الفصل التاسع

كانت تدرس في فناء السكن، فنادتها المشرفة التي تجلس في مكتب الإشراف قرب البوابة، طلبت منها أن ترتدي عبائتها وحجابها ثم تأتي إليها، لم تفهم شيء، فعلت كما طلبت منها المشرفة، خرجت إلى مكتب الإشراف، فرأت شابان يشبهان بعضهما، يبدو أنهما أخوان، أحدها ذلك الملتحي الذي رأته في منزل الجيران من نافذة غرفتهم، كانا يحملان أكياساً ضخمة ممتلئة بالطعام، والمشرفة واقفة معهم وعلى شفتيها ابتسامة واسعة..
قال الشاب الآخر للملتحي: تنازل قليلاً يا عبد الرحمن، لمرة واحدة فقط، الحفلة ستكون بفنان مشهور، سنستمتع
نظر إليه باستنكار ثم قال: هذا أمر لا أقبل النقاش فيه، لو كان الأمر بيدي لمنعت هذه الحفلة من الاساس
ثم ضربه على كتفه بمرح وتابع: ولكن يمكنك أنت البقاء معي، سوف تستمتع ولن تندم أبداً
رد عليه: أتمزح! لن أضيع هذه الحفلة، دعني وشأني يا مولانا
تنحنحت فاطمة ثم ألقت التحية، التفت الجميع نحوها ورد عليها عبد الرحمن، ثم قالت لها المشرفة: ما اسمك أنتِ؟
ردت: فاطمة
قالت لها: حسناً يا فاطمة، عبد الرحمن وعلي جزاهم الله خيراً، أحضرا طعاماً كثيراً من أجل الفتيات في السكن، كان لديهم زواج أختهم، نسأل الله أن يسعدها، أريد مساعدتك في توزيع هذا الطعام على الفتيات بالداخل
كانت فاطمة سعيدة اليوم بلقاء والدها، تتقبل كل شيء بصدر رحب، فردت بمرح: هيا بنا إذن
في ذلك الأثناء، دخلت فتاة في عمر العشرين، جميلة جداً و ناعمة و رقيقة، تحمل كيساً آخراً
نظرت إليها المشرفة بعينين متسعتين ثم قالت: لا أعرف ما أقول لكم بعد هذا الكرم، شكراً لكم جداً
قال علي: لا تقولي ذلك، نحن جيران، وهذا الواجب
ثم تابع بثقة: هذه خطيبتي رنا
ظهر الخجل على ملامح الفتاة، ولم تقل شيئا
قال عبد الرحمن: عالعادة، كل العالم يجب أن يعرف أنها خطيبته
قالت المشرفة ضاحكة: أعرفها جيداً يا علي
ضحك علي بشدة ثم مرر يده على شعره بحرج وقال: ولكن هذه الفتاة لا تعرفها
نظرت إليه فاطمة بحرج، لم تتفوه بكلمة، كانت تراقب المشهد في صمت، شكرتهم المشرفة مرة أخرى، ثم غادرو، وأخذتا الأكياس هي وفاطمة، وبدأتا بتوزيع الطعام على الفتيات في الغرف، كانت وجبة دسمة ولذيذة بعد أن كان معظم طعامهن هو "العدس" وذلك الطعام الذي لا طعم له
قالت المشرفة لفاطمة: هذه العائلة رائعة جداً، دائما يحضرون الطعام إلى السكن، خصوصاً في رمضان، وفي مناسباتهم، يحضرون طعاما بكميات هائلة
ضحكت ثم تابعت: عبد الرحمن شاباً واعياً، أم علي فعكسه تماماً، رغم أنه أكبر منه في العمر
ابتسمت فاطمة ثم قالت: نعم، لاحظت ذلك
-----
في اليوم التالي استيقظت فاطمة مبكراً كعادتها، صلت الفجر، قرأت وردها من القرآن، والذي كان أجمل ما تبدأ به يومها، وتكتسب منه طاقتها لبقية اليوم..ثم درست قليلاً، وبعد أن استيقظ الجميع، تناولو الشاي معاً، ثم بعد ذلك ذهبت إلى شجرة الصفصاف صديقتها وملاذها
كان اليوم عطلة، والجو جميل جداً، جلست والهواء يداعب جسدها وشعرها، كانت تضحك بمرح كالطفلة، تتأمل زرقة السماء، وأصوات العصافير، تلك الفراشات التي تحوم حول الأزهار، قالت: يا ليتني فراشة، لأقطف من رحيق تلك الأزهار الجميلة، بل يا ليتني زهرة، لتحوم حولي هذه الفراشات ذات الألوان الزاهية..
اغمضت عينيها ثم تابعت: أتمنى أن أكون كهذه النسمات التي تداعب وجهي برقة، خفيفة على من حولي، أتمنى أن لا يشقى أحداً معي، ولا أترك في الناس سوى الأثر الجميل، أتمنى أن يتذكرني الجميع بالخير، وعندما يذكر اسمي تبتسم الوجوه..
ثم ضحكت بمرح، شعرت بأنها تريد أن تكتب فعادت إلى الغرفة لتحضر دفترها الأزرق، صعدت إلى سريرها تبحث عنه، فتحت النافدة المطلة على منزل الجيران، والتي لا تفتحها إلا نادراً، فرأت ذلك الشاب الذي يسمى علي وخطيبته يجلسان في الخارج، كان ينظر إليها بحب، أمسك يدها فسحبتها منه ونظرت إليه معاتبة، تحدث معها قليلا ثم عاد إلى الداخل وبقيت هي بالخارج، ابتسمت فاطمة تلقائيا، قالت في نفسها: تصرفها صحيح، حتى وإن كان خطيبها لا يحق له بأن يمسك يدها إلا بعد أن يتزوجها
أرادت أن تغلق النافذة ولكنها رأت الشاب الآخر الذي يدعى عبد الرحمن يتوجه نحو الفتاة، جلس ملاصقا لها، امسك يدها فلم تسحبها ولم تقل شيء، ثم بعد قليل ضمها إليها ولم تقاوم..
أغلقت فاطمة النافذة بعد أن شعرت بالاشمئزاز، لم تفهم شيء، الشابان يكونان أخوان، وذاك خطيبها، لم تسمح له بأن يمسك يدها، وسمحت للآخر بأن يضمها، لماذا؟ هل تخونه مع أخيه! وهكذا على العلن! ماذا لو رآئهم أحد!
تأففت، أخذت دفترها وعادت إلى الشجرة، ولكن مزاجها تبدل وأصبح سيئا، لم تستطع أن تزيل المشهد الذي رأته من ذاكرتها، العجيب أن عبد الرحمن يبدو شاباً واعياً وملتزماً وعلي هو الطائش، والأعجب من ذلك أنها سمعته يقول بأنه لن يحضرحفلة أخته في منزل زوجها لأنها حرام!
تأففت ثم قالت: حقاً صدق من قال أن المظاهر خداعة!
---------
في اليوم التالي قررن هي وصديقاتها أن يذهبن لتناول الآيسكريم بعد نهاية الدوام في مطعم قريب من المدرسة، كنوع من التغيير، جلسن بداخل المطعم، ذهبتا سحر وسعاد لايحضار الايسكريم، و جلستا هي وسمر حول الطاولة ينتظرن، كانت فاطمة تنظر في اتجاه الطريق، فرأت منظراً ادهشها، أحمد ابن خالتها مع تلك الفتاة التي ساعدتها ذلك اليوم، وقالت أن اسمها شهد! كم هو صغير هذا الكون رغم اتساعه!
كانا يقفان في الطريق، يضحكان وينظر في عينيها بحب، بعد قليل أوقف أحمد سيارة أجرة، أمسكها من يدها وركبا معاً..
لاحظت سمر لفاطمة، فسألتها: هل أنتِ بخير؟
تنهدت ثم ردت: نعم، بخير
فكرت، هل يعقل أن تكون تلك الفتاة على علاقة معه؟ أم صديقته وحسب، قالت مستنكرة: ولماذا يمسك يد صديقته؟!
تحدثت مع نفسها قائلة: من الأساس كيف تكون الصداقة بين الشاب والفتاة! الأمر غير منطقي على الاطلاق، وغير مقنع ومخالف للفطرة، هل انعدم الفتيات لتصاحب الفتاة شاباً، أم انعدم الرجال ليصادق الشاب فتاة!
وإن كانا على علاقة، فما مسماها، لماذا لم يقل أحمد ذلك من قبل، ولماذا لم يتخذ خطوة جدية تجاة الفتاة! أتمنى ألا يكون أحمد كبقية الرجال..
أخرجها من شرودها صوت سعاد قائلة: الأمير الشاردة، هكذا ينبغي أن يكون اسمك، لأنك دائما شاردة، فيما تفكرين؟
قالت سحر: مشكلتك أنك تفكرين وتحليلين زيادة عن اللزوم يا فاطمة
تنهدت فاطمة بقوة ثم قالت: معك حق
---------
في اليوم التالي بعد أن انتهى يومها الدراسي، تفاجأت بأحمد ابن خالتها يقف بجانب البوابة
عندما رآها ابتسم ابتسامة واسعة ثم توجه نحوها، كان يعلم بأن فاطمة لا تصافح الرجال، ألقى عليها التحية فردت عليه، سألته: ماذا تفعل هنا؟
رد بابتسامة: أنا يا فاطمة درست الجامعة في هذه المدينة، لذلك لدي كثير من الأعمال هنا، ولدي فكرة بأن أستقر في هذه المدينة مستقبلاً
ردت: جيد، متى جئت؟ وماذا فعلت؟
رد: جئت اليوم، وكان يومي مليئا بالمشاغل، وعندما وجدت وقتاً للتوه، جئت لرؤيتك، وسوف أذهب لروية بعض أصدقاء الدراسة
أومأت برأسها، تعحبت، لماذا يكذب عليها!
سألها عن دراستها وعن حياتها في المدينة، فردت عليه باقتضاب: كله تمام، حمد لله
أعطاها بعض الأغراض التي أرسلها لها والدها، ثم استأذن منها بعد ذلك وغادر
وقفت لبرهه تفكر، لماذا كذب عليها، هي رأته بأم عينها مع تلك الفتاة في الأمس!
رفعت كتفيها بلا مبالاة، ثم قالت: لا يهمني
التفتت لتغادر فرأت سعاد تقف خلفها وتنظر إليها بمكر، سألتها بشغب: من ذلك الشاب الوسيم الذي كنت تقفين معه يا فتاة؟
ردت فاطمة: ابن خالتي
قالت سعاد بمكر: ابن خالتك فقط، أم أكثر من ذلك؟
ردت فاطمة بانفعال: لا أكثر ولا أقل، ابن خالتي فقط، لا تعكري مزاجي يا سعاد، ليس لدي مزاجاً للمزاج الآن
زمت سعاد شفتيها ثم قالت : حسناً، كنت أمزح فقط، لما هذا الانفعال؟
تنهدت فاطمة وقالت: متعبة فقط، هيا بنا لنذهب
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي