها، ظهر لها شابا فجاة من حيث لا تدري، أخذ الهاتف من يدها بغتة، وركض، لم تستوعب ما حدث في البداية، ولكنها بعد برهه من الوقت بدأت بالصراخ، رأت شاباً ظهر أيضاً فجاة يركض خلف اللص، لم تتعرف على ملامحه في البداية، ولكنه استطاع أن يأخذ الهاتف من اللص، كان يتوجه نحوها وهو يلهث، رأت ملامحه، كان عبد الرحمن!
وصل إليها، مد لها الهاتف، فأخذته وقالت له بارتباك: شكراً لك
رد: لماذا أنت وحدك في هذا الوقت؟ نصيحة لا تستخدمي الهاتف أثناء سيرك في الطريق العام، اللصوص في كل مكان، خذي حذرك
أومأت برأسها، كانت خائقة ومرتبكة
قال: هل تسكنين هنا؟
ردت: نعم في السكن، قريب من هنا، سوف أذهب، شكراً لك
ثم مشت بسرعة، كان هو يمشي خلفها، حتى وصلت إلى السكن، ألتفتت فوجدته ما زال خلفها، ولكنه لم يتلفت إليها، واصل طريقه إلى منزله
قالت في نفسها: غريب هذا الرجل ومتناقض جداَ
رفعت كتفيها بلا مبالاة ثم توجهت نحو الغرفة
سألتها سحر عن الخبز، فردت عليها غاضبة: أنت السبب، لولا اتصالك لما حصل ذلك الموقف وساعدني ذلك الرجل..
قالت سحر: أي موقف وأي رجل؟ أنا جائعة أين الخبز؟
تاففت فاطمة، حكت لها ما حدث معها، فقالت سحر: هذا يعني أنك لم تحضري الخبز، اه، أنا جائعة جداً
ردت فاطمة بضيق: هل هذا كل ما يهمك، كرشك؟
قالت سحر: نعم، الحمد لله لم يصبك أي مكروه، ولكن معدتي بدأت تهضم ذاتها من شدة الجوع
ردت فاطمة: لأنك كسولة، بل ملكة الكسل، المخبز ليس ببعيد من هنا، كان عليك الذهاب بنفسك
أخرجت سحر لسانها، واعادت جملة فاطمة بنبرة مضحكة،
ضحكت فاطمة وذهبت لتبدل ملابسها، صلت صلاة المغرب، ثم بدأت تدرس مرة أخرى..
كان الجو ساخناً، فتحت النافذة فلمحت عبد الرحمن يصلي في فناء منزلهم، أغلقت النافذة يضيق، لحسن الحظ أنه لا يستطيع رؤيتها، لأن النافذة من الزجاج الذي يجعل الرؤية واضحة من جانب واحد..
--------
في اليوم التالي، أثناء سيرها في الطريق، اقتربت منها طفلة صغيرة، من أطفال الشوارع، الذين لا يملكون منازلاً، تشبثت بحقيبتها، وقالت لها أنها تريد مساعدة، كانت صغير الحجم، تلبس حجاباً طويلاً، منظرها جميل ومضحك
ضحكت فاطمة، جلست على الأرض وقالت لها: ما اسمك يا حلوة
ردت بصوت طفولي: اسمي فاطمة
قالت فاطمة بدهشة: لدينا نفس الاسم يا فطوم
أخرجت مالاً من حقيبتها وأعطته لها، كانت الفتاة تأرجح جسدها وتضحك بصوت طفولي، تحدثت معها فاطمة ولم تشعر بالوقت، حتى سمعت صوت من ورآها قائلاً: فاطمة
ألتفتتا في آن واحد، كان صوت عبد الرحمن، أتجهت الطفلة نحوه فحملها ورفعها إلى أعلى
قال لها ضاحكاً: فاطمة الشقية
زمت شفتيها ثم قالت: انتظرناك بالأمس، ولم تأتي
رد عليها بحزن مصطنع: حضر أمر طارئ، ولكن سأعوضكم جميعا، عندي لكم مفاجأة رائعة
ضحكت وصفقت بيديها قائلة: أحب المفاجآت
كانت فاطمة تتابع المشهد وعلى وجهها ابتسامة بلهاء
اشارت الطفلة نحوها وقالت له: انظر لهذه، اسمها فاطمة مثلي، هل عندما أكبر سوف أصبح جميلة مثلها؟
انتبه عبد الرحمن لوجود فاطمة، نظر نحوها ثم قال للطفلة: أنت أساساً جميلة، لا تحتاجين لذلك
ضحكت الطفلة وقالت بمرح: شكراً، شكراً
تنحنحت فاطمة ثم قالت: أنا أستأذن
أومأ عبد الرحمن برأسه، ثم تابع حديثه مع الطفلة وتوجهت فاطمة نحو مدرستها
قالت في نفسها: لو لم يكن خائنا لكان شخصاً رائعاً، يراعي لأطفال الشوارع ولكنه لا يراعي لمشاعر أخيه، أين الرجولة، شخص غريب الأطوار
وجدت أن الحصة الأولى قد بدأت، طرقت الباب، فسمح لها المدرس بالدخول بعد أن أعطاها محاضرة طويلة عن احترام الوقت..
كانت كل الحصص عبارة عن مراجعة، لأن كل المواد قد انتهت، وتبقى للامتحان التجريبي ثلاث أيام فقط..
اختفى الشغب في المدرسة، كل التجمعات كانت عن عبارة عن مجموعات يدرسون ويشرحون لبعضهم البعض، تنظر في كل مكان تجد طالبة تمسك كتاباً وتدرس، حتى وقت الافطار، تجد الواحدة تأكل الطعام بيد، وعينيها على الكتاب الذي تحمله بيدها الأخرى..
اثبتت فاطمة أنها متوفقة في الامتحانات الشهرية، كانت درجاتها عالية جداً، لذلك كل دقيقتين تأتيها فتاة تحمل كتاباً وتسألها عن شيء ما..
مرت الثلاث أيام، وبدأت الإمتحانات، أخذت أسبوعان، وانتهت بحلوها ومرها، كانت فاطمة سعيدة لأنها ابلت بلاءاً حسناً..
سافرت إلى قريتها لتقضي يومين ثم تعود لتدرس للإمتحان النهائي، والذي سوف يحدد مصيرها
لم تتمالك دموعها عندما وصلت، كانت سعيدة برؤية والدها وأختها، جدتها وخالتها، وكل العائلة
ظلت تضحك معهم وتحكي لهم عن المدينة والسكن وما مرت به
في ذلك الاثناء دخل عمها، كان رجلاً ضخماً، لديه شارب طويل وغليظ، وكرش كبير، اسمه جعفر، وقفت فاطمة لكي تسلم عليه، فسلم عليها ببروده المعتاد، سألها باقتضاب عن دراستها، ثم جلس بالقرب من عبد الله وقال له: وافقنا أن تدرس ابنتك في مدرسة خاصة رغم أنه لم يحدث مثل ذلك في عائلتنا من قبل، كل النساء يدرسن حتى الصف الثامن ثم يتزوجن ويذهبن إلى بيوتهن، ناهيك عن أن يخرجن من القرية لوحدهن، ولكن لأن ابنتك كانت متوفقة، وبسببها والي الولاية شرفنا في المنزل، سمحنا لها بأن تدرس المرحلة الثانوية، والآن أقولها لك يا عبد الله، لديها فرصة واحدة يا عبد الله، إن أحرزت معدل يدخلها كلية الطب، فأهلا وسهلا، إن لم تحرز ذلك المعدل فسوف نزوجها إلى أقرب رجل يطلبها، ليس لدينا ما يسمى إعادة وهذه الحركات والكلام الفارغ، ولن تدخل أي كلية أخرى غير كلية الطب، لتكن على علم من الآن، فقد خالفت رأي كثيراً يا عبد الله، أنت أكثر من تمرد علي وعلى قراراتي، رغم أنني أخوك الأكبر
رد عبد الله بانفعال: لماذا هذا الحديث الآن، لو كانت قراراتك صائبة لما تمردت عليها، و أنا واثق من ابنتي، سوف تدخل أفضل كلية طب، ثم لماذا هذا الحديث الآن! فاطمة ابنتي، تتزوج أم لا فهذه مسئوليتي، أنا ولي أمرها، وما دمت حياً، فلن أسمح لأحد بأن يجبرها على شيء، سوف تدرس وتتخرج، وتعمل وتحتار زوجها بنفسها
قال جعفر بسخرية: ما دمت حياً لن نجبرها، لا تقلق
فهم الجميع ما يرمي إليه عدا فاطمة
هنا صرخت والدته في وجهه قائلة: جعفر! لقد تجاوزت كل الحدود، أليس لديك عقل! هل حقاً أنت ابني البكر!
تأفف ولم يعر كلامها أي اهتمام
التفت نحو فاطمة التي امتلأت عيناها بالدموع وقال لها آمراً: اذهبي وحضري لي شاياً، أم أن المدرسة الخاصة جعلتك تنسين كيف يحضر الشاي؟
لم ترد على كلامه، توجهت نحو المطبخ في صمت، وهناك أطلقت العنان لدموعها..
كانت صحة عبد الله متدهورة جداً، لاحظت فاطمة لذلك ولكنه قال لها بأنه كان مريضاً قبل أن تأتي لذلك يبدو عليه التعب، ولم يخبرها لكي لا تقلق وتركز على دراستها..
قال عبد الله في نفسه: تبقى شهراً واحداً وتنتهي فاطمة، بعدها سوف أخطبها لأحمد، إن أسترد الله أمانته، فلا أدري ماذا سيفعلون بها هذه المسكينة، علي أن أوفر لها الأمان قبل أن أرحل، أحمد رجل، ومعه ستكون في أمان، ولن تحتاج لشخص، سوف يكون سنداً تتكي عليه هذه المسكينة، ألا يكفيها أنها فقدت أمها وقد تفقد أبيها في أي لحظة! هل تحجرت قلوب البشر! فكيف إذا كان هؤلاء البشر من لحمها ودمها، حسبي الله ونعم الوكيل، اللهم أجرها في مصيبتها، اللهم إني أستودعتك ابنتي، هي في حفظك، أنت حسبها وأنت وكيلها، فاللهم أحفظها يا حفيظ، أنت أرحم بها من أي مخلوق..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي