الفصل الأخير

في اليوم التالي أثناء تناولهم لوجبة الإفطار، قال عبد الرحمن، لدينا مشوار مهم جهزي نفسك، قالت: أي مشوار
قال: مفاجأة
نظرت إليه بحماس، وقالت: حسناً، سوف أستعد على الفور
حضرت نفسها فوجدت عبد الرحمن ينتظرها ويخفي خلف ظهره شيء ما..
عندما وصلت قال لها: الجميع أحضر ليك هدايا إلا أنا، ألم تسألي نفسك لماذا
قالت له: لماذا
رد: لأن هديتي مميزة
أعطاها ما في يده، كانت صندوق صغير مغلف بطريقة جميلة، فتحته بحماس، فوجدت سلسالاَ فضياً ومكتوب عليه اسم فاطمة بطريقة مدهشة، فرحت كثيراً، قال لها بحب: هل يمكنني أن أنال شرف وضعه علي عنقك
ردت: بكل سرور
وضعه على عنقها ثم قال: هذه الهدية الأولى، هناك أخرى
قالت بحماس: لا، قلبي الصغير لا يحتمل كل هذا
ضحك ثم قال هيا بنا
ركبا في السيارة، قالت له: إلي أين؟
قال: ألم أقل مفاجاة
اشارت إلى فمها بأصبعها علامة السكوت
كانا طول الطريق يتحدثان ويضحكان، زالت كل الحواجز بينهما، كان الحب جلياً في نظراتهما لبعضهما
مضت ساعة ولم يصلا بعد، قالت فاطمة بملل: متى سوف نصل
قال لها: تبقى القليل
أصبح الطريق وعر، دخلا في قرية، بيوتها بسيطة مبنية من الطين، صادفا مجموعة من النساء يحملن قلل الماء على روسهن، قالت عبد الرحمن: هل ترين؟ النساء هنا يذهبن ليحضرن الماء من بحيرة بعيدة من القرية، الناس يعيشون معاناة حقيقية
شعرت بالحزن على حالهم، نزلا من السيارة، مشيا مسافة بأرجلهما، وصلا إلى مكان به آلات وعدد كبير من العمال
قالت بعدم فهم: ما هذا؟ ولماذا جئنا إلى هنا
أمسك بيدها وتقدما قليلاً، قال: خمني أنتِ
ردت بنفس التساؤل: بئرِ
قال: نعم، هذه صدقة جارية من أجل والدك، نسأل الله أن يتقبلها
هنا أصابتها الدهشة، سالت العبرات على خدها، لم تقل شيئا، كان الصمت أبلغ من الكلام في هذا الموقف، راقبا العمال قليلاً، كانت دموعها تسيل بدون توقف، وهو يمسحها لها ويقول: لم أفعل ذلك لتبكي
قالت: هذه دموع فرح
في طريقهما إلى العودة، صادفا رجلاً كبيراً في السن، يبدو عليه الوقار، سأل عبد الرحمن إن كان هو من حفر هذا البئر فأجابه بالموافقة، شكره كثيراً، ثم أصر عليهما بأن يذهبا معه إلى بيته ليكرهما، اعتذرا ولكن أصر إصراراً شديداً..
ذهبا معه إلى منزله، كان رجلا طيبا، كريماً، يعيش هو وزوجته وحفيدته، أكرمهما وجلس يتحدث معها، قال لعبد الرحمن: شكراً لك يا بني، أنت حقاً رجل حقيقي، هذه القرية التي عانى أهلها كثيراً بسبب عدم الماء، أرسلك الرحيم إلينا لتكون سبب في التخلص من هذا العناء، بحثك الله في زمن ماتت فيه المروءة بين الناس إلا من رحم الله..
قالت فاطمة بحزن: حقاً، ماتت المروءة بين الناس إلا من رحم الله
قال عبد الرحمن:كثرت الأفعال الخسيسة التي تجعل الناس ينظرون إلى الخير على أنه مجازفة وإلى المعروف على أنه محاولة انتحار
قالت فاطمة: كيف؟
قال عبد الرحمن: لو أنت سائق سيارة صدم شخصاً في الطريق ثم خاف وفر هارباً، رأيت ما حدث وأبت نفسك إلا تسعقه وتأخذه إلى المستشفى، هل تضمن ألا يعاملون على أنك أنت القاتل؟ تحلف أمام الشرطة وتقول بأنك أنقذته فحسب وأنك دورك الوحيد أنك كنت إنساناً، هل تضمن أن يصدقك أحد؟
أن يطرق أحدهم بابا طالبا زوجة، يحسن إليه أهلها، يساعدونه ولا يكلفونه فوق طاقته، يعاملون على أحسن ما يكون، ثم لا يعاملها بالحسنى، ثم يوصل رسالة للناس بأنه كلما قل المهر سهل عليك الطلاق، فيتريث كل شخص ما خاطب بناته، ولا يتعامل معه بشهامة لان قليل مروءة قد قتل شيئاَ من المروءة فيه..
قالت فاطمة بحزن: الله المستعان
قال الرجل: حديثك هذا ذكرني قصة، كان لرجلاً فرس، أعجبت أحدهم، فطلب من الرجل أن يبيعها له، فرفض، ولكنه زاد إصراراً بعد رفض الرجل، فتطوع لص ليحضرها له، فذهب إلى المكان الذي يمر به الرجل وهو ممتطي فرسه، تلوى الرجل أمامه في الأرض يدعي الألم، فنزل ذلك الرجل من الفرس وجعل اللص يركب مكانه، وأخذ بلجام الفرس يجرها…
قال له اللص: لا يليق بك أن تجرني، أشعر بالذنب
رد الرجل: أنت مريض
فقال له: إن كان لا بد من ذلك فدعني أمسك اللجام حفظا لكرامتك، وعندما ناوله اللجام، استوى على الفرس وهرب بها، فنادى عليه صاحب الفرس قائلا: إنت سألوك عنها قل أنك اشتريتها، ولا تحدث أحداً بما فعلت، إني أخاف أن تموت المروءة بين الناس.
قالت فاطمة بحزن: قد ماتت بالفعل
جلسا كثيراً مع الرجل، أمطرهما بسيل من الحكايات الجميلة، ذات العظة والعبرة..
شكراه على كرمه، وظل هو يشكر عبد الرحمن على مروءته ثم غادرا..
عندما ركبا في السيارة وبدأت رجلة العودة، ورأت فاطمة أن الطريق خالياً، قالت لعبد الرحمن: أوقف السيارة، نظر إليها مستفهما فأومأت برأسها مؤكدة
أوقفها، التفتت نحوه وضمته بشدة، ذلك متسمراً في مكانه، متفاجئاً، وعلى وجهه ابتسامة بلهاء
ابتعدت عنه وقالت: كدت أن اضمك أمام الجميع من السعادة التي شعرت بها حينها، ولكنني تمالكت نفسي، لا أعرف كيف أشكرك، لا أعرف كيف أوصف لك مدى سعادتي بما فعلته لوالدي، أنت رجل حقيقي، شكراً لك، من كل قلبي..
نظر في عينيها بحنو وقال لها: سعادتك هذه، عندي بالدنيا..
ابتسمت وواصلا طريقهما
مرت الأيام يوم بعد يوم، ازدادت فاطمة تعلقاً بعبد الرحمن، كان شعوراً لذيذاً يدغدغ قلبها، لم تعرفه من قبل، شعور الحب لأول مرة وبالحلال، لذة ما بعدها لذه، وكله بما يرضي الله..
كانت تجلس متوترة، تفكر، ماذا إن كان عبد الرحمن لا يبادلها نفس الشعور، ماذا ما فعله معها بدافع الشفقة، هو رجل أصيل، يحب الخير للناس، ولا يرضى السوء، ماذا إن لم تكن تعني له شيئا، هو الآن انيسها في هذه الحياة، انقبض قلبها عندما فكرت بكل هذه الاحتمالات، ولكنها تعلمت درساً مهماً، لا تتعلق بأحد كثيراً، ولن تجعل حبا يتفوق على حب الله في قلبها، لن تتعلق ببشر تعلق لا ينبغي إلا للخالق، سوف تحب ولكن كما ينبغي، لن تجعل إنسان محوراً الله، لأن الله هو محور حياتها، وأوامره هي مبادئها وقيمها..
كان هو جالس في مكتبه، يفكر فيها، وفي نفس الاحتمالات، هل من الممكن أن ترفضه، وأنها لا ترى فيه زوجاً لها، بل مجرد صديق وشخص وقف معها في محنتها، هل ستوافق عليه، قرر أن يصارحها، ولها الخيار، أن رفضت فلن ييأس وسوف تظل صغيرته وزوجته التي يحبها، أما إن وافقت فيا لهنائه وسعادته بها..
في تلك الفترة زادت فاطمة إلتزاما بتعاليم الدين، ارتدت الحجاب الصحيح، وهي من الأساس لم تكن ميالة للأغاني والأفلام وغيرها، ولا تصافح الرجال، كان عبد الرحمن كل فترة يحضر كتاباً يتدارسونه معاً، بدأ معها بكتب التوحيد والعقيدة، كان معلمها للكتب وللقرآن، فقد كان متقناً لأحكام التجويد، تلاوته جميلة وصوته عذب يأثر القلوب…
عاد إلى المنزل متوتراً، يريد أن يخبرها بما يكنه لها، كان الارتباك بادئاً على ملامح وجهه، كان جالسة على الكرسي، أحضر كرسياً آخراً وجلس مقابلاً لها، تنفس الصعداء ثم أغمض عينيه وفتحهما، أخرج خاتما من جيبه ورفعه أمامها، قال لها: يا فاطمة، بدون مقدمات، لقد وجدت فيك المرأة التي أتمناها، جئت على مقاس أحلامي، لذلك هل تقبلين بي زوجاً لك؟ هذا طلب، لك أن تقبليه أو ترفضينه، أنا ما زلت على وعدي، إن وافقتِ بي فوعد مني أن أكون لك نعم الزوج، لن أخذلك بإذن الله، وإن رفضتي فلك ذلك..
امسك يدها وأعطاها الخاتم، وقال: فكري جيداً، إن وافقت علي فأريد أن أرى هذا الخاتم على إصبعك، وإن لم توافقي فلا بأس، سنظل كما نحن ولن أفقد الأمل أبداً..
قام من مكانه ليغادر، فامسكت يده، أعطته الخاتم، ومدت يدها، قالت بابتسامة: الأمر لا يحتاج كل ذلك، أنا أحبك يا عبد الرحمن
انفرجت أساريره، شعر بأن قلبه يحلق من الفرح، ابتسم ابتسامة عريضة وظل يتمتم: الحمد لله، الحمد لله
وضع الخاتم على إصبعها، وضما بعضهما وكلاهما شعر بأن لا أحد سعيد في الكون مثله
قالت فاطمة بحب: أنت ملاذي في هذه الحياة
قال: أسأل الله أن يوفقني لأكون لك ملاذ حقاً وألا أخذلك أبداً
زرع الله في قلبيهما مودة ورحمة تجاه بعضهما، ذلك الحب النقي، الذي لم تشوبه أي معاصي، بارك الله في زواجهما وعاشا معاً حياة جميلة بأفراحها وأتراها...
تعلما فاطمة درساً مهما، ألا تتعلق بشيء زيادة عن الحد، أن ترضا بكل ما كتبه الله لها، أن تزدها المصائب والمحن قوة وحكمة، أن وراء كل صغيرة وكبيرة في هذه الحياة درساً عظيماً، وأيقنت أن الله أرحم بنا منا، رحمته لا تقارن برحمه مخلوق سبحانه وتعالي" ليس كمثله شيء"
فما أعظمك يا إلهي، ولكن كنا نعرف الحكمة من كل مصيبة ومحنة لما جزعنا من هذه المصائب، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ"
وفي الختام:
كلما ضاق صدرك، ضاقت بك الأرض بما رحُبت، أصبحت ضعيفاً تحاوطك الكآبة; جرب أن تنظر في داخلك بعمق، تفحص قلبك..
ستجد أن حب لأمر دنيوي تسرب إليه، ذلك القلب الذي لا ينبغي أن يشغله إلا حب الله..
كل ما سواه ينبغي أن يكون في يدك، إن فقدته سيكون الألم مؤقت، في موضع يدك، لن تفقد معه نفسك! لأن وحده الذي تضعه في قلبك بفقدانه تفقد نفسك!
ولأن الأمور الدنيوية كما الدنيا! فانية، متذبذبة، غير كاملة، أي كان نوعها، أشخاص، مكانة، مال وغيرها... تسعد بسببها حيناً وتتأذى حيناً آخر..
حب الله وحده هو ما ينبغي أن يشغل قلبك!
له الكمال سبحانه!
بحبه ترتقي وتحاوطك السكينة، بعبادته تحقق ما خلقت لأجله! تستمسك بالعروة الوثقى..
كلما بعدت عنه ضاق بك الكون، وكلما اقتربت منه اقتربت من السلام والثبات!
أجعل إرضائه هو هدفك الأسمى، حوله تدور مبادئك وقيمك وكل حياتك!
لا تجعل حب أمر دنيوي يطغى على حب الله في قلبك..
حينها فقط ستشعر بالإكتفاء والأمان!
حينها فقط ستعيش في جنة في الدنيا!
الجنة التي وصفها ابن تيمية بقوله: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"
فاللهم أجعلنا من عبادك الصالحين، الذاكرين لك قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، الحامدين، الشاكرين، الخاشعين، الصادقين...اللهم أرزقنا حبك، اللهم لا تعلق قلوبنا بسواك، وأغفر لنا ذنوبنا، ما فعلناها بقصد أو بدون قصد، بجهل منا أو بضعف... اللهم أرزقنا لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقاءك.. اللهم أرزقنا الجنة...


-انتهت

#ملاحظة:
الرواية من وحي الخيال، فخذ منها ما فيه عظة وعبرة
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي