الفصل السادس

دخلت إلى الغرفة، فوجدت كل الفتيات متكدسات على السرير العلوي، ينظرن بأعين متسعة من خلال النافذة
رأتها سعاد فقالت بدهشة: تعالي يا فاطمة، لقد فتح الباب أخيراً
قالت فاطمة متسائلة: أي باب؟
ردت سمر ضاحكة: باب الجيران
قالت سحر بدهشة: يبدو أن منزلهم رائع!
لم تستطع فاطمة منع نفسها، فصعدت على السرير لتنظر هي الأخرى
قالت سعاد بلهفة: انظرو، هناك فتاة خرجت! يبدو أنها في مثل عمرنا
قالت سمر بدهشة: انظرو إليها، تبدو أنظف من حياتي
ضحكن جميعاً على جملتها ثم قالت فاطمة: هذا الذي نفعله لا يجوز، نحن نتجسس على الناس،
قالت سحر مواقفة: هيا كل واحدة إلى سريرها
-----
في اليوم التالي خرجتا فاطمة وسمر مبكراً، قالت سمر لفاطمة بمكر: ما رأيك أن نشتري طعاماً من الخارج، قبل أن نصل إلى المدرسة؟
قالت فاطمة بسرعة: لا، ماذا لو رآنا أحد، تعرفين القوانين، ممنوع شراء طعام من الطريق
قالت سمر متوسلة: رجاء لا ترفضي، أنا جائعة جداً، ولا أستطيع الإنتظار حتى وقت الإفطار، ولا تنسي ذلك الازدحام في كافتريا المدرسة، هيا بنا..
انصاعت فاطمة لإلحاحها، كانت تلتفت بريبة، اتجهتا نحو بائع في الطريق، وطلبتا منه طعام
أثناء انتظارهما لتأخذان الطعام، سمعتا صوت خشن وحاد من ورائهما قائلا بصوت عالي: أنتن! ما الذي تفعلنه؟
التفتتا في نفس اللحظة، كان الاستاذ حسام، قالت فاطمة برعب: يا لسوء الحظ!
كانت سمر ترتجف، فالاستاذ حسام معروف بشدته، وسوء معاملته، هو أستاذ مادة الكيمياء، للصف الثالث الثانوي، رجل بدين، قصير، أصلع، ولديه كرش كبير..
قالت بصوت عالي: هيا تحركن أمامي، سأجعل يومكن أسود، هل تدرسان في حظيرة؟ هذا الزي لمدرسة مرموقة، لديها قوانينها
كان اللعاب يتطاير من فمه، والشرر يتطاير من عينيه، صوته مخيف
تحركتا أمامه، وهو ما زال يصرخ ويشتم، تركهما تقفان قرب بوابة المدرسة، كل من يدخل ينظر إليهما بشفقة، ويعرف أنهما أرتكبتا جرم كبير، قال لهما بصوته العالي وهو يشير بسبابته متوعداً: ستقفان هنا إلى أن تأتي المديرة
كانت سمر تبكي بشدة، لم تتوقف دموعها للحظة، وفاطمة واقفة بقربها مرعوبة، تواسيها حيناً، وتصمت حيناً آخر
دخل الجميع إلى الفصول، وبقيتا فاطمة وسمر في مكانهما، كانت الحصة الأولى مع أستاذ اللغة الإنجليزية، ولحسن حظهما كان قد وصل للتوه، كان رجلاً لطيفاً، مر بهما، رأى سمر تبكي، فسألهما ما الخطب؟ أخبرته فاطمة بما حدث، فقال لهما: في أي فصل أنتن؟ ردت فاطمة: في الفصل "د"
قال ضاحكاً: لا أحب أن يفوت طلابي أي درس لي، هيا اذهبن إلى الفصل، وأنا سأتحدث مع المديرة بخصوصكما
لم تصدقا ما سمعتاه، ركضتا بسرعة نحو الفصل، كان الجميع ينظر إليهن، قالت طيف لفاطمة عندما مرت بقربها وهي تضحك: ألم تفصلي بعد؟ يا مخالفة القوانين
لم تكن فاطمة بمزاج جيد لترد عليها، لم تعرها أي اهتمام، توجهت نحو مقعدها في صمت
سألتها سحر عما حدث، فحكت لها ما حدث، جلست سمر بقربهما وما زالت ترتجف
انفجرت سحر ضاحكة، فحدجتها سمر بنظرة معاتبة، قالت لها: هل تشمتين فينا؟
ردت سحر وهي تكتم ضحكتها: لا أبداً، العفو، ولكن من يقدم على فعل شيء، ينبغي عليه تحمل عواقبه، انظري إلى وجهك
قالت فاطمة بانفعال: وما هذا الأمر الخطير الذي فعلناه! وماذا سيحدث لسمعة المدرسة إن أشترينا طعاماً من الطريق!
قالت سحر: لا أدري! هذا قانون، لا ينبغي تخطيه بغض النظر خطورته
قالت سمر: هل تظنان بأن الأستاذ سوف يتذكرنا عندما يأتي للدرس؟
قالت سحر: لا أعتقد ذلك، هناك مئات الطالبات اللاتي يصرخ في وجههن خلال اليوم الواحد
قالت فاطمة بانفعال: لا أريد رؤية وجهه مرة أخرى
ردت سمر: ولا أنا
دخل الأستاذ، ألقى التحية وبدأ الدرس..
---------
كانت فاطمة تدون ملاحظات مع الأستاذ، تكتب كل شيء تحسه مهماً، تكتب أدق التفاصيل، بعد أن خرج الأستاذ خرجت خلفه، سألته عدة أسئلة، فأجابها بابتسامة: ممتاز! يبدو أنك كنتِ متيقظة، هذه الأسئلة عميقة جداً، ولأبشرك، كل من سألني مثل هذه الأسئلة، كنت أراه في قائمة المتفوقين نهاية العام، موفقة يا..
ردت بابتسامة: فاطمة
قال: بالتوفيق يا فاطمة، أتمنى أن تظلي مجتهدة حتى نهاية العام، لنرى اسمك في قائمة المتفوقين
ردت: بإذن الله، شكراً على دعمك
كان قلبها يرقص فرحاً، كانت كلمات الأستاذ بمثابة دافع كبير لها، التحية لكل أستاذ يزرع الحماس في طلابه، يطمئنهم ويقف معهم، يرد على أسئلتهم بصدر رحب، ويشعرهم بأنه سعيد بذلك، يزرع فيهم مبادئ جميلة، ويترك فيهم أثراً طيباً، يظل الطالب يتذكره حتى بعد أن يتخرج من الجامعة، ويحكي عن أستاذه في كل مكان، بكل فخر .
ازداد شغفها، وأصبحت تركز أكثر وتدقق على كل كبيرة وصغيرة.
---------
مرت الأيام يوماً بعد يوم، كانت فاطمة مجتهدة جداً، اعتادت على أن يتصل بها والدها كل صباح قبل أن تذهب إلى المدرسة، ثم في المساء ليعرف كل تفاصيل يومها، كانت تحدثه عن كل شيء، لم يكن والدها وحسب، بل كان صديقها، تحدثه عن أستاذها الذي تحبه ويدعمها دائما، وعن صديقاتها، عن المدرسة، والمدينة، وكل شيء..
في يوم كان تمشي وهي شاردة، معها سحر كالعادة، سألتها سحر مستفهمة: ما بالك اليوم؟ ليس من عادتك الصمت
ردت: لم يتصل بي والدي هذا الصباح، ليس من عادته، منذ أن جئت إلى هنا لم يمر يوم دون أن يتصل بي، أشعر بالقلق، قلبي غير مرتاح
ربتت سحر على كتفها ثم قالت: أنت تقلقين زيادة عن اللزوم، قد يكون مشغول، أو نسى هذا اليوم، اطمئني، إذا لم يتصل بك حتى المساء، اتصلي أنت، بهذه البساطة
ردت فاطمة: أتمنى ذلك، أن يكون مشغول أو قد نسى، سوف أتصل به عندما أعود
قالت سحر: جيد! هيا ابتسمي، العبوث لا يليق بك
--------
على جانب آخر:
كانت دموعها تتساقط بغذارة، قلبها يؤلمها بشدة، على ابنها الذي يستلقي بقربها، منهك الجسد، بعد أن تم تشخيصه بسرطان الدم، وفي مرحلة متأخرة جداً، أخبره الأطباء بأنه لم يعد يملك الكثير من الوقت، هذا ما ظهر لهم
قالت زوجته مواسية: لا يا خالتي، لا تفقدي الأمل، الأقدار بيد الله، كم سمعنا قبل ذلك عن أشخاص أخبرهم الأطباء بأنهم لا يملكون كثير من الوقت، ولكنهم عاشو طويلاً، حتى أصابهم الخرف
كان عبد الله والد فاطمة صامتاً، يفكر في هذا المرض اللعين الذي باغته، سبحان الله! بين ليلة وضحاها تتبدل الأحوال، كل ما يقلقه الآن هو بناته، فاطمة وأختها سارة، إلى من سيتركهما، إلى أعمامهما الذين لم يهتمون بهما يوماً، أم خالتهما التي لا تملك من أمرها شيئا، أم والدته الكبيرة في السن، ماذا سيحدث لهما من بعده..
نزلت دمعة يتيمة على خده، حاول طيلة عمرهما أن يكون لهما الأب والأم، ولكن جاء القدر ليغير كل شيء.
تنهد ثم قال: الله أرحم بهما منك يا عبد الله، رحمته وسعت كل شيء، هذا المرض لحكمة يعلمها الله، وأنا راضي بكل ما كتبه وله الحمد.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي