4

الفصل الرابع

الجشع وحب المال كان طاغيًا على كل من في هذه المسابقة، هل حقًا لم يتساءل أحدهم لماذا لم تبدأ عملية الإقصاء الطوعية قبل أن تبحر الباخرة!؟ أم هل ربما تساءل البعض مثلك يا إدجار!


أجل، الجواب هو ما أنت تفكر فيه بالضبط، لا يجب أن يكون خيارًا سهلاً، فمن قام بالتخطيط لهذا ما هو إلا عبقري لعين.

يبدو هذا كنوع من الترغيب والترهيب، يجعلونك ترغب بالمال، وبالمقابل تخاف العودة بقارب صغير مجهول المصير، لا تعرف إن كان سيعيدك آمنًا أم لا، هذا غير الأسلحة التي كانت موجهة نحو ذلك المعتوه، من عساه يريد رؤيتها مجددًا؟

كل ما كان يعرفه إدجار هو رقم الهاتف الأرضي لمطعم براد بالإضافة لموقعه، كانت قد أشرقت الشمس عندما دخل مجموعة من الرجال ومعهم حقيبة ممتلئة بالنقود إلى ذلك المطعم القديم.

لم يكن العثور عليه صعبًا حيث كان فريدًا من نوعه، كما أن إدجار وصفه بدقة:
" قديمًا مُتهالكًا قد يقع سقفه عليك بأية لحظة، مع لافتةٍ ممزقةٍ من الخارج مكتوب عليها بارب للمأكولات البحرية".


كان براد يقف خلف منضدة مطعمه عندما دخل ثلاثة رجال يرتدون السواد؛ ليقفوا أمامه.

سأل أحدهم:
-هل السيدة باربرا هنا؟

شعر براد بالرهبة؛ فمن هذا الذي قد يبحث عن زوجته وهو يعلم تمامًا أنها لا تمتلك أقاربًا في كل هذه الدنيا سواه، ما عدا مظهرهم الغريب.

حدق براد بهم مجعدًا شفتيه، فكرر الرجل سؤاله؛ لينطق براد وهو يحول نظراته إلى وجوههم:
-هل أرسلت معكم باربرا أوراق الطلاق؟

-لا نعرف ما الذي تتحدث عنه، ولكن نحن هنا من أجل تسليم السيدة باربرا مبلغًا كبيرًا من المال.

تنهد براد براحة تامة، كان يخشى أن تكون زوجته قد قررت الانفصال عنه بعد مشاجرتهم الطويلة ليلة أمس.

ثم انتبه إلى ما قاله الرجل مجددًا ليسأل:
-هل قلت مبلغًا كبيرًا من المال؟



يالسخافتك يا براد، بالطبع هو قال ذلك، لا تنظر كالأبله هكذا، ابتسم أيها العجوز؛ لقد ضحكت لك الدنيا؛ بسبب طيبة قلب زوجتك الرائعة مرتين.

أول مرة منذ أعوامٍ طويلةٍ حين وافقت على الزواج من رجلٍ فقيرٍ مثلك لا ينجب الأطفال، والثانية، حقيبة المال هذه.



في تلك الأثناء كان إدجار يتساءل عن الأمور التي سيفعلانها بذلك المال الذي لم يتسنى له رؤيته حتى.

هل سوف تفتح باربرا مشروع الزهور الذي حلمت به دائماً؟ وهل سيُصلح زوجها براد ذلك المطعم المتعفن؟


بعد رحيل الرجال فتحت السيدة باربرا حقيبة المال، وعلى فورها التقطت الملاحظة التي تركها إدجار، وبمجرد أن قرأت تلك الكلمات غرقت عينيها بالدموع.

اقترب منها زوجها يحتضن كتفيها الصغيرتين بكفيه، كان يقف خلفها مباشرة ينظر إلى الكلمات التي كتبها إدجار بنفسه.

"يا له من رجل بخيل الكلمات!"

خاطب براد نفسه ثم سألها بهدوء قُرب أذنها:
-لماذا تبكين الآن يا بارب؟

بصوتها الباكي تحدثت مع شعورِ اليقين الذي يثبت ما تفكر به:
-هو لن يعود مطلقاً.

اجتمع الحزن في ملامح وجه الرجل العجوز فور سماعه لكلماتها، ليتوضح أن إدجار شخص ثمين بالنسبة له أيضًا.


جلس براد على مقعده بقربها وتحدث بعصبية مزيفة:

-ذلك الأحمق، ياله من عديم الأخلاق، يرسل لنا المال وكأنه سيعفيه عن..

صمت براد بعد أن خانته الكلمات للتعبير عن خيبته هو الآخر.

التفتت إليه باربرا تسأله:
-ألم يقولوا شيئاً آخر؟

-قالوا أنه بعد الفوز قد يعود، ولكن إن خسر فلن يعود، بل سيسافر إلى منطقة أخرى، وقالوا أيضًا أن هذا المبلغ هديةٌ لكِ منه، وأنه لم يجد الوقت للاتصال.



لا أيها الرجل المسكين، لم يكن هذا ما حدث، فما حدث هو أن إدجار استمع للكثير من المكالمات بين المتسابقين وذويهم، وهكذا تأكد أن المبلغ سوف يصل إليكما، ومن وجهة نظره هو رأى أن الاتصال بكما سيكون مزعجًا.

لم يطلب منهم أن يقولوا "أنه سيعود أو لا يعود"، ويبدو أنه لن يعرف أنهم قالوا ذلك؛ لأنه وببساطة لن يعود.


كسر براد الصمت بينهما، وأفصح عن ما يخالج زوجته من شعور:

-أظن أنه يستحق مكانًا أفضل من هذا يا عزيزتي، فكري بالأمر، ما الذي يوجد هُنا؟!


-أجل، ما تقوله صحيحٌ جدًا، لكن هذا المكان لن يعود كما كان في السابق دون إدجار، لقد اعتدت وجوده، أنا حتى لا أعلم إن كان على ما يرام أم لا.

-ربما لم يسبق لي أن حزرت حالته وما يشعر به، فقد كان صامتًا طوال الوقت، لا يسمح لنا بالسؤال حتى، لكن ومع ذلك أنا أعرف طبيعته، سيكون بخير، سوف يفوز ويعود إلينا، ذلك الأحمق لا يستطيع التخلي عن..

قهقهت باربرا تكمل عنه:
-عن تذمرك وطبخي السيء.

-أجل.

اقترب من زوجته يضمها إليه:
-من يتنفس هواء البحيرات لدينا لا يستطيع الابتعاد، أعدك.

-أتمنى أن يكون بخير فقط.

-سوف يكون كذلك، لا تقلقي، ثم مهلًا، إنّ طعامك هو الأفضل، لا تتحدثي هكذا مرة أخرى.

أصاب الرجل بقوله أن طعامها هو الأفضل بالنسبة لإدجار، فعندما كان يأكل وحيدًا كانت المعلبات خياره الأول، إما هذا أو يأكل من صيده الذي لا يشتهي منه شيئًا.


ولكن عزيزاي العجوزان، إدجار في طريقه للغرق في الوحل، سوف يغرق لدرجة أنه سيتمنى العودة إليكما، لكنكما لن تعرفا ذلك؛ لأنه لن يعود مطلقًا.


تنهد براد قائلًا:
-عندما دخل الرجال، ظننت أنهم محامون وجاؤوا من أجل إرغامي على توقيع ورقة الطلاق.

-لو أردت الطلاق منك لفعلت، أظن أنني عالقة معك إلى الأبد.

وضع براد قبلةً لطيفةً على جبينها:
-وسوف تبقين كذلك يا زوجتي الغالية، فمن لي في كل هذا العالم غيرك؟

ابتسمت باربرا بينما تضع رأسها على صدر زوجها، ثم تنهدت قائلة بعد تفكير:
-لا أعلم ماذا سأفعل بكل هذا المال.

-أظن أنك الآن قادرةعلى فتح مشروع الزهور الخاص بك، لقد كنت تثرثرين بشأن هذا طوال الوقت.




بالعودة إلى إدجار، كان ما يزال منزعجًا من شدة التفكير.

ربما كان يجب عليك أن تُجري ذلك الاتصال يا إدجار، لماذا لم تفعل؟ أنت لا تحب الوداع لذا توقف عن التفكير بهما.

"تبًا لي"


فتح إدجار عينيه ليقابل السقف فوقه، وجمع حاجبيه ببعضها عندما لاحظ وجود ثُرية مُحملة بالزهور في الأعلى، وكان هذا مثيرًا للشك بالنسبة له.


همس في عقله:
"لا بد وأنهم يضعون كاميرات للمراقبة هنا."



لا تتعجب لذلك؛ وجود كاميرا أمر طبيعي وكل ما عليك فعله هو أن لا تتعرى في هذا المكان.

أغمض إدجار عينيه باستياء وقال:
-اللعنة.


هذا صحيح، لقد فات الأوان على الحذر! لقد ارتديت ما جلبوه لك هنا تحت هذه الثُرية بالضبط، يجب عليك التوقف عن التفكير في أمر محرج كهذا يا رجل، وحرك جسدك المتحجر هذا وانظر من الطارق، لا بد وأنه يقوم بشتمك الآن.


في محاولةٍ منه لعدم التفكير بأمر الكاميرا قرّر أخيرًا التوجه نحو الباب الذي تم طرقه لمدة.

فتح الباب بعصبيةٍ واضحةٍ وتحدث بانزعاج بعد أن وقعت عينيه على الممتثلة أمامه:
-أنت! ماذا تريدين؟

لقد كانت جنجر، وبالطبع برفقة صديقتيها، الثلاثي المُزعج، يقف أمام مخدعك يا إدجار، يا للروعة المُروعة.


هزت كلوديا رأسها بالنفي بمجرد رؤيتها إدجار، وكأنه عدوها منذ الأزل، فتحدثت مع تحركها:
-فقط انسي الأمر.

التحقت سوزان بها في محاولة إعادتها، وهذا لم يمنع جنجر من الاستمرار بالحديث عما جاءت من أجله:

-سيدي، أنا أعتذر، لم أعلم أن هذه غرفتك.

-فقط قولي ماذا تريدين؟

-لا يوجد تغطية للشبكة الخليوية في كل هواتفنا المحمولة منذ أن صعدنا الباخرة، أريد أن تتأكد إن كان هاتفك يعمل.

-لا يوجد لدي هاتف.

اعطاها إجابةً واضحةً ثم صفع الباب في وجهها، وكما حدث في المرة السابقة عادت جنجر إلى كلوديا وسوزان مُحرجةً ومُحبطةً.

علمت كلوديا أن جنجر وقعت في الإحراج مجددًا فتحدثت بعداوةٍ واضحةٍ:
-ما الذي قاله ذلك الوضيع؟

-قال أنه لا يمتلك هاتفًا!

حَكّت سوزان وجهها بواسطة إصبع الإبهام خاصتها مشاركة في الحديث:
-من الذي لا يحمل هاتفًا في هذا الزمن؟

ردت كلوديا باستياء:
-إنه كاذب، هو فقط لا يريد مساعدتنا.

تحدثت جنجر وهي تلوم نفسها:

-أنا أسفة كلوديا، لم أعلم أنها غرفته، لو كنت أعلم لما طرقتُ بابه.

-هوني على نفسك، بالطبع لم نكن نعلم؛ فلو كنا نعلم لما حدث ذلك وإن كان على جثتي.

شعرت كلوديا بالحزن الذي خيّم على ملامح جنجر، فأراحت ذراعها على كتفيها مواسية لها وهي تحثها على السير معها:
-دعك من ذلك المعتوه ودعينا نبحث عن شخص آخر، هيا لا بد وأن ابنتك تنتظر محادثتك.



-مزعجات.
هسهس إدجار عاكفًا حاجبيه بقرف وشفته العليا تميل للأعلى بامتعاضٍ بينما يبحث في أرجاء الغرفة عن حقيبته.


نظر في كل مكان ولم يجدها.

حقيبته التي يحتفظ في داخلها بمجموعة خناجره الثمينة، اختفت واختفى عقله معها.

فتح باب المقصورة وانطلق مسرعًا في المَمر دون وجهة معينة.

ثم رأى أحدهم يرتدي السواد بسترة واقية وسماعة داخل أذنه، فهمس له عقله:
"ما الذي يجعله يرتدي سترة واقية وهم لديهم كل الأسلحة؟"


خطا نحوه وقبل أن يصل شعر الرجل أنّ إدجار غاضب.


-أنت.

التفت الرجل ٩٠ درجة على صوت إدجار:
- ماذا هناك؟

-أين هي حقيبتي؟

-أي حقيبة؟

أشار بيديه على حجم الحقيبة وأضاف:
-حقيبةٌ كبيرةٌ تحتوي على عدة إسعافٍ أوليةٍ، وحقيبةٌ مصغرةٌ تحتوي خناجري، تلك الخناجر لي وحدي، أين هي تلك اللعنة؟

كانت هذه أطول جملة تحدث بها إدجار منذ أن تواجد مع البشر على هذه الباخرة.


إذًا، أنت لست بشخص متزن عندما تفقد شيئًا يخُصك أيها الرجل القوي ذو العينين البنيتين والغاضبتين جدًا.



تحدث الرجل بعد أن فهم ما يرمي إليه ذلك المتجهم أمامه ثم قال:
-سيدي، أنت لا تحتاجها.

-ومن سمح لك أن تقرر ذلك عني؟

-أنت في مسابقة وسوف يتم تقديم كل العدة اللازمة لك لاحقاً، لا يمكن لك أن تأخذ أسلحتك الخاصة، ويجب أن تبدأ المسابقة بعدل.

اقترب إدجار ليصبح وجهه أمام وجه الرجل تمامًا وبنظراته الشرسة بدا كما لو أنه سيلتهمه، فنطق من بين أسنانه المتراصة:
-الكل لديه أسلحة.

حمحم الرجل مفرغًا حنجرته بتوتر:
-لقد تم أخذها من الجميع، يا سيدي.

-ما هذا الهراء؟

حاول الرجل دفعه بهدوء عنه وأكمل:
-عليك أن تهدأ.


وعلى حين غفلةٍ، شعر إدجار بأحدهم يضرب كتفه بخشونة، فحرك جسده في مكانه مصدومًا من الطريقة الصريحة في غاية دفعه، ثم التفت ليرَ من ذلك الذي يتمنى الموت في هذه اللحظة، ولم تكن غير تلك المرأة السافلة كما يعتقدها، صاحبة النبلة والسهام.

قالت مكملة طريقها وهي تسير بطريقة عكسية بينما تنظر إليه:

-أجل أيها العاهر، لقد قمنا بتسليم كل ما لدينا، لكني سأجد نبلة أخرى في أرض الصيد وسأفي بوعدي لك.

أرسلت له سهمًا وهميًا في الهواء ثم استدارت لتكمل طريقها برفقة أصدقائها.


لا بد وأنها ستطلق سهمها لتصيب المكان الذي وعدتك به يا إدجار، إذاً على بطلنا ارتداء صفيحة من المعدن في ذلك المكان بالتحديد.


وبعد ذلك الموقف، حرفيًا كان كل من إدجار والرجل الذي معه متجمدين، و إدجار يفكر بما فعلته تلك الوضيعة منذ قليل وعيناه مفتوحتان على أوسعها، أما الرجل فكان يفكر في تعابير وجه الآخر مع الهالة الغريبة والمرعبة التي انبعثت منه.

حسنًا عزيزي إدجار، لقد حصلت اليوم على تهديد مميز، لم يحصل لك مثله طوال حياتك.

وربما حصلت على لكمات لا تحصى حطمت عظام وجهك، وحصلت على غرزات سكاكين عديدة تتذكرها جيدًا، بل لا يمكن لك نسيانها.

ومع ذلك، لا يجب أن تنسَ ما قد حدث للتو أبدًا؛ فتلك المرأة تبدو غاضبة منك كتنين ثائر.

والآن عوضًا عن التحديق الغير مبرر، توقف عن التفكير بشأن تافهة مثلها.

عاد إدجار لوعيه ولم يجد الرجل أمامه، حينها قرر الصعود فوق سطح الباخرة متناسيًا ما حدث للتو.

نظر إلى يمينه فوجد جنجر، تضع يديها على وجهها وتبكي مثل طفلةٍ بائسةٍ في نظره.

كانت سوزان تواسيها بينما كلوديا تحرقه بنظرات الاشمئزاز في عينيها وتتساءل في عقلها:
"ما الذي تنظر إليه يا هذا."

استطاع إدجار أن يشعر بكلماتها تلك، ولم يشغل نفسها بها أكثر حيث شد انتباهه خوليو، الذي كان يمزح ويتسلى بحديثه برفقة شاب آخر، حيث كانا يوجهان لبعضهما لكمات مزيفة كالأطفال الحمقى.


في وسط هذا العدد الهائل كان عقل إدجار في زُحام، استدار حول نفسه عدة مرات، ليرَ الوجوه تحدق به ولا يراها بالوقت ذاته.

ثم انطلق صوت بوقٍ جعل كل الحاضرين يصمون آذانهم، ليعقبه صوت لورلاي الذي اعتادوه:

-سيداتي سادتي، لقد وصلنا إلى جزيرتنا، حيث ستبدأ المسابقة الحقيقية، هل أنتم جاهزون لهذه المغامرة الرائعة؟

توقف إدجار عن حماية أُذنيه كما فعل الجميع، ثم رفع رأسه مستقيمًا بوقفته، لينظر إلى لورلاي _المشتعلة بالحماس_ وببغضٍ شديدٍ، كانت تقف في أعلى الباخرة، عندما كان هو يراقبها ويخاطب نفسه:

"لا بد وأنها من أطلق ذلك البوق اللعين."



وقف إدجار أمام سور الباخرة مضيقاً عينيه، وهو ينظر إلى ما تتحدث عنه تلك المتأنقة الشقراء.

أجل، إنها كما ذكرت بالضبط.

جزيرة.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي