الفصل الحادي عشر

لدى فاطمة ثلاث أعمام، وعمتين، جعفر هو أكبر أعمامها، وأنور وسليمان، أنور لديه نفس صفات جعفر، أما سليمان فيشبه عبد الله إلى حد كبير، ويختلفان عنهما تماماً، يشبهان والداهما في الشدة وتحجر القلب، أم عبد الله وسليمان فلديهما حنية والدتهما، "حاجة عشة" سنتعرف عليهم أكثر..
عادت فاطمة إلى المدينة، رغم سوء معاملة أعمامها، ولكن مزاجها لم يتعكر، فقد اعتادت على طباعهم..
عادت بهمه أكبر، كان لديها خيار أن تبقى في منزلها، ولكنها فضلت أن تكون في السكن فهو هادي أكثر، وسوف تذهب لدروس المراجعة في المدرسة..
قررت أن تذهب إلي المدرسة، كان لديها درس في الكيمياء قد استعصى عليها، جلست في كرسي قرب باب السكن تنتظر سمر وسحر، أما سعاد فقد قررت أن تقضي الشهر في منزلها..
كانت تتحدث مع نفسها بانزعاج غير منتبه لما يدور حولها، تحمل كتاب الكيمياء الضخم بين يديها وتقول: عندما انتهي سوف أحرقة بيدي، هذا علم غير نافع
سمعت ضحكة فألتفتت، كان علي، قال لها: ما بالك منزعجة من هذه المادة اللطيفة
ردت عليه: أتمزح! عن أي لطف تتحدث
قال لها: أمزح بالطبع، من يومي أكره الكيمياء، ولكن أخي عبد الرحمن يحبها
قالت بانفعال: لم أندهش، أخوك من الأساس غريب الأطوار وغير مفهوم يشبه الكيمياء تماماً
ضحك بشدة على جملتها، ثم قال لها: هل تعرفين أخي؟
شعرت بأنها تمادت في رد فعلها، قالت بارتباك: لا أعرفه، ولكن أظنه كذلك
قال ضاحكاً: معك حق، هو كذلك، بالمناسبة من أين أنتِ
قالت: من قرية، أو كما أسميها، واق الواق، بعيدة من هنا
قال لها: أنا أعرف غالبية القرى في هذه الولاية، أخبريني باسمها فقط
ردت: اسمها…
قال مندهشاً: حقاً! كم هذا الكون صغير، في هذه القرية يسكن صديق عبد الرحمن الأقرب إليه
ردت بدهشة: حقا! من يكون؟
قال: اسمه سليم بله، هو الآن في المملكة وزواجه بعد ثلاث أشهر، قد نزوركم في القرية
قالت: نعم أعرفه، جيد إذن
شعرت بأنها تحدثت معه أكثر من اللازم، ارادت أن تغادر ولكن فجأة ظهر عبد الرحمن
قال له علي: يا عاشق الكيمياء، هذه الصبية لديها درس لم تفهمه، وبسببه مزاجها متعكر، ما رأيك أن تصب عليها من علمك يا باش مهندس عبد الرحمن
وقفت فاطمة ثم قالت بارتباك: لا، شكراً لك، قررنا أن نراجعه معاً أنا وصديقاتي، وهن ينتظرنني الآن، بالإذن
بعد أن غادرت قال عبد الرحمن لعلي معاتباً: جعلت الفتاة ترتبك، هي لا تعرفني، لماذا توقع الناس في المتاعب
قال علي ضاحكاً: لطيفة هذه الفتاة، رغم أنها لم تتحدث معي كثيراً، وترد باقتضاب
رفع عبد الرحمن حاحبه ثم قال: لنقل هذا الكلام لرنا
قال له: لا تضخم الموضوع يا صديق، كنت أمزح، لم أقل شيء، بالمناسبة هي من نفس قرية سليم
رد عبد الرحمن: حقا! تحدثت معها لدرجة أنك عرفت أين تسكن!
قال علي: بالمناسبة أنا أكبر منك في العمر، ولكن من يسمع حديثك يظن العكس، احترمني قليلاً
رد عبد الرحمن ضاحكاً: فرق سنة واحدة، لا تحسب أساساً
قال علي: لا، ألم تسمع بمقولة "أحترم من رأى الشمس قبلك"
رد: فليحترم نفسه أولاً، ولا يتحدث مع أي فتاة يصادفها في الطريق
قال علي: حسناَ، فهمنا، ولكنني لا أتحدث مع أي فتاة، تجذبني الفتاة الجميلة، الرقيقة والخجولة
حدجه عبد الرحمن بنظرة حادة فرد ضاحكاً: نلتقي في المساء
رد عبد الرحمن: قل إن شاء الله
قال علي: إن شاء الله
-----------
مرت الأيام بسرعة البرق، وها قد جاء موعد امتحانات الشهادة، بعد يومين فقط، كان والد فاطمة يتصل بها كل يوم، ولكنه اليوم أتصل عليها من رقم غريب، كان صوته متعباً، أخبرها بأن هاتفه تعطل، ولن يستطيع الاتصال بها في الأيام القادمة، حزنت جداً، ولكنها انشغلت بالدراسة..
مرت الامتحانات، كانت فاطمة سعيدة جداً، ابلت بلاءاً حسناً، وسوف تحرز النسبة التي تريدها بإذن الله..
كان اليوم الأخير مليئا بالصراخ والدموع والفرح، أخيراً مرحلة طويلة انطوت من حياتهن وستبدأ مرحلة أخرى مختلفة تماماً..
قررن جميعاً أن يخرجن ويقضين الوقت في التنزه
خرجت فاطمة من المدرسة وهي تضحك، رأت أحمد واقفاً في الخارج، عندما رآها اتجه نحوها، قال لها بجمود: حمد لله على السلامة
كانت ملامح وجهه متغيرة، عيناه حزينتان، قال لها: اذهبي واحزمي اغراضك، سوف تذهبين معي اليوم
قالت له بدهشة: لماذا؟ لا يمكنني الذهاب اليوم، سأقضي اليوم مع صديقاتي، كما أنني لم أحزم أغراضي، أشيائي كلها مبعثرة
قال لها : سوف انتظرك، جئت إلى هنا بسيارة صديقي، الجميع ينتظرك
قالت بتعجب: وهل يوماً واحداً سيشكل فرق
قال لها بنفاذ صبر: نعم، سوف تندمين إن لم تذهبي معي اليوم، والدك ينتظرك
قالت مستفهمة: سوف أندم؟ ماذا تقصد
قال: سوف تفهمين كل شيء عندما نصل إلى هناك، هيا استعجلي
شعرت ببعض القلق، فقالت: هل جئت خصيصا من أجلي؟
رد: نعم
قالت بقلق: هل الجميع بخير، ووالدي بخير
رد: استعجلي يا فاطمة، والدك ينتظرك
لم تفهم شيء، كان كلامه مبهماً، تأففت ثم توجهت نحو السكن، جمعت أغراضها، وضعتهم بعشوائية على حقيبتها، قال في نفسها: جيد، سوف أخرج قبل أن يعدن الفتيات، فأنا أكره لحظات الوداع..
جالت ببصرها في كل أرجاء الغرفة، ابتسمت، هذه الغرفة الضيقة كان ملاذاً لضحكات كثيرة، فرح ومرح، أحزان وقلق، شغب ومواساة، جمعت أربع فتيات، يختلفن عن بعضهن، واجتمعت قلوبهن رغم الاختلاف..
نظرت إلى سريرها في الأعلى، صعدت عليه للمرة الأخيرة، فتحت النافذة فرأت عبد الرحمن جالساً في الخارج، قالت في نفسها مبتسمة: أخيراً سوف ارتاح منه، لن أراه مرة أخرى هذا غريب الأطوار، الحمد لله..
نظرت نظرة أخيرة إلى الغرفة، أغلقت الباب ثم غادرت
قبل أن تخرج من السكن، كان عليها أن تذهب أولاً إلى ملاذها في هذه المدينة، شجرة الصفصاف..
عندما وصلت إليها، لم تستطع تمالك نفسها، بكت بشدة، هذه الشجرة بكل تفاصليها، ظلها وأوراقها، كانو أصدقائها، الهواء العليل، سجادتها المخملية التي تفترشها ودفترها الأزرق الذي لا تحلو الكتابة فيه إلا تحت هذه الشجرة، كانت ملاذاً لأحزانها وأفراحها، تساؤلاتها وقلقلها، كانت ملاذها الآمن..
رنين هاتفها أخرجها من شرودها، كان المتصل أحمد، يبدو أنه مل الانتظار..
مسحت دموعها ثم قالت: وداعاً يا صديقتي، لا أعرف إن كانت هناك مرة ثانية قد نلتقي فيها، وداعا..
جرت حقيبتها وغادرت
أخذ أحمد حقيبتها وركبت في السيارة، كانت طيلة الطريق صامتة، تفكر في صديقاتها اللاتي لم تودعهن، فقط تركت لهن رسالة ورقية على السرير
تفكر في كل أيامها اللاتي قضتهن في تلك المدينة
ولكنها سعيدة في نفس الوقت، لأنها ستعود إلس والدها وعائلتها بعد غربة سنة كاملة..
لم يتفوه أحمد بكلمة، كان صامتاً أيضاً، ينظر إليها من حين إلى آخر بارتباك، كأنه يريد أن يخبرها بشيء ولكنه مرتبك..
لاحظت لارتباكه ولكنها لم تعره أي اهتمام..
كان الطريق طويلا ولكنها لم تشعر بشيء، رغم التعب والارهاق، كانت شاردة فحسب، وكلما ازدادت قرباً من قريتها شعرت بشعور غريب، لا تعرف هل هو ضيق أم خوف أم ماذا
قالت في نفسها: هذا طبيعي، الآن صفحة من حياتي قد انطوت في تلك المدينة..
ولكن عندما وصلت إلى القرية كان صدمتها أكبر من كل التوقعات
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي