15

بالنسبة للرجال الثلاثة، والذين  قاموا بدفن ريك، كان جوناس، يمشي مُسرعًا ورفاقه يحذون حذوه، فتوقف عندما رأى شخص يعرفه مُضجرًا بالدماء يمشي نحوهم ثم صاح باسمه:
-هانسن! هل هذا أنت؟!

جرى الثلاثة نحو المدعو "هانسن"، والذي كان حاله كمن خرج من معركة طاحنة، وفور وصولهم له نطق:
-لقد ماتوا جميعهم يا جوناس.

ثم خَرَ هانسن على ركبتيه ليتبعه الآخر ممسكًا به وهو يريحه على ركبتيه سائلًا له:
-ماذا حدث؟ أخبرني يا أخي.

ابتلع هانسن ما في حلقه ونطق:
-إنه ذلك الوغد غريب الأطوار، هل تتذكره؟

-من تقصد؟

-من السفينة، عندما كان ماوث يتشاجر مع أحدهم.

أومأ جوناس، وتذكر عندما رفع رجل غريب الأطوار قدمه ليعبر من فوق المدعو ماوث ومن كان يتشاجر معه دون أن يعطي ذرة اهتمام.

-أجل، أتذكره.

-لقد كنت بعيدًا عن أصدقائي، عندما قام بقذف قنبلة في الهواء، في المرة الأولى لم أشعر بشيء لكن الثانية كانت مؤذية بشدة.

-ماذا تعني؟

-لقد ظننت أن الأولى هي الوحيدة، حينها اندفعت كي أرى أصدقاءنا، وقبل أن أصل قذف ذلك الوغد الثانية نحوهم فأعادني ضغط الانفجار إلى الخلف، آه.

بكى كُلٌ من جوناس وهانسن الذي أكمل وهو يتأوه:
-لم يتبقى منهم شيء ندفنه.

تحدث الثالث:
-عليك أن ترتاح، لا يجب أن ترهق نفسك الآن.

هز هانسن رأسه معترضًا:
-لا، فيليب.

ثم سَعل وأكمل:
-أنا بخير حقًا.

لم يكن هانسن يعي ما يحدث له، كان ينزف كثيرًا من خاصرته حيث تخترقها قطة خشب عريضة، جعلت الدماء تسيل من فمه وهو يردد:

-أنا بخير، أنا بخير.

حمله أصدقاءه وجعلوه يسند ظهره ضد جذع شجرة، ثم جلسوا حوله  يُجبرون أنفسهم في محاولة بائسة لإخفاء حزنهم.

أمسك "فيليب" بيد هانسن والذي بدأ يغلق عينيه ويفتحهما بثقل شديد، فتحدث بخوف على صديقه:

-يجب أن نفعل شيئًا، يجب أن ننقذه، لا يمكن أن نفقده.


كان جوناس يحاول أن يرد على فيليب لكن الكلمات خانته، يريد أن يبصق ما في حلقه ولا يريد، هو فقط نظر إلى الجرح في خاصرة هانسن لكي يُذكر فيليب الذي تتبع نظره بأنه لن ينجو.

ابتسم هانسن بتعب:
-فيليب توقف عن البكاء كالنساء، أنا ما زلت هنا.

عض فيليب على شفتيه:
-أجل يا صديقي.

-أين سايمون؟ لا صوت له.

أدرك أصدقاؤه عدم قدرته على تحريك عنقه ورأسه، لقد خارت قواه بسبب كمية الدماء الكبيرة التي خسرها.

-أنا هنا، ماذا تريد أن تقول؟

كان "سايمن" بارد الملامح، رغم حزنه الشديد إلا أنه استطاع ارتداء قناع الهدوء أمام صديقه الذي أصبح في معركة مع الموت.


-عُد إلى البلدة منتصرًا، هل يمكنك أن تعدني بذلك؟

-ما لم يتم أكلي بتلك الطريقة التي حدثت لريك! أجل، أنا أعدك.

رغم الدماء التي تخرج من فم هانسن وأنفه لتخنق مجال تنفسه إلا أنه استطاع أن يعطي ضحكته الأخيرة.


ثم غادر، لتغادر الدموع عيني سايمن، الذي اطبق فمه وخنق البكاء، على عكس فيليب الذي عبر عنه بصراحة وأجهش فيه.

أراح جوناس رأسه على كفيه، وهو يتذكر إدجار الذي تحدث عنه هانسن، كان قد التقى به منذ عامين ونصف وأصبح يعرفه لفترة قصيرة ثم افترقا.

لكن عندما رأه هنا مرة أخرى، لم يتجاوب الآخر  معه بل تصرف وكأنه لا يعرفه، لذلك لم يقترب منه.

-ذلك الوغد، سوف اقتله.

نظر فيلب وسايمن إلى جوناس باستفهام ثم أكمل:
-أنا أعرف الرجل الذي تحدث عنه هانسن، اسمه إدجار.


من الجهة الأخرى لجذع الشجرة الكبيرة، حيث يكون جُحر الأرنب، كان خوليو والفتيات يحاولون عدم التنفس.

لقد شعر خوليو بالحِمِية تدب قلبه وعقله حين تم ذِكر اسم إدجار، وأصبح يعلم تمامًا أنهم ساعون خلفه للنيل منه.



-دعونا ندفن هانسن، ثم نذهب لتفقد باقي الأصدقاء.

-لقد قال أنه لم يبقى منهم شيء يا سايمن.

نظر سايمن إلى فيليب وتحدث بأمر:
-يجب أن نتفقدهم، وإن تبقى إصبع واحد سوف ندفنه، لن أترك أعضاءهم للحيوانات الجائعة.

تدخل جوناس:
- معك معك.
ثم نظر إلى هانسن، يسألهم:
-هل سندفنه هنا؟

عندما سمع من في الأسفل ذلك تسلل الرعب إلى قلوبهم، وهم يتخيلون سقوط جثة بينهم قريبًا، هذا إن لم يتم اكتشاف أمرهم قبلها.


تكورت سوزان على نفسها وألصقت رأسها في جانب خوليو وما كان عليه إلا أن يحاوطها بذراعه، وكفه الأخرى تمسك بكف كلوديا.

نطق سايمن معترضًا:
- لا، كيف يمكن لنا دفنه هنا؟ قد يمر البعض من هذا المكان ويدهسون قبره فلنأخذه معنا، يجب أن يبقى قربنا، هو ينتمي لنا في النهاية.




في تلك الأثناء وصلت سيارة جيب رباعية إلى مكان الإنفجار، كان أوسكار يضع قشة في فمه ويراقب صوفيا التي تبدو كمجنونة وهي تراقب صحوة صديقتها.

عندما رأى السيارة تقترب هَبَّ على طوله، سعيدًا كمن كُتبت له حياة أخرى:
-لقد جاؤوا أخيرًا.

خرج براندون من السيارة برفقة ثلاثة رجال، كان ينظر إلى الدمار من حوله والأشجار التي تَبَقى فيها القليل من النيران، والحمد لله أن نيرانها لم تتكاثر حيث هبطت على أرض موحلة.

أبصر براندون أوسكار فتقدم نحوه على عجلة في أمره، وقبل أن يسأل عما حدث تلقاه أوسكار بالحديث المباشر:
-وصلتم أخيرًا.

ثم أشار بإصبعه الإبهام خلفه:
-تلك الصوفيا ترفض الحراك.

بدا على براندون القلق واضحًا:
-أين هي؟


-إنها هناك في الخلف.

توجه براندون نحوها وما أن شاهدها حتى جلس القرفصاء قربها، فظهر الحزن على وجهه ما أن عرف ماتيلدا.

-يا إلهي!

قال ذلك واقترب من صوفيا ليسألها بصوته القلق:
-هل أنت بخير؟

-أجل، لكن ماتيلدا ليست كذلك.

احتضنها براندون من الخلف وغلفها بجسده مطبقًا ذراعيه حولها.

-أنا آسف.

أسقطت صوفيا رأسها تغمض عينيها براحة شديدة وهي تغمس انفها في ذراعه، هي لم تكن تعلم أنها محتاجة له حتى وصل، وما هي إلا ثوانٍ حتى قالت:


-أنا حامل.

بالنسبة لبراندون لم يسبق وأن كان مصدومًا بهذا الشكل من قبل، هو لم يتحدث، بل احتضنها بشدة حتى ابعدته عنها.

ثم قالت وهي تتحسس وجه ماتيلدا:
-هي لم تستيقظ.

-عزيزتي، الأموات لا يستيقضون.

-ولكنني رأيت كارتر، لقد استيقظ بعد أن مات.

ارتبك براندون ولم يعلم بماذا يجيبها، لقد ظن أنها فقدت عقلها، حتى جاء صوت أوسكار المزعج.

-أجل، لقد رأيته أنا أيضًا، رغم أنني أريد نسيان ذلك.

-ما الذي تقوله؟

-لقد كان ابشع من قبل، إلهي!

رفع براندون وجهه الشاحب نحو أوسكار والذي تابع ساخرًا:
-أغلق فمك قبل أن يسيل اللعاب منه.

أغلق براندون فمه وهز رأسه مستنكرًا من الحديث وحرك إصبعه نحوهما على التوالي:
-هل أنتما واعيان لما تقولانه؟

-أعلم أن هذا يبدو لك جنونًا، لكن هذا ما حدث.

حرك أوسكار كتفه في نهاية كلامه، ليعقبه صوت براندون:

-لماذا لا تستيقظ ماتيلدا إذًا؟

-بصراحة!! عدم استيقاظها يُريحني؛ نحن لا نريد ميتًا غاضب يعود كي يلتهمنا، وخاصة هي.

قال أوسكار ذلك مضيفًا كمية ثقيلة من السخرية على قلب صوفيا التي أصابها الغثيان منه.

فنهض براندون متزامنًا مع صوفيا ثم قال:
- أنا لا أفهم شيئًا.

كانت صوفيا تفكر بما الذي قد حدث حتى لم تستيقظ صديقتها:
" ما الذي اختلف؟"

ثم تبادر إلى ذهنا الآتي وتحدثت به بصوت مسموع:

-هي لم تأخذ حقنة اللقاح.

-أية حُقنة؟

سأل أوسكار وملامح وجهه لم تكن أقل فضولًا من براندون.

-اللقاح، ماتيلدا تعاني من حساسية شديدة من علاجات كثيرة، وعندما دخلت معي إلى غرفة اللقاح غادرت دون أن تأخذه.

ظهر القلق بصحبة خيبة الأمل على وجه أوسكار، ويا لك من مسكين؛ كنت تظن أن ما حدث لكارتر وجنودك الثلاثة محض صدفة أليس كذلك؟ الآن أنت تعلم بأنها ليست كذلك، أنت أخذت اللقاح، وشاهدت كارتر وجاكس وهنري عندما أخذوه كذلك.

نطق أوسكار بغضب:
-اللعنة.

-هل ستخبرونني بما يجري؟

سأل براندون بقلق شديد، ثم استدار أوسكار حول نفسه بحالة قلق، وهو يمسح وجهه ورأسه ثم خلف عنقه.

صاح رجل من بعيد يقطع عليهم صدمتهم:
-سيدي، علينا الذهاب؛ الظلام سيحل قريبًا.

-هيا بنا.

قال أوسكار ذلك وتقدم في طريقه، لكن صوفيا لها رأي آخر.

-لن نتركها هنا، سوف نأخذها معنا وندفنها.

أجابها أوسكار قبل أن يدخل السيارة:
-تصرفي كما يحلو لك.

-ذلك البغيض الجبان.

شتمه براندون ثم اقترب منها وهبط بكفه على كتفها:
-سوف أساعدك، لا تقلقي ولا تهتمي لذلك المهرج.






بالعودة إلى تلك الشجرة الكبيرة، حيث يختبئ الثلاثة أسفلها.



سألت سوزان وهي تجلس بين خوليو وكلوديا:
-هل علينا أن نخرج؟


أجابها خوليو:
-لن تكون فكرة جيدة، فلننتظر صباح الغد، لا يمكن توقع أي حيوان قد يهجم علينا في هذا الظلام.

-أو بَشَّري.
نظر خوليو إلى كلوديا التي تحدثت بخوف، ثم قال:

-أنت محقة.

التفتت سوزان نحو كلوديا وقررت النوم على ذراعها:
-أنا خائفة يا كلوي.

مسحت كلوديا على شعرها برفق:
-لا تخافي، لا يوجد لدينا مشاكل مع أحدهم.

سمع خوليو ما قالته وفي نفسه يشعر بمسؤولية "غبية" كما سيعتقدها إدجار.

لديك رأي آخر عن ما قالته كلوديا يا خوليو، بالطبع أنت تظن نفسك في مشكلة مع أحدهم، فأمر إدجار يهمك ولا تعرف لماذا!


عليك أن تفكر بحل لتلك المشكلة، وبينما أنت تفعل ذلك احرص على أنك لن تلاقي حتفك؛ فإدجار لن يكون مسرورًا في حال ظهرت أمامه مع كومة من المصائب، لقد اعطاك تهديدًا صريحًا في المرة السابقة، ولن يكون شاكرًا، فربما أنت ستزيد الأمور سوءًا لا أكثر.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي