14

الفصل الرابع عشر

بينما عقل براندون مشغول بالوصول إلى الفتاة الجامحة صوفيا، تقدمت هي مندفعة بغضب شديد نحو إدجار:
- يا لك من إبن عاهر فاسِق.

مع نهاية كلامها سددت له لكمة في الوجه، أمام أنظار أوسكار الذي كان يكسوه الرماد المتطاير كما حال الآخرين ويسعل بكثرة.

أمسك إدجار بفكه ثم جلس على الأرض، وكانت عيناه لا ترى سوى الغبار، بينما عقله مذهول من كل ما حدث: "أموات يعودون إلى الحياة! ولا أعلم كم عدد الأشخاص الذين قمت بقتلهم."



سعلت جنجر ونظفت حنجرتها وعيناها مشغولة بالنظر إلى ماتيلدا التي تلقت رصاصات كثيرة في ظهرها بعد أن زحفت، والتي أدركت أنها تنازع وليس موتها هو فقط ما يقلقها:

-ساعدوني هنا، ماتيلدا في حالة حرجة.

ركضت صوفيا نحوهما بخوف ثم جلست قرب ماتيلدا تحمل رأسها بين يديها:

-ماتيلدا، كوني بخير أرجوك..

لم يكن يُسمع لها سوى صوت همهمات مبهمة:

-إنها تحتضر، يا إلهي، ساعدوني.

شهقت ماتيلدا ثلاثة مرات ثم توقفت عن الحركة بعيونها المفتوحة و كانت صوفيا آخر من رأته.

انهمرت دموع صوفيا حزنًا على فُقدان صديقتها، ثم أطلقت صوت البُكاء، تسند يديها على الأرض حول رأس ماتيلدا وتحني برأسها فوق جبهتها.

-عزيرتي، لا تموتي هكذا أرجوكِ.


..

في عالم المجانين، إما أن تُجن معهم، أو تقتلهم جميعًا، لأنك في النهاية لن يتسنى لك المحافظة على عقلك، وعلى هذا الأساس علم إدجار أنه كان يجب عليه قتل جميع المهاجمين، وإلا انتهى الأمر به ومن معه مثل ماتيلدا.


ربما ما فعله إدجار بالنسبة لصوفيا يُعد جنونًا بحد ذاته، إلا أنه قتل من فعل ذلك بصديقتها، لا يوجد الآن ما تثأر بشأنه، لقد أصبحوا قطع لحم متناثرة.


وقف أوسكار يطرد الغبار من أمامه وهو يتحدث:
-كان لديهم ذخيرة، لقد حصلوا على أسلحة ويجب أن نستعيدها.

التفت ليجد إدجار يوجه سلاحًا عليه، والآخر على كتفه:

-سلاحان لي، وتبقى الطعام.

-هل تمزح معي؟ أنزل السلاح اللعين.

-لن أفعل.

تحرك أوسكار واستعد إدجار للإطلاق، ليقول الأول:

-أيها البغيض، كنا نُشكل فريقًا رائعًا.

-لا يوجد شيء اسمه فريق، اعطني ما وعدت به.

-كيف سأعطيه لك هنا واللعنة؟

-أنت تبقى هنا، والفتاة تذهب إلى مكانكم وتحضره.

حرك أوسكار فكه بحنق وهو يشعر بالغضب منه، لكنه أعزل، وصوفيا كذلك، لا يوجد لديه فرصة سوى الانصياع.

كانت صوفيا تسمع ما يحدث، لكنها لم تحرك ساكنًا، تظن أن هذا من حقه فهي تحب الحفاظ على الوعد، عكس أوسكار الخائن.

سمع إدجار صوت زمجرة، وبعد أن تعالى الصوت وصل لمسامع أوسكار الذي التفت خلفه وشاهد هيكل رجل يقترب مترنحًا.

بعد أن أصبحت الرؤية واضحة للجميع، ظهر لهم كارتر الذي نهض من الموت.

-بحق الله.. ما..

نطق أوسكار ثم راقب عيني كارتر الحمراوان، كان وجهه ناقصًا لكن رأسه مايزال موجودًا كما مات.

تذكر أوسكار ما قالته جنجر، وعلم أنها لم تكن كاذبة؛ الدليل الآن حي أمامه، لقد نهض كارتر مجددًا بعد أن مات أمام عينيه.

-كارتر، هل هذا أنت؟

سأل أوسكار بصوت مرتفع يخاطب كارتر والذي لفت انتباهه له ثم تقدم بسرعة نحوه وهو يزمجر.


كانت هذه ستكون نهاية أوسكار لو أن إدجار لم يتدخل، فعندما هجم عليه أطلق إدجار النار على رأسه ليقع الاثنين تباعًا على الأرض.

عندما سقط كارتر ودفع أوسكار معه، صرخ أوسكار بذعر للمرة الأولى، بدا صوته كفتاة تخاف من صرصور وجدته على يدها، تمامًا مثل تلك الصرخة.

أمره إدجار بالصمت:
-توقف عن الصراخ واخرس.


بعد نوبة الهلع فتح أوسكار عينيه وأدرك أنه بخير، ثم شاهد رأس كارتر على صدره ووجهه الناقص تنزل منه الدماء.


شعر أوسكار بالخوف والقرف، لكنه لم يجرؤ على الصراخ مرة أخرى:

-يا إلهي، أحشاؤه ظاهرة، يا للقرف، اللعنة أبعدوه عني.

لم يساعده أحد، ولم يكن هناك داعٍ لذلك فدفع جثة كارتر عنه ونهض مسرعًا ليقف بمحاذات إدجار، الذي رمقه بانزعاج واشمئزاز.

كان وجهه وما يرتديه قد تصبع بدماء تابعه الذي مات لمرتين أمامه.

-ما الذي تنظر إليه، أنت من قمت بقتله وكل دمائه الآن علي.

لم يتلقَ إجابة من سيد الغضب ذاك، ولكي يتخلص أوسكار من موقفه المحرج تقدم نحو كارتر لينظر إلى الإصابة في منتصف جبهته، بدت كما لو تم رسمها بشكلٍ متقن.

-اللعنة، هل كان..؟

-سيلتهمك؟

كان هذا صوت جنجر، والتي اقتربت وهي تعرج بساقها المصابة.

حدقت بالجثة الهامدة ثم حولت نظرها إلى أوسكار وتحدثت بشماتة:

-وليته فعل ذلك.

-سافلة.

حولت صوفيا عينيها عن المتناحران كالقط والفأر نحو صديقتها ثم سألت:
-هل ستسيقظ ماتيلدا أيضًا؟

ردت جنجر:
-على الأغلب، حتى الآن لم أرى شخصًا بهذه الحالة سوا من فريقنا.

تقدم أوسكار نحو ماتيلدا موجهًا كلامه لجنجر:
-ما الذي تتفوهين به يا امرأة؟

-أتفوه بالجنون، ولكنه جنون حقيقي، في السابق وللحظة ما ظننت نفسي أهلوس، لكن بعد أن شاهدهم غيري، أدرتك أنني في كامل قواي العقلية.

لم يستوعب أوسكار ما حدث، ولا يبدو على صوفيا أي مؤشر على تكذيب الحديث، هي تصدق ولا تصدق.

وتريد مشاهدة صحوة صديقتها المفضلة، حتى تتأكد، كما لو كان موت كارتر وفقدانه لنصف وجهه ثم صحوته لم يكن كافيًا.


تحدثت جنجر بنفاذ صبر:
-يا إلهي، كم مرة عليكم المشاهدة لكي تقتنعوا؟



كلهم حفنة من المجانين، لا يُلام إدجار على الاستعداد لكي ينفصال عنهم، والذي قبل أن يفعل ذلك التفت إلى جنجر قائلًا:

-أنت، هل تريدين الذهاب معي؟

تعجبت جنجر لسؤاله لكنها شعرت بالدعم النفسي، والاطمئنان، وهل بعد ما فعلته له يعرض عليها المساعدة!

رغم أنه كان وغدًا سافِلًا منذ أول مرة على متن الباخِرة إلا أنه الآن بدأ بتغيير صورته.



أجابه أوسكار قبل أن تنطق جنجر:

-لن تذهب معك إلى أي مكان.

رد إدجار على فوره:
-هذا ليس قرارك.

-إنها واحدة من جماعتي، هي تنتمي لنا.

-جماعة مؤخرتي، كنت ستقتلها، وتقتلني.

-لكنني لم أفعل.


-ليس بفضلك.

أجابت جنجر وهي تنظر إلى صوفيا، جنجر تعلم جيدًا أنه لولا صوفيا لما كانا على قيد الحياة.

تحدث أوسكار بغضب:
-مالذي قلته؟ هل أصبحتِ جُرذًا متمردًا الآن؟ لن يلحق بك سوى الموت والإقصاء من المسابقة، لن تحصلي على شيء.

كان أوسكار يصرخ كالمجنون، وهو يتقدم نحوها، لكن أيدي إدجار دفعته إلى الخلف وهو ينهره:

-توقف.

-وإلا ماذا؟ تقتلني؟

رد أوسكار بملامحه الصارخة بالغضب، بينما فوهة سلاح إدجار مغروسة في وجهه.


نهضت حنجر وانتشلت سلاح كُلٌ من صوفيا وأسكار حيث كانا مُلقيان على الأرض.

ثم مشت بعرجتها حتى وقفت إلى جانب إدجار لتنظر في وجه سيدها كما يزعم:

-أنا أعلن انشقاقي.

ضحك أوسكار على غبائها من وجهة نظره:

-هل يعقل أنك تفعلين ذلك دون حسابات؟ تكونين فريسة؟

لفت ما قاله أوسكار مسامع إدجار فأعطاه نظرة ساخطة في طرف عينيه ثم تقدم:
- فريسة لمن بالضبط؟!

حرك أوسكار يده ليمنع تقدم الآخر:
-أنا لا أعنيك أنت، لا تحمل الضغينة علي، لست أنا من وضعكم في هذا الموقف وأنا هنا عن طريق الصدفة، هل نسيت أنه تم طردي من تلك الباخرة؟

همست جنجر بصوت مسموع:
- بفضل سلوكك.

لم يعطه إدجار إجابة بعد إجابة جنجر الصريحة، بل نظر له بقرف يمتزج بالشَك، علم أن اقدامه على أخذه للسلاح قبل إدراك أوسكار كان أفضل شيء فعله؛ لأن أوسكار قادر على الغدر فيه.


تنهدت جنجر ثم أكملت:
-أنت واهم، بعد ما رأيته هل تظن حقًا أن ما نحن فيه مجرد مسابقة؟ هل رأيت كارتر؟! حتى الآن كل المتحولون من فريقنا!

تحركت من مكانها واستدارت وهي تعرج، لكن إدجار لم يعطي عدوه ظهره بل عاد بخطواته للخلف ببطئ.


-ربما أصابهم مرض.

التفتت مجددًا عندما تحدث أوسكار الذي بدا عليه التوتر، فأجابت:

-لن انتظر حتى يصيبني هذا المرض؛ لدي طفلة ولقد وعدتها بالعودة؛ ليس لها أحد في هذا الكون كله غيري.

لاحظ إدجار الجدية في ملامحها بينما يقضم باطن شفته السفلة، لقد بدت له مُثقلة جدًا، ورغم أنه لا يعرف شعور أن يكون له إبنًا، لكنه حتمًا يعرف شعور خسارة الأُم.

أكملت جنجر طريقها وإدجار يتابعها بطريقته الأمنة ذاتها، فصاح أوسكار بغضب:
- أنت الخاسرة.

رفعت جنجر إصبعها الأوسط في الهواء دون أن تلتفت:
-كنت ستقتلني على أية حال أيها السافل.

-سوف أفعل ذلك لاحقًا.

اختفى إدجار وجنجر من أمامه فضرب الأرض بغيض وبدأ يؤشر بيديه في الهواء:
-تلك الخائنة، لقد أخذت الأسلحة المُرقمة أيضًا.

نظر  إلى صوفيا، وكانت ما تزال تجلس قرب صديقتها، فاقترب منها وتحدث بغضب:
-هل ستظلين هنا؟ علينا أن نذهب.

-أنا أنتظر أن يحدث ذلك.

-يحدث ماذا؟

-أن تستيقظ.

-هل تصدقين ذلك؟

-هل أنت غبي جدًا أم تتغابى؟ لا أعلم لماذا أنت رئيسًا علينا حتى.

صمت أوسكار قليلًا يفكر بكل ما جرى، كان كارتر دليل حي أمامه، لكنه أبى إلا أن يتشبث بغبائه، ثم نطق مستاءًا من إهانتها الصريحة له:
-بدأت الأفعى تخرج سُمها.

رفعت بصرها نحوه بتحدي:
-ويعجبك ذلك.

-منذ البداية.

-تبًا لك.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي