25

الخامس والعشرون

استيقظ إدجار لاهثًا بعد أن شعر  ببرودة الماءِ الذي سُكب على وجهه، وبالتالي تمكن البلل من ردائه، وأطراف شعره التي التصقت بجبهته وجانبي وجهه.

ظهر استياؤه كَهِرٍ يكره البلل، وكان هذا من فِعلِ  جوناس _أول شخص وقعت عليه عيون إدجار بمجرد أن استعاد وعيه_ فعبر إدجار عن إنزاعجه مزمجرًا بهم:
_ما هذه اللعنة؟

ضحك جوناس وهو يضع الدلو جانبًا:
-إنه مجرد حمامٌ بسيطٌ لتنظيف وجهك المتسخ، لقد حان الوقت لكي تستيقظ.

-تبًا لك.

-وأنا ظننت أنك ستشكرني.

ثم أكمل مانعًا إدجار من الحديث:
-وقبل أن تنطق بما ستندم عليه لاحقًا، انظر للأجواء من حولك، أصدقاؤك برفقتنا.

-لا يوجد لدي أصدقاء.

-ربما الثلاثة لا، فهم من سلموك لنا، لكن تلك الحثالة التي برفقتك أجل، هي قتلت ريك، وأنت أكملت عنها المهمة.

ربما إدجار لا يوجد له أصدقاء، لكن السبب الذي قدمه جوناس لا يمكن التغافل عنه، جنجر وهو متورطان في جريمة مشتركة.


شعر إدجار أن سمعته قد تشوهت وأصبح لديه صديقة مزعجة قد تتحول إلى شيء مفترس بأي لحظة، الصداقة شيء مخيف بالنسبة إليه أكثر من هذا الموقف.


بعد أن استجمع إدجار شتات نفسه، كان أول شيء شعر به هو الحبال المحكمة حول معصميه، ورغم أنها مجرد حبال، إلا أنها أعطته شعور السجين في زنزانةٍ ضيقة.

لم يكن مقيدًا في حياته كلها إلا مرة واحدة من قبل، وتلك المرة كانت شيئًا لا يريد أن يتذكره، فسابقًا، هو كان محجوزًا فوق الأرض ويشد وثاقه رجل ضخم بوضع يديه خلف ظهره.

ورغم أن هذه المرة مختلفةٌ عن سابقتها، إلا أنها أعطته الشعور ذاته، الكره، الغضب، والخوف.


كانت جنجر تجلس أمامه بمسافة مترٍ واحد، تبادله النظرات وتعقد حاجبيها بخوف، وفي داخلها تتلو أدعيةّ كثيرة.

بينما كان خوليو يجلس على يسار إدجار، كانت كلوديا الواشية قرب جنجر وإلى جانبها سوزان.

شعرت كلوديا بنظرات إدجار الغاضبة تجاهها، مما جعلها تبعد بصرها عنه مع شعور الذنب الذي أكل قلبها.

جزمت في داخلها:
"لا بد وأنه يشتمني الآن"


ظنت كلوديا أن بفعلتها تلك، قد وفرت بعض الوقت لها ولأصدقائها، وربما مايزالون أحياء، لكنها شعرت أنها مسألة وقت فقط.


هذا غير أن الأجواء الثقيلة من حولها لم تكن تساعدها على عقد هدنة السلام مع ضميرها الذي يتأرجح بين شعور الاستياء والراحة.

لقد بدأ الندم يتسلل إلى قلبها، فلا يمكنها الوثوق بهؤلاء الرجال، فهم يبدون أخطر وأحقر من إدجار نفسه.


-لا تنظر لها هكذا، نحن لم نفعل لها شيئًا بعد.

خاطب فيليب إدجار وهو يحدق في جنجر ثم اقترب منها وجلس القرفصاء أمامها وكانت عينيه الخضراوين تغرق بالسعادة لمجرد رؤيتها خائرة القوى أمامه.

وأما جنجر، لقد شعرت بأنها غريقة في سعادته تلك، حيث علمت أنها ميتة لا محالة، لكنها أبقت على أمل صغير لكي يُمكنها من الصمود، ألا وهو أمل رؤية طفلتها مجددًا.



-لقد اصطدنا عصفورين بحجرٍ واحد.
عندما قال جوناس ذلك التفتت كلوديا إلى صديقتها مع شعور سيء ينغز قلبها وعلى أثر ذلك أكمل فيلب:

-هذه هي التي قتلت ريك.


سوزان كلوديا وخوليو، لم يكونوا مضطربين في حياتهم أكثر من هذا الوقت، ورغم أن خوليو سمع عن جنجر ولم يعرفها، إلا أن قلبه قد وقع من صدره، وهو يتخيل ما قد يفعلونه معها.


لم تنطق جنجر، بل اكتفت برفع بصرها مجددًا لتقابل عيني إدجار، الذي غرق برفقتها بالوحل نفسه، في النهاية هي قتلت ريك، وهو قتل ما تبقى منهم.



بينما راقب إدجار الطريقة التي نظرت له فيها، كانت ملامح وجهه تكافح سقوط الحذر، الحذر من إظهار التعاطف.

في السابق كان حريصًا على الاحتفاظ بمشاعر الغضب، فهي الشيء الوحيد الذي يجعله قويًا، لكن عندما رمقته جنجر بهذه النظرة استطاع أن يرَ أمه، وهذا أسوأ.

لقد نظرت له وكأنه الشخص الوحيد في هذا الكون، والذي يستطيع أن ينقذها، تمامًا كما نظر لأمه قبل أن تموت.

كيف؟ كيف تطلبين ذلك يا جنجر، بل كيف تجرؤين على التفكير بطلب مساعدته؟ كيف استطعت النظر له بتلك الطريقة؟ إنه مقيد ومجرد من كل شيء، متى تتوقفين عن جعل إدجار يفقد عقله؟ أم أنك لا تعلمين ذلك؟


مع البركان الذي بدأ يغلي في قلب إدجار حفرت أصابعه مكانها في راحة يده المكورة، لقد بدا وكأنه يريد تحطيم فيليب وأصدقاءه، بل سحقهم هي الكلمة التي تصف رغبته أكثر.



-انتظر، هذا لم يكن الاتفاق بيننا، أنتم أردتم إدجار وهذا هو الآن أمامكم حيٌ يرزق، دعوها وشـأنها.

لم تكمل كلوديا حديثها حتى أخرسها فيليب بصفعة أدمت شفتيها، وجعلتها قوة الضربة تميل بجسدها على كوعها فوق الأرض الترابية.

شهقت سوزان بخوف، ولم تجرؤ على إمساك صديقتها، وبدأت ترتجف في مكانها كفأر في المصيدة.

بينما نهض خوليو من مكانه مندفعًا دون إدراك  لخطورة ما قد يقوم بمواجهته، وقبل أن يتحرك من مكانه بخطوتان أعاده سايمن إلى مكانه ضاربًا له بالبندقية على صدره.

سجد خوليو على قدم واحدة وأمسك صدره الذي شعر بتحطم عظامه من شدة الألم، وانحنى فوق الأرض أمام إدجار الذي شعر بالغضب الشديد، ونتيجة لذلك حرك إدجار قدمه بشكل سريع وركل سايمن جاعلًا إياه يفترش الأرض على ظهره.

ضحك جوناس على صديقه الأحمق حيث كان يسعل وهو يحاول النهوض، والذي لم يتقبل هذه الإهانة.

وأمام نظرات كلوديا المذهولة من فعل إدجار نهض سايمن مهاجمًا بطلنا _ذو الركلة الساحقة_ باللكمات على وجهه ولم يتركه حتى سالت الدماء منه.


-هل اكتفيت أيها الوغد السافل؟

-لما لا تحاول أن تفك وثاقي أولًا ولنخضها مجددًا بشكلٍ عادلٍ تمامًا، ومع شخص بحجمك.

بصق إدجار في وجه سايمن وكانت النتيجة التسبب لنفسه بلكمة أخرى أوقعته على الأرض قرب رأس خوليو، حيث تلاقت أعينهما.

كانت النظرة في عيني إدجار غاضبة وقلقة، أما عيني خوليو بدت حزينةً جدًا وقد علقت الدموع في أطرافهما مع إحمرار الجفون.

وفي عجزه هذا ظنّ خوليو أنها النهاية، فابتسم لإدجار وفي قلبه كان هناك شيء من السعادة، كون أمره سينتهي برفقته.


هذا غير أن خوليو علم ما كان يعنيه إدجار عندما قال "مع شخص بحجمك."

  أجل أيها الفتى، ها أنت بدأت تفتح عينيك على الحقيقة الجميلة والمرة.

المُرة هي أنك لست بحجم هؤلاء الرجال، والحقيقة الجميلة أن إدجار لم يجبن، فقد ثأر لك وهذا دليل واضح أمامك على أنه يهتم لأمرك عكس ما كنت تظن، وبينما أنت تنظر في عينيه بشكل مباشر وقد تنتهي حياتكما في أية لحظة أدركتَ الآن لماذا هو لا يريدك بقربه.

لأنك ضعيف يا خوليو وتحتاج إلى الحماية، وهو لا يريد عبئًا، لقد كنت تظن أنك أصبحت رجلًا بحمايتك للفتاتين لكن كل ما كنتم تفعلونه هو الإختباء، وإن لم تختبئ ما الذي بحق خالق الحياة كنت ستفعله؟


قال جوناس من بعيد، بعد أن ألقى أغصان الشجر أرضًا:
-دعه يا سايمن.

أبعد فيليب نظراته المريضة عن جنجر وقال:
ولماذا يفعل ذلك؟ أنا أشعر أن هذا الفتى صديقٌ له أيضًا.

رد سايمن وهو يقف على قدميه:
- فلنقتله ولينتهي الأمر، لقد قتل أصدقاءنا وهذا عادلٌ جدًا.

أكمل فيليب وهو ينظر لجنجر:
-وهي قتلت ريك، صديقنا أيضًا، لا يمكن لي التفكير بما سنفعله بها، يجب أن تلاقي الميتة نفسها.


عندما قال ذلك اقتربت كلوديا من جنجر وحاوطتها بذراعيها؛ لا يهون عليها موت جنجر رغم الخطر الذي يُحدق بها من كل جانب ولا تعرف ما هو مصيرها، إلا أن غريزتها دفعتها بشعور المسؤولية تجاه صديقتها، التي كانت ترتجف في مكانها دون أن تنطق بأي كلمة، وهي تفكر بابنتها فقط وتشعر أنها النهاية.


-فلنترك أمرها لوقتٍ آخر، والمهم في هذه اللحظة أن ننتهي من هذا الرجل، خذه واقتله، ثم ألقِ به من أعلى المنحدر، لا نريد رؤية هذا، خاصة بوجود الجنس اللطيف هنا.

كان هذا جوناس الذي تحدث وهو يوزع نظرته الساخرة على الفتيات؛ ليزيد من خوفهن.

أمسك سايمن بذراع إدجار وأرغمه على الوقوف وهو مقيد اليدين:
-انهض أيها السافل.

-أنت هو السافل والجبان، دعني، أبعد يديك القذرتين.

لم يستطع خوليو أن يشاهد فقط فصرخ من مكانه:
-دعوه وشأنه أيها الجبناء، أنتم عار على الرجال.

ضحك جوناس وفيليب على كلام خوليو بينما يتم سحب إدجار بعيدًا، حينها نطقت جنجر:

-توقفوا، دعوه وشأنه، ليس هو من ألقى القنابل.

التفت جوناس لها بدهشة ممتزجة بالغضب:
-ما الذي قلته؟

-ليس هو من فجر أصدقاءكم.

-من فعل ذلك إذًا؟

بينما الجميع ينتظر إجابتها كان إدجار من ضمنهم، وشعور سيء يخالجه.

-إنها أنا.

تحت صدمة صديقتيها وخوليو وإدجار، ضحك الرجال الثلاثة وسخروا منها كثيرًا، ليرد جوناس:

-أجل هذه كذبة جميلة لإنقاذ رجلك، لا تحاولي.

-أنا لا أكذب، إنها أنا، تمامًا كما قتلت ذلك العاهر والمغتصب الذي تزعمون أنه صديقكم، وهل تعلمون كيف قتلته؟ لقد تركت الكلاب المسعورة تنهش لحمه.

وجه جوناس البندقية نحو رأس جنجر التي استفزت الجميع بحديثها، ومنهم فيليب حيث كاد يهاجمها لولا ما فعله جوناس.

صرخ فيليب:
-عاهرة وضيعة، قولي الحقيقة الآن وإلا انتهى أمرك.

كانت كلوديا تضم جنجر ولا تدعها رغم محاولة جنجر إبعادها حتى تكون بخير:

-ابتعدي كلوديا، لا تقحمي نفسك بالمشاكل.

-لا.


-إنها تكذب.
كان هذا صوت إدجار الذي أعلن حسم الأمر.

بعد أن لفت انتباه الجميع أكمل:
-هي كثيرة الأكاذيب، ولا يمكن أخذ كلامها على محمل الجد، أنا من ألقيت بالقنابل، وفي تلك الأثناء هي كانت فاقدة للوعي.


امتعضت شفتي سايمن بغضب، ثم دفعه إلى الأمام:
- هيا تحرك، أنا لم أصدقها أساسًا، لكن يسرني أنك اعترفت.


صرخ فيليب فاقدًا عقله:
-هذه المرأة، لا يمكن أن تبقَ حية، أنا سوف أقتلها بنفسي.

وقبل أن يصل إليها كان نظر خوليو مركزًا على كلوديا التي ضمت جنجر بقوة وهي تبكي، حينها جازف مجددًا ونهض مسرعًا ليقوم بدفعه بعيدًا قبل أن يطلق النار على رأسها.

بعد أن سقط فيليب على الأرض، نهض كثور هائج ينفث الهواء من أنفه، وعيناه لا تر إلا صغيرنا خوليو، ثم وجه له لكمة قوية جدًا أوقعته على الأرض وبقوة.

فصرخت كل من كلوديا وسوزان بعد أن ظنتا أنه مات.

لكنه كالأبله ضحك ساخرًا ليقول:
-يا لك من جبان، أنتم كلكم مجرد سفلة وضيعون، لستم رجالًا.




تقدم فيليب ورفع خوليو من ردائه ثم دفعه ليحاصره ضد جذع الشجرة وبخشونة:

-هل أنت رجل؟ ما رأيك أن تريني ما هو موجود خلف بنطالك؟ هيا سوف أساعدك بخلعه.

بغض النظر عن رعب ودموع الفتيات، شعر جوناس أن صديقه تمادى، لكنه حافظ على موقفه؛ فهو يعلم تمامًا أن فيليب مجرد مخبول لعين، ولجنونه درجات لا يمكن توقعها عندما يفقد السيطرة على إشباع رغبته بالسخرية من الضعفاء.

بينما يسير إدجار ليلقى مصيره، رنت كلمات فيليب وخوليو في ذهنه واستحضرت ذكرى سيئة مع كل مشاعر الغضب والحزن في قلبه، حيث شعر وكأن ما عاشه في السابق قد حدث الآن.

وعلى إثر ذلك هو لم يترك سايمن يسوقه بعيدًا أكثر، واستحوذت على أفكاره رغبته بقتل ذلك الرجل المتحرش في السابق والذي تجسد أمامه مكان فيليب.

باغت سايمن بهجوم خلفي وضربه بكوعه على وجهه، ولم يُدمِ أنفه فقط بل كانت ضربته ساحقة جعلته يسقط أرضًا مغشيًا عليه.



وبعيون خيم الظلام فيها التقط إدجار سكين سايمن وحرر نفسه ثم أخذ السلاح، وعاد أدراجه مسرعًا.

رأى خوليو يدافع عن نفسه بضراوة بينما فيليب يتسلى فقط وهو يخيف من حوله، وهذا المشهد زاد من بشاعة الذكريات في ذهن إدجار.

لم تنتهِ ضحكة فيليب بشكل طبيعي؛ لقد أخرسته الرصاصة التي ثقبت رأسه وطرحته أرضًا على جانبه، قرب قدمي خوليو.

نظر خوليو إلى جثة فيليب، ثم التفت ليرى إدجار يقف بعيدًا وهو يحمل سلاحًا بيد واحدة، ورغم بشاعة منظر فيليب أمامه إلا أنه استطاع رؤية إدجار كبطلٍ خرج من قصة خيالية.



أهلا بك باللعبة الحقيقية يا خوليو، لقد انتهت لعبة الاختباء خاصتك.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي