الفصل السابع عشر

مرت الأيان، وقد تم تأكيد أن الغد هو يوم النتيجة، كانت جدة فاطمة تتصل بها من حين إلى آخر، اتصلت بها قبل يوم النتيجة بيوم لتطمئنها، قالت لها: نحن نثق فيك، سوف تبلين بلاء حسناً
لم يكن حماس فاطمة للأمر كما السابق، منذ أن توفى والدها وقد فقدت شغفها تجاه الدراسة..
كان تتحدث مع جدتها فسألتها: اخبريني بصراحة يا ابنتي، كيف يعاملك زوجك؟ هل يسيئ معاملتك، هل يضربك؟
قاطعت فاطمة حديثها نافية: لا يا جدتي، لم أر ألطف منه في حياتي إلا والدي
ابتسمت والدتها ثم قالت لها: هل هو موجود، أريد الحديث معه
قالت فاطمة: صدقيني يا جدتي، هو يعاملني بلطف
قالت: أصدقك، أريد أن أسأله عن حاله فقط
خرجت فاطمة من غرفتها، كان عبد الرحمن يجلس في الخارج، أعطته الهاتف، وقالت: جدتي
أخذ الهاتف وسلم عليها بحماس، سألته عن حاله ثم قالت له: هل يمكنك أن تبعد قليلاً عن فاطمة، أريد أن أخبرك بأمرٍ مهم
انصاع لجملتها، اسمتع إليها باهتمام، قالت له: يا بني، شكراً لك، أنت حقاً رجل شهم ووفيت بوعدك لي، لاحظت التغيير في صوت فاطمة، يبدو أنها مرتاحة معك..
قال لها: لا تقلقي يا أمي، فاطمة بضعة مني، سعادتها أصبحت سعادتي، وحزنها حزني، لن أجعلها تشكو لكِ مني بإذن الله
قالت: أصبحت واثقة من هذا الأمر، ولكن هناك شيء يجب أن تعرفه بخصوص فاطمة
قال: ما الأمر؟ أسمعك
قالت له: فاطمة هذه عبارة عن كومة أحزان متحركة، صحيح أنك زوجاً رائعاً، ولكن ما بداخلها لن يخرج بهذه السهولة، ألم تلاحظ لحزنها؟ ألم ترى الألم في عينيها؟ هي في الحقيقة فتاة قوية، ما تحملته لا يستطيع إنسان تحمله..
منذ أن فقدت والدتها كان والدها هو كل حياتها، كان أمها وأبوها، صديقها وحبيبها، كان سندها في هذه الحياة، وكل أملها، ومنذ أن فقدته لم تذق طعم السعادة..هل تعرف أنه عندما توفى والدها لم تبكي عليه! الجميع بكى وحزن إلا هي، ظلت جامدة، لم تنزل دمعة واحدة من عينيها، لم تبكي عليه أبداً، لا وقت وفاته ولا بعدها، كتمت الحزن في داخلها، وإلى الآن، لم تنم أيام كثيرة، كانت تستيقظ فزعة من الكوابيس التي تراها، ترتجف ولكنها لم تبكي أيضاً..
بعد ذلك عاشت أيام صعبة، تعرف عمها وقسوة قلبه، كان يعاملها بسوء، صفعها مرات عديدة، تحدث معها بقسوة شديدة، ومع ذلك لم تبكي، ترتجف فقط وتظل جامدة، حتى زواجها منك لم تكن موافقة عليه، اعترضت ولكنها لم تبكي أبداً..
البكاء هو تفريغ للحزن، ولكنها كبتت كل ذلك الحزن بداخلها، هل تدرك يا بني خطورة الأمر؟..
انقبض قلب عبد الرحمن مما سمعه، كان يعرف أن فاطمة مرت بأوقات عصيبة في حياتها، ولكن لم يتوقع أن يكون الأمر بهذا السوء، لم يتوقع أن تلك الفتاة الصغيرة تحمل في داخلها كل هذا الكم من الحزن والألم، سالت دمعة على خده، شعر بالحزن على فتاته..
قالت له جدتها: أخبرتك بذلك لأنني أصبحت أثق فيك يا بني، أنت الأمل الوحيد لفاطمة الآن، أرجوك ادعم هذه الفتاة اليتيمة، واسي وحدتها، ساعدها لكي تخرج كل ذلك الألم من داخلها يا بني، قلبي يؤلمني عليها
قال لها: أعدك بذلك، سوف أفعل كل ما أستطيع فعله لجعلها أفضل، وأنتِ لا تنسيها من دعائك يا أمي..
رأى فاطمة تنظر إليه من بعيد، أغلق الخط، تنهد بقوة وحاول أن يستعيد رباطة جأشه وملامح وجهه التي تغيرت بعد ما سمعه..
عاد إليها، حاول أن يبتسم وقال مازحاً: أحاديث جدتك مسلية، أحب الجدات، حديثهم له نكهة خاصة
قال بابتسامة: أجل، خصوصاً تلك الجلسات أثناء تحضير القهوة، مع رائحة البن التي تداعب الأنوف، والأحاديث عن زمنهم الجميل
ابتسم ثم نظر إليها مطولاً في عينيها، لاحظت لذلك فارتبكت وقالت: هل هناك شيء
انتبه لنفسه فقال نافياً: لا أبداً، ماذا سنأكل اليوم؟
قالت بمرح: طبخت شيئا سوف يعجبك
ضحك وقال: هيا إذن، أرينا مهاراتك أيتها الطبيبة
هنا تلاشت ابتسامتها، فقال لها: ماذا حدث؟
قالت: كان هذه جملة والدي، يقولها لي دائما..
قال في نفسه: هذه نقطة جيدة أنها بدأت تتحدث عن والدها..
في اليوم التالي، كان يوم النتيجة، اتصلت عدن بعبد الرحمن، كانت متوترة جداً فحاول طمأنتها بقدر الإمكان، أما فاطمة فكانت عادية جداً ، بعد أن أغلق الخط، نظر إلى فاطمة وقال لها: يا قوية، أعطينا قليلاً من ثقتك
ضحكت ثم قالت: صحيح أنني واثقة وراضية عن أدائي، ولكن الأمر ليس كذلك، الحقيقة أنني فقدت الشغف، لا يشكل فرق إن أحرزت معدلاً جيداً أم لا، أشعر بأن كل أحلامي قد تبخرت وتلاشت، الآن أنا أعيش بلا هدف وأمضي بلا وجهة، لا أعرف، أصبحت خاوية جداً
جلس عبد الرحمن بقربها، أمسك كفها بين يديه، حاولت سحبها ولكنه أمسكها بقوة، قال لها: أتعرفين ما سبب ذلك؟ السبب يا فاطمة أنك جعلت الألم يتراكم في قلبك، الألم يجعل الإنسان أعمى، لابد من أفراغه وإخراجه، هو كالسم يجعل كل شيء أسود، يجعلنا نرى الحياة بعين واحدة، أنها سوداوية، ونرى كل الطرق مسدودة، الدموع هو وسيلة تفريغ فعالة، ولكنك فضلتِ أن تحبسي ذلك الألم في داخلك، جعلته يتراكم لدرجة أنه أوشك على أن يقضي عليك، أخرجيه يا فاطمة..
بدأت ترتجف، شعر ببرودة يدها، قالت له بكلمات متقطعة: الألم الذي في داخلي كبير جداً، حتى الدموع أبت أن تخرج، هو أعظم من أن يتلاشى بدموع، أصبح صديقي وجزء لا يتجزأ من حياتي..
قال لها: أنت لم تحاولي إخراجه، جربي لمرة..
قالت: لا أستطيع
ثم سحبت يدها من يده وذهبت إلى غرفتها
--------
بعد صلاة الظهر، بدأ مؤتمر إعلان النتيجة على التلفاز، سوف يزاع المئة الأوائل ومن ثم سوف يرسلون نتائج الآخرين على هواتفهم من خلال ارسال أرقام جلوسهم إلى رقم معين..
كانت فاطمة تجلس بقرب عبد الرحمن، ساكنة وهو متوتر أكثر منها، ضحكت على منظره فقال: حيرتني معك، أنا القلق وأنت غير مبالية
قالت بثقة: كما قلت، واثقة من نفسي
قال لها: يبدو أن نسبة النجاج جيدة هذا العام
بدأ المؤتمر، كان عبد الرحمن يمسك الهاتف بين يديه، ينظر إليه من حين إلى آخر، قال لفاطمة: لن ترسل النتيجة إلا بعد انتهاء هذا المؤتمر
وصلو إلى الخمسون، كان معظم المزاعون حتى الآن أو كلهم من العاصمة، أما من الولاية التى تقع فيها مدينتهم فلم يزاع أي طالب حتى الآن
قال لها مازحاً: تخيلي أن تكونين من المئة الاوائل
قالت ضاحكة: صحيح أنني أبليت بلاء حسناً ولكن ليس إلى هذه الدرجة
كانت فاطمة تتابع المؤتمر بملل، أما عبد الرحمن فينظر إلى الهاتف من حين لآخر، ويتصل كل دقيقتين على أخته القلقة التي تترقب نتيجتها أيضاً..
وصل المذيع حتى الاسم الثمانون، وبعدها قال، الواحد والثمانون، فاطمة عبد الله أحمد علي، الولاية كذا، المدرسة كذا، النسبة أربعة وتسعون في المئة
وقفت فاطمة على طولها، فتحت فمها وقالت بدهشة: ماذا؟ من؟ لا أصدق!
نظر إليها عبد الرحمن بيلاهة، وقال لها: هل تعرفينها؟ لم تتحدث، كانت متسمرة في مكانها، وما زالت فاتحة فمها
بعد برهة من الوقت استوعب عبد الرحمن الذي سمعه، انتفض من مكانه، قال بدهشة: هذه أنتِ؟ فاطمة عبد الله، نعم، يا الله، هذه أنت
كان يتمتم بكلمات هو نفسها لا يفهمها، ثم توجهه نحو فاطمة، ومن الفرحة التي كان يشعر بها، حملها وأصبح يدور بها كالطفلة، كان يضحك بمرح، قال لها: فعلتها يا فاطمة، مبارك مبارك..
كان فاطمة مصدومة، لم تستوعب ما حدث، وفي تلك اللحظة من الطبيعي أن يبكي الإنسان من الفرح، ولكن البكاء كان قد فارقها منذ زمن بعيد
جلست علي الكرسي غير مستوعبة، استغل عبد الرحمن تلك الفرصة، ليجعلها تخرج ما بداخلها، قال لها: لو كان والدك هنا لفرح كثيراً..
في تلك اللحظة عاد إليها شريط ذكرياتها بأكمله، جملة والدها التي يقولها بمرح وثقة: أيتها الطبيبه، ثقته فيها وثقته في أنها سوف تكون متفوقة، تذكرت عندما قال لها بثقة: بعد أن تخضعين للامتحان وتحرزين نسبة عالية، سوف أذبح كبشاً ضخما، وأدعو كل أهل القرية من أجل طبيبتي الرائعة، تذكرت مرحه، عمره الذي أفناه لكي يوفر لها كل احتياجاتها، عندما يعود من المزرعة والعرق يتصبب من جبينه، فتقول له: سوف أعوضك يا ابي عن كل هذا..
تذكرت أحلامهما معاً، وعندما كان يمشط لها شعرها بنفسه، يكوي لها زيها المدرسي بنفسه، ويقول لها: دعيني أنال هذا الشرف..
تذكرت عندما كانت صغيرة، تترك سريرها في منتصف الليل وتنام بقربه فيضمها إليه وهو يضحك..
تذكرت ضحكته، كلماته العذبة، حبه العظيم لوالدتها ولها..
استوعبت أنها فقدت ملاذها وسندها في هذه الحياة، فقدته ولن تراه مرة أخرى..
في تلك اللحظة خرجت منها صرخة قوية، صرخة انقبض لها قلب عبد الرحمن، ثم بعد ذلك بدأت تبكي بحرقة، تبكي بشدة، تتساقط الدموع من عينيها كالشلال، لدرجة أنها أصبحت تتنفس بصعوبة، شعرت كأن أحداً ما يحاول إخراج روحها من جسدها
تألم عبد الرحمن من منظرها، اللحظات التي كان من المفترض أن تبكي فيها من شده السعادة، هي تبكي فيها من شدة الألم، بكى هو الآخر على الحال التي أوصلت نفسها إليه، جلس بقربها وضمها إليه، لم تبعده، كانت تحتاج إليه في هذه اللحظات، ضمها إليه بقوة أكبر، وقال لها: ابكي يا حبيبتي، أخرجي ما بداخلك
مرت دقائق، وساعة وما زالت هي على حضنه تبكي بحرقة، بكت حتى تلاشت كل قوتها، بعد ذلك ابتعدت عنه، ذهبت إلى غرفتها وأغلقت عليها الباب..
عرف عبد الرحمن بأنها تحتاج لأن تبقى وحدها قليلا، وجد مكالمات كثيرة من أهل بيته، عاد واتصل بهم، كان صوته مبحوحاً هو الآخر سأل من أخته فأخبرته بأنها أحرزت نسبة خمس وثمانون في المئة، فرح من أجلها، كان الجميع سعيد من أجل فاطمة، كانت عدن قد أخبرت عائلتها عندما سمعت أسم فاطمة بأن هذه فاطمة زوجة عبد الرحمن..
بدأت الزغاريد والفرح، قالت والدته: زوجة ابني ترفع الرأس
نظرت إليها عدن مدعية الحزن، فقالت: وابنتي أيضاً..
كان يريدون زيارتها ولكن عبد الرحمن شرح لهم الوضع، أخبرهم بأنها لم تبكي منذ أن فقدت والدها، وهي الآن متألمة جداً، وأنها تحتاج لبعض الوقت، فتفهموا ذلك..
عندما رأى عبد الرحمن أنها أمضت وقتاً طويلاً في غرفتها ذهب إليها، طرق الباب ودخل، وجدها جالسة على الأرض مسندة رأسها على السرير والدموع تتساقط كالشلال من عينيها، جلس بقربها على الأرض، أمسك يدها ولم يتحدث
قالت له بصوت مبحوح: والدي كان كل شيء بالنسبة إلي، كان هو دافعي لأن أدرس، أن أصبح طبيبة كان حلمه قبل أن يكون حلمي، كنت أتخيل رد فعله عندما أحرز نسبة تعجبه، عندما أرتدي ملابس الأطباء، فينظر إلي بنظرته تلك ويقول بصوته المرح: أحلى طبيبة في الكون!
أتعرف أكثر ما يؤلمني يا عبد الرحمن؟ أنني لم أكن أعرف بأنه مريض بالسرطان، لم يخبرني، كان يتألم لوحده، وما هو أسوأ وزاد علي وجعي أنني لم أودعه حتى، لم أراه قبل أن يدفن، عندما وصلت، أخبروني بأنني تأخرت..
وضعت يديها على وجهها، وبكت مرة أخرى بنفس الصورة الهستيرية..
عندما طالت المدة، أبعد يديها وضمها إليه مرة أخرى..كان يسمعها فقط، يريدها أن تخرج ما بداخلها كله، ثم يتحدث معها..
مر يوم ويومين وثلاث وفاطمة على نفس الحال، تبكي طوال النهار والليل، كأن والدها توفى للتوه، ترك عمله وظل جالساً معها، يستمع إليها عندما تريد التحدث، ويضمها إليه عندما يشتد بكائها، كان يغصبها على الطعام، وفي النهاية تتناول قليلاً بعد إصراره الشديد..
في اليوم الرابع، جلس بقربها، قال لها: أريد أن أسألك، لماذا جئنا إلى هذه الحياة؟
ابتسمت ثم قالت: لعبادة الله
شعرت بأنه يريد أن يواسيها، نفس أسلوب والدها في المواساة
قال: لأجل ذلك يجب أن يكون الله هو الأول في حياتنا، فهذه الحياة هي دار ابتلاء، الفقد، الحزن، السعادة، كلها أشياء غير دائمة، لذلك علينا أن نتصالح مع فكرة أن كل شيء قابل للفقد، أشخاص، مكانة، أي شيء، علينا أن نرضى بذلك، فقد يكون هذا ابتلاء من الله ليختبرنا، هل سنصبر أم سنسخط؟ هل سنرضا أم سنقول لماذا ونعترض على قضاء الله وقدره، والإيمان بالقضاء والقدر هو واحد من أركان الإيمان..
قد يكون في هذا الفقد خير لنا، ألم يخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن أمر المؤمن كله خير إن صبر وشكر!..
تخيلي يا فاطمة، أننا نريد أن لا نفقد، ولا نحزن، نريد أن نعيش سعداء دائما، كيف ستكون حياة دنيا إذا كانت هكذا! هذه الأشياء في الجنة وليس هنا، حيث لا خوف ولا حزن..يمكننا أن نعيش سعداء هنا ولكن أتعرفين كيف؟ عندما نرضا بما كتبه الله لنا، موقنين أنه الخير، وموقنين أن الله سيعوضنا في الجنة ويجمعنا بكل أحبابنا هناك، أنسنا في هذه الدنيا بالله، كلما أبتعدنا زادنا تخبطنا وتيهنا..
ابتسمت ثم قالت: كان أبي يخبرني دائما بذلك، أتعرف! معك حق، الألم يعمي الإنسان، كنت تائهة جداً من قبل..
قال لها: والآن عليك أن تعودي قوية كما أرادك والدك، لم يفت الأوان يا فاطمة، من الصدقات الجارية والتي تنفع المرء حتى بعد موته، أن يكون عنده ولد صالح يدعو له، فلا تنسي والدك من دعائك، حققي حلمك وحلمكما، أعملي لكي تلتقي بهما في الجنة إن شاء الله، ولا تنسي أن لديك أخت صغيرة، فقدت والديها في أكثر وقت هي في حوجة إليهما فيه، قد تضيع تلك الصغيرة إن لم تجد الرعاية اللازمة، لذلك هي مسئوليتك، هي أمانة والديك وما تبقى منهما، كوني قوية من أجلها، ومن أجل أن تنشأ تلك الطفلة قوية وعلى الطريق القويم..
ابتسمت ثم قالت: الحمد لله، نحن نعيش في نعمة كبيرة يا عبد الرحمن، نعمة أننا مسلمين، نعرف أن هذه الدنيا ليست دار جزاء، وليست دار عدل، نعرف بأن هناك جزاء ينتظرنا، جنات نتلقي فيها بالأحبة، والعدل هناك، يوم الحساب، حيث يحاسب كل إنسان على كل صغيرة وكبيرة فعلها، سواء كان خيراً أم شراً، كيف يتعايش غير المؤمنين مع مصائبهم! الحمد لله
ابتسم ثم قال: صحيح، نعم الله علينا لا تحصى ولا تعد، ولكننا أعتدنا عليها لدرجة الجحود، نشعر بأننا مظلومين ولا نملك شيء، ولكن لو أمسكنا نعمة واحدة فقط لأدركنا كم نحن جاحدين..
أومأت برأسهأ موافقة
قال لها: إذن بما أنك عدتِ إلى رشدك، سوف أذهب إلى العمل اليوم، لدي عمل متراكم
قالت له: حسناً، سوف أتصل بجدتي، هاتفي مغلق من يوم النتيجة، ستكون قلقة علي..
قال: أنا طمأنتها عليك، ولكن عندما تسمع صوتك سوف تطمأن أكثر..
------
بعد أن غادر عبد الرحمن، أخرجت دفترها الأزرق، تنهدت بقوة، أمسكت قلمها وبثت بما تشعر به للورق، شعرت بأن روحها عادت إليها، تنهدت بارتياح، ونزلت دموعها مرة أخرى فسمحتها وهي مبتسمة..
اتصلت بها جدتها، فنسيت دفترها على الطاولة وانشغلت بالحديث معها..
قالت جدتها بلهفة: وجدت منك اتصال يا حبيبتي، كنت مع جارتي حليمة، كيف حالك يا ابنتي، طمأنيني عليك
ردت فاطمة: في أحسن ما يكون الحمد لله، أشعر بتحسن كبير
قالت جدتها: الحمد لله، مبارك يا ابنتي، رفعتي رأسنا عاليا كالعادة، ابنتي المتفوقة الرائعة، كل القرية تتحدث عنك، أنت الأولي على الولاية..
ردت فاطمة بابتسامة: الحمد لله، ذلك فضل من الله
قالت جدتها: هل أنتِ سعيدة؟
ردت فاطمة: نعم يا أمي، سعيدة وراضية بكل ما كتبه الله لي، وقررت أن أعود قوية كما كنت من قبل، أسأل الله أن يوفقني
قالت جدتها بسعادة: أسأل الله أن يوفقك يا حبيبتي، أسأل الله أن يعوضك عن كل فقد ولا تفارق الابتسامة محياك بعد اليوم يا حبيبتي
ردت: آميين
أغلقت الخط فسمعت صوت عبد الرحمن قد عاد من العمل، قالت له: عدت مبكراً
رد: سوف أكمل عملي هنا، من الحاسوب
جلس علي الاريكة، قالت له: حسناً، سوف أحضر لك ماء
أسند رأسه وكاد أن يغمض عينيه، فرأى ذلك الدفتر، تناوله فتفاجأ عندما وجد أنه عبارة عن دفتر مذكرات لفاطمة، وضعه في مكانه، حتى ولو كانت زوجته، فلكل إنسان خصوصياته..
عندما عادت قال: هل هذا دفتر مذكراتك؟
رد بابتسامة: نعم، لم أكتب فيه منذ أن غادرت المدينة بعد آخر إمتحان، واليوم شعرت بأنني أريد أن أكتب
ثم تابعت بحماس: كان في السكن شجرة صفصاف جميلة، هوائها عليل، كنت أحبها جداً واعتدت أن أكتب وأن جالسة تحتها..
كان عبد الرحمن سعيد جداً، بدأ ذلك الحزن الخائم في عينيها يرحل، حتى نبرة صوتها تغيرت، عاد المرح إلى حياتها، بل عادت الحياة إلى حياتها..
-----
بعد عدة أيام، استيقظت مبكراً، خرجت من غرفتها فلم تجد عبد الرحمن، تعجبت، فليس من عادته الخروج من المنزل مبكراً، سمعت صوت ضجة في الحديقة الخلفية للمنزل والتي لا يبقون فيها كثيراً
ذهبت فوجدت عبد الرحمن يحفر والعرق يتصبب من على جبينه، قالت له: ماذا تفعل هنا في هذا الوقت
قال ضاحكاً: لن أحرمك من شيء يا عزيزتي، انظري، هذه شتلة صفصاف
قالت بحماس: حقاً، يا الله، شكراً لك
ثم تابعت: دعني أساعدك إذن
جلست بقربه، تراقبه وتساعده أحياناً، كان يمازحها ويضحكان، قال لها: أريد أيضاً أن أجرب ذلك الهواء العليل الذي يداعب الجسد
------
بعد ذلك ذهبا إلى منزل عائلة عبد الرحمن، كانو سعيدين جداً بها، كلهم لاحظو للتغير الذي طرأ عليها، حتى نظرتها باتت مختلفة، ضمتها والدة عبد الرحمن وقالت: مرحبا بالطبيبة، شرفتنا بنسبتك يا حبيبتي
ضمتها عدن بمرح وقالت: كنت أعرف من البداية أنك متفوقة، مبارك يا حلوة
قالت فاطمة بمرح: ومبارك لكِ أيضاً يا جميلة
قال علي لعبد الرحمن: عادت تلك الفتاة الجميلة الرقيقة الخجولة التي أعجبتني
حدجه بنظر حادة وقال له: انتبه إلى كلماتك يا صاح، تلك الفتاة هي زوجتي الآن
ضحك عبد الرحمن وقلد نبرته: تلك الفتاة هي زوجتي الآن
فضحك عليه
الكل أحضر لها هدايا مميزة وأعطوها لها، وفي المساء كان مدير المدرسة قد أقام حفل تكريم لكل المتفوقين، وأصر بأنه سيفعله عندما تتمكن فاطمة من الحضور،لأنها هي التي حسنت من سمعة مدرسته، كانت هي الأولى في الولاية كلها..
كان التكريم جميلاً جداً، ألقى صاحب المدرسة كلمة شكر فيها كل الحضور، تحدث عن فخره بفاطمة بحديث مسهب وعن كل المتفوقين..
تم توزيع شهادات على كل المتفوقين وهدايا، وفاطمة كان لها نصيب الأسد من الهدايا..
كانت تجلس وبجانبها عبد الرحمن وعدن على كراسي في الصف الأول، طلبوا منها أن تلقي كلمة مرتجلة، تتحدث عن سبب تفوقها بصفتها الأولى في الولاية كلها..
ارتبكت قليلا فشجعها عبد الرحمن، صعدت إلى المنصة، أخذت نفساَ عميقاً ثم تحدثت بثقة سلبت قلوب كل الحاضرين، قالت: الحمد لله أولاً وأخيراً، له الفضل والحمد، بيده الأمر كله..
هل تريدون أن تعرفو سر نجاحي، خصوصاً أن الجميع مندهش من أنني قرأت كل سنوات دراستي عدا الصف الثالت في مدرسة بسيطة في قرية نائية..
السر هو والدي، نعم والدي، رغم سوء المدرسة التي كنت أدرس فيها كنت متوفقة، لأن والدي كان يشعرني بأنني أكثر فتاة مميزة في هذا الكون، كان يشعرني بأنني الاذكى على الإطلاق، علمني أن أثق بنفسي وأن أعمل بالأسباب وأتوكل على الله، علمني أن أجعل سقف طموحاتي عالياً، وأن أحلم دون قيود، علمني أن أومن بنفسي..
لكل الأهالي هنا، إن أردتم التفوق لأبنائكم، فهذا هو السر، ولا عجب في ذلك، اديسون مخترع المصباح، عندما كان كان صغيراً، أرسلت المدرسة التي كان يدرس فيها خطاباً لوالدته بأن ابنها فصل من المدرسة، لأن مستواه سيئ جداً وصنف بأنه طالب غبي..
لم تخبره والدته بذلك، بل قالت له بأن المدرسة أقل من مستواه، هو أذكى من أن يدرس في تلك المدرسة، أصبحت تدرسه في المنزل بنفسها، إلى أن كبر وأخترع شيئا لا تستوي حياتنا بدونه اليوم، اخترع المصباح، وقال أن والدته هي السبب، وأنا كذلك أقول والدي هو ملهمي، هو السبب في نجاحي، رحمه الله..
صفق لها الحضور بشدة، تأثر الجميع بقصتها، وقف عبد الرحمن وصفق لها بفخر، أثناء حديثها كانت تنظر إليه من حين لآخر، تجده مبتسم ينظر إليها بفخر، فتواصل حديثها..
بعد ذلك عادو إلى المنزل، كان عبد الرحمن ينظر إلى فاطمة بحب، بدأت تظهر له شخصيتها الحقيقية، الفتاة القوية الواثقة من نفسها..
قالت له بمرح: ألم أعجبك؟ أنا نفسي معجبة بنفسي الآن، لم أتوقع أن أستطيع التحدث بتلك الطلاقة، كنت أتحدث بتلقائية فقط وأقول ما أفكر فيه
قال لها بنبرة كلها حب يشبوها المزاح: دائما كنت معجباً بك والآن زاد إعجابي
لاحظت لنبرته ولكن أدعت أنها لم تفهم شيء..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي