24

الرابع والعشرون


بمجرد خروج فيليب مشهرًا سلاحه من خلف الثلاثة رفع إدجار السلاح نحوه:
-توقف مكانك وضع السلاح جانبًا.


لم تكتمل فرحة جنجر وخوليو بسيطرة إدجار على الموقف _كما حدث معه هو بالضبط_ بعد أن سمع صوت رجلٍ آخر يقول من خلفه:

-ربما أنت من عليه فعل ذلك.

كانت فوهة السلاح تنقر رأس إدجار من الخلف، لتجرده من كل أسلحته وتتركه عاجزًا غير قادرٍ على فعل شيء من أجل إنقاذ حياته.

لعن إدجار تحت أنفاسه:
"سحقًا، ليس مجددًا".


لقد تكرر هذا المشهد في ذهن إدجار؛ فهذه لم تكن المرة الأولى التي يتلقى بها تهديدًا مباشرًا في رأسه، أولًا صوفيا في الجبل، والآن هذا الذي لا يعرف من يكون.

لقد قمت بخفض حذرك مرة أخرى وهذا أمرٌ غير قابلٍ للتصديق مع رجلٍ يمتلك شخصية حذرة مثلك، أم أنك وببساطةٍ بدأت تأخذ طريق الشيخوخة؟!


ولماذا تنظر إلى كلوديا وكأنها العدو الوحيد لك في هذا المكان؟

ما حدث لك الآن لهو نتيجةٌ متوقعةٌ يا إدجار، ومهما تخطيت من أزمات بطريقتك هذه، ستكون مجبرًا في مرحلة ما على أن تتحمل نتائج اختياراتك وقراراتك الأنانية.


في قرار نفسك أنت تعلم ما جرى، على عكس كلوديا.

في السابق، كنت تنظر لما كان سيجري لها ولصديقتها في ذلك اليوم، عندما كانا في ورطة ولم تُحرك ساكنًا، لا تستغرب مما قد يفعله الآخرون لك؛ فالحياة كالعجلة، تدور وتسقيك من الكأس نفسه.

لا تحمل الضغينة بعد ما فعلته لك، ربما لو أنك ساعدتها في ذلك اليوم لما قامت بتسليم رقبتك للمقصلة.



ابتسم فيليب لوجود صديقه جوناس الذي أنقذ الموقف، فأطلق العنان لنفسه الهائجة وتوجه نحو إدجار مسرعًا بذراعه التي أخذت شكل الهجوم.

-مرحبًا أيها اللعين.

لكمه في وجهه ثم سدد له ركلة الرُكبة في معدته جاعلًا من إدجار ينحني إلى الأمام وهو يصدر أنين الألم، لقد جثى على ركبتيه وشعر بأمعائه تتقطع ولو أنه لم يمسك بمعدته لظن أن الرجل الذي هاجمه قد صنع حفرة فيها.

لا يمكنه الرد أو الدفاع عن نفسه بينما هناك سلاح يهدد رأسه.


وهذا لم يكن كافيًا لإشباع رغبة فيليب في تحطيمه، حيث رفع سلاحه _والذي كان ينتمي لجنجر_ وضرب به رأس إدجار ليقع الأخير فوق الأرض مُغشيًا عليه.

وهذا شيء آخر حدث لك مرة أخرى.

تبًا إدجار، شخصٌ مثلك يجب أن يبقَ نائمًا؛ هذا أفضل من مواجهةِ مجموعةٍ من الناقمين المهووسين بالنيل منك.





..



-ما هذا الذي بين يديك؟

رفع براندون رأسه ثم أغلق المصنف، ليدحرج عينيه ما بين وجه صديقه والزجاجة التي أمامه.

ثم أضاف مبتسمًا:
-سوف أتزوج.

-ماذا؟ هل فقدت عقلك؟

-عندما أخبرك من هي، أنت من سوف يفقد عقله.

-أخرج ما في جعبتك يا فتى.

-اسمها صوفيا وتكون ابنة ماساياث.

-لا تمزح معي.

-أنا لا أمزح.

-كيف لي أن أصدق هذا؟

فتح براندون المصنف وجعل صديقه يرى ما يحتويه من معلومات، وبعد أن انتهى من قراءته رفع الآخر رأسه؛ لينظر في وجه براندون متحدثًا بذهول:

-عقد زواج! هل هذا زواج مدبر؟

-أجل.

قهقه الرجل بفخر لإنجاز براندون، كما يفخر المرء بأخيه:
-هل تعلم على أي غنيمة وقعت يدك؟

-أجل.

ضحك الآخر مجددًا، وشعر بالحماس والسعادة وهو يهم بعناقه:
-سوف تصبح الزعيم عما قريب، لقد كنت أنتظر هذا اليوم بفارغ الصبر.

تغيرت ملامح براندون من الفرح إلى البرود، واختفت ابتسامته العريضة؛ إذ ستندمل فرحة صديقه بعد ما سيقوله:
-لا يا صديقي، هذا لن يحدث.

-ماذا؟ إذا كان لن يحدث، لماذا إذًا وبحق خالق السماوات ستتزوج من هذه الفتاة؟

-لكي أخدم أخي ولكي.

-ولكي يقبل بإعادة امتيازاتك، ورفع شأنك بعد أن أخفقت مرارًا؟

حَمحَمَ براندون مفرغًا خشونة حنجرته ليضيف:
- شيء من هذا القبيل.

إتكأ الآخر على ظهر المقعد من خلفه وعلق مستاءًا:
-لا يمكن لي تصديق مدى غبائك، أنت أحمق، مهما نصحتك ومهما قلت لك، سوف تبقى مجرد تابعٍ أحمق، كان باستطاعته أن يصل عنان السماء.

أمسك براندون كتف صديقه ونطق بشيء من الاستياء:
-عليك أن تفهم ما ينتظرني ثم تحدث، هذا لن يكون زواجًا حقيقيًا، سوف ينتهي في يوم ما، وبعدها؟ هل تدرك ما سيحدث لي إن تم اكتشاف ذلك؟

ثم إنني لا أطمح للزعامة، يعجبني أن أبقى حُرًا طليقًا، فالقيادة تخنق المرء.

بالإضافة إلى أن هذا الزواج لن يحجز حريتي وسيشتري لي مكانًا في عالمين مختلفين، عالمي الأسود والبشع الذي تم وضعي فيه رغمًا عني، ثم المجتمع الأبيض الراقي الذي يلمع أمام ما تبقى من البشر على سطح هذه الكرة الأرضية.


ضحك صديقه متهكمًا:
-ماذا لو قام بقتلك بعد زواجك من فتاة تنحدرُ من عائلةٍ موثرةٍ مثلها؟ ما الذي ستفعله بعد أن أقوم بدفنك تحت التراب؟ ما الذي سيكون نافعًا بعدها؟ أخبرني ما الذي سأفعله أنا بعد ذلك؟

-أنا أفهم قلقك، لكن عليك أن تتوقف عن افتراض الأسوء، فهذا لن يحدث، أرح تفكيرك.

-ما الذي يجعلك متأكدًا لهذه الدرجة؟

-لأنه أخي.

-وماذا يجعلني هذا؟

-يجعلك أخي أيضًا.

-لا، أنا صديقك، والشخص الذي رعاك، والذي يؤيد قراراتك ويقف في ظهرك في جميع حالاتك، أما أخوك ذاك لا يفعل هذه الأشياء.

-إذًا، هل تريد أن أتوقف عن مناداتك بـ صديقي! لأنك الآن وبصريح العبارة لا تساند قراري!

-ليس هذا ما عنيته، فقط اصمت أيها الأحمق ودعني أنتهي.

-حسنًا، تقدم بحديثك.

-إذا فكرت بشأننا ستجد أن ما يربطنا نحن الاثنين ليس بعلاقة سامة، حتى وإن فكرت بقتلكما معًا، لن أحصل على أي شيء، أما هو فلديه ما سيكسبه من خلف ذلك.

-توقف.

-أمك، هل تتذكرها؟ لقد تركتك معي عندما كنتَ في الخامسة من عمرك فقط، وأنا كنتُ في العاشرة.

أجاب براندون بحزن:
-أجل.

-في ذلك الوقت، كان شقيقكَ موجودًا، وكان في الثالثة عشر، لكنها لم تسلمك له رغم أنه كان أوعى وأقوى مما كنت عليه أنا.


-أجل، أجل، وهي طلبت أن أعيش في قسم الخدم لسبب وجيه؛ هي لم تشأ مني الدخول في عمل العائلة.

-لا، لقد كانت خائفة عليك أيها الأبله، وليس لأنها لم تشأ دخولك في عمل العائلة، كلنا في هذه العائلة ونعمل العمل ذاته، الألقاب والاختيارات هي فقط ما تحدد أهميتك.

ودعني أقول هذا لك للمرة الأخيرة، لو أنك في السابق ممن يشكلون تهديدًا واحدًا وصغيرًا لأخيك، لكنت ميتًا منذ أعوام طويلة.

-لا يمكن لنا أن نجزم.

- أخبرني إذًا، لماذا فعلت أمك ذلك؟

أجاب براندون بسخرية:
-لقدر رحلت، لا يمكنني سؤالها.


استيأس الآخر منه وكاد أن يغادر المكان، بعد أن شعر بالغضب من براندون الذي بدا غير آبه لحياته البتة، ولا يحرص على التطوير من نفسه، هذا غير أن قراره بالاختباء خلف هذا الزواج كجرذٍ جبان جعل الآخر يفقد عقله.

قهقه براندون وأوقفه، ثم جعله يجلس مجددًا:
-لا تفعل هذا يا فابيان، أنا أمازحك يا رجل، بعد كل شيء أنت لديك وجهة نظر، لكنني فقط لا أحب الشعور بالخطر من قبل الشخص الوحيد الذي بقي من لحمي ودمي.

-في عالمنا هذا فقط المؤيدون وذوي المصالح المشتركة هم عائلتك، لا تنجرف مع غير هذا، وربما أنا مجرد مرافقٍ شخصيٍ لك إلا أن الوفاء لك هو الشيء الذي أعيش من أجله فقط، و إن لم أكن كذلك فتبًا لي ولكل السنوات التي عشتها في مراقبتك كمربية مسنة.

نظر براندون في عيني "فابيان" وبدا الصدق عليه جليًا:
-فابيان، أنت أقرب شخصٍ لي ولا يمكنني أن أنكر ما فعلته من أجلي، أنت تعرفني ولهذا السبب عليك أن تفهم رغباتي، أنا لا أريد ذلك الهراء يا فابيان، لا أريد أن أقتل أخي، أرجوك إفهم هذا.


ترك فابيان كبرياءه الغاضب جانبًا وحدق في نظرات براندون الحزينة لبعض الوقت، لقد قرأ الصدق في عينيه وتعابير وجه‍ه، ثم هز رأسه متفهمًا:

-حسنًا، إن كانت هذه هي رغبتك الحقيقية، فلما لا، في كِلا الحالتين أنا لم أعد أريد الاستمرار في مراقبة طفلٍ أحمقٍ مثلك.

أطلق براندون ضحكة قصيرة امتزجت بالسخرية والغضب الطفيف:
- أنا في الثالثة والعشرين من عمري يا رجل، عن أي طفل تتحدث.

أشعل فابيان سيجاره ثم نفث الدخان من أنفه:
-أجل، أجل، ما زلت طفلًا أحمقًا بنظري، دعك من هذا الهراء وأخبرني، هل سأكون شاهدًا على زواجك المزيف على الأقل؟

ضحك براندون وأكمل فابيان:
- من يعرف، ربما لن أشهد لك زواجًا مرة أخرى.

-بالطبع وجودك هو الأهم، توقف عن التحدث وكأنها نهاية العالم.





وعلى ذكر نهاية العالم، انتهت الذكريات بالعودة للنظرات التي يتم تبادلها بين براندون الجريح وصوفيا التي شعرت وكأنها أتعس إنسانة على وجه الأرض.

لقد شاهد براندون خيبة أمل كبيرة من خلال الطريقة التي نظرت إليه بها.

رأى ملامحًا لم يكن يرغب برؤيتها مطلقًا، صوفيا القديمة الجامحة والغاضبة طوال الوقت كانت أفضل من رؤيته للحزن في عينيها والذي بات من أعدائه. 

ترك السلاح جانبًا ثم وضع يده على قلبه، مخبرًا لها أنه في أعماقه قد اعترف لها بحبه، وهي استطاعت أن تشعر بتلك الكلمات المخفية خلف وجهه الشاحب.

هذه إشارة لا تبشر بالخير، سوف يستسلم يا صوفيا، هذا هو الشيء الوحيد الذي يمكنه فعله لكي ينقذكما، أنت والطفل.

-لا.

هزت صوفيا رأسها ناهرةً له، لكنه ابتسم فقط ليعلن لها قراره النهائي، فأخذت قرارها هي الأخرى وتحدث تسبقه بخطوة:

-هل يمكن لي أن أتحدث على الأقل؟ أنتم فقط تجلسون هنا دون فعل أي شيء، مما يجعلني أدرك أنك قد تعطينا فرصة للتداول.

جاءها رد باد وهو يجلس على مقعده الخشبي:
-نحن ننتظر خروجكم، ليكون النيل منكم أكثر متعة وبشأن الحديث، لا بأس من الحديث يا قطعة السُكر.

بعد غزل باد الرخيص، لعنه براندون، ولعن تجاوز صوفيا لقراره، حيث شاهد نظرتها السريعة له بعد أن وقفت على قدميها وابتعدت .


امتثلت تواجه باد الذي ترك سلاحه جانبًا بمجرد أن رأها واقفة أمامه، وكان يراقب الطريقة التي رمقت بها الرجلين المصروعين على الأرض.

خاطبت عقلها:
"لقد نال منهم براندون وأصابهم في القلب مباشرة."

هذا شيء متوقع من رجل عصابة متمكن لم تعرفي عنه هذا حتى الآن يا صوفيا، سريع وقاضي، لا يمكن أن يهدر الوقت أثناء تبادل النار، مما يعطيكي فكرة على أنه مارس القتل لمدة طويلة.

وأخيرًا أدركت أن زوجك قاتل ذكي، وتعرضه للإصابة كان شيء يتوقعه هو؛ فلا تحزني كثيرًا عليه، لقد كان ذلك عالمه وما يزال، أنقذي الموقف فقط.



-اسمي صوفيا.

-نحن لسنا بحاجة لاسمك، ماذا لديك؟

-يجب أن تعرف ما يحدث هنا، لقد رأيت المشهد في الخارج أليس كذلك؟

-آكلي لحوم البشر! أجل رأيناهم.

-ليسو آكلي لحوم بشر فقط، لقد تم تحويلهم.

-ماذا؟

-لم يكونوا هكذا، لقد اشتركوا في المسابقة ووصلوا معنا إلى هُنا وكانوا طبيعيين جدًا.

-إنهم مجرد مسوخ من الفريق الثاني كيف يمكن لك أن تعرفي ما حدث؟

-ربما لا أعلم كيف أصبح الفريق الآخر هكذا، لكنني أعلم أن الأمر بدأ من عندنا، وعليك أن تستمع لما سأقوله.


قدم لها باد كامل اهتمامه مع صدمة طفيفة بالكاد جعلت حاجبه الأيسر يرتفع.

وفي حين كان أوسكار يستمع لها لقد علم أنها ستكون سببًا بمقتله لا محالة، وحيث لا مفر من ذلك، نطق في أمل إنقاذ نفسه:
-هي لا يمكن لها أن تشرح لك الأمر.

-اخرس أنت.

انتهى تهديد باد بانطلاق وابل الرصاص على الحائط خلف أوسكار وبراندون، حيث أن كلًا منهما حمى رأسه وأذنيه وهو يتكور على نفسه ويلتصق بظهر ما يحتمي خلفه.


بعد أن انتهى الرش دون إدراك كما لو كانت وابلٌ من الشتائم، تبادل أوسكار نظرات الغضب مع براندون وهمس مغتاظًا:
-سوف تتسبب تلك المرأة الحمقاء بمقتلنا.

حرك براندون رأسه للجانب وملامحه وجهه تطرح الاتهام ذاته لمن تحدث للتو:
-فقط اصمت.


أجل أوسكار، كما قال براندون، اصمت.

إذا كان هناك شخص سيتسبب بموت الجميع، هو أنت يا أوسكار، وما حدث للتو بداية فقط، أنت مكروه بشكل لا يمكن تخيله.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي