23

الثالث والعشرون


رغم استعداد أوسكار، إلا أنه كان ذكيًا عندما قرر أن يحتمي ولا يتدخل، حيث قلب الطاولة بسرعة، واحتمى خلفها.

في تلك اللحظات المعدودة تمكن براندون من قتل اثنين من رجال باد وبالمقابل تلقى هو إصابة في جانب خَصْره الأيمن، ليحتمي بعدها خلف المكتب.


لابد وأنك بارع جدًا؛ لتتمكن من إصابة شخصين في اللحظة ذاتها، وفي نفس المكان يا براندون، لقد نلت إعجاب باد، الذي علم أنه لولا قصر قامته لمرت الرصاصة من خلال رأسه؛ حيث كانا يقفان أمامه خلف بعضهما.



ألقى أوسكار نظرة خاطفة فوجد براندون خلف المكتب وهو يمسك بيده خاصرته المضرّجة بالدماء، وبالأخرى مازال يحتفظ بسلاحه.

التفت براندون برأسه يمينًا، ينظر في عيني صوفيا التي كانت دموعها تنهمر بالفعل.

ما الذي يبكيكِ يا صوفيا؟ وضعكم المزري واحتمالية موت جنينك؟ أم إصابة الرجل الذي تحبينه، أم ربما لأنكما قد تموتان الآن؟

أم لأنه كان يخفي عنك حقيقته؟ أنت محاصرة من كل جهة وفي موقف لا تُحسدين عليه البتّة، مسكينة أنت.


أين إدجار؟ حتى يتسنى له فرصة السخرية منك.

وبالحديث عن الذئب، ها هو يسير خلف جنجر، والتي كانت ما تزال تعرج بمشيتها.

-هل أنتِ بخير؟

ابتسمت لسؤاله:
-يصدمني أنك تسأل!

-أحتاج أن أصل إلى خناجري، لا ترفعي سقف أفكارك.

التفتت جنجر نحوه ثم ضحكت ساخرة:

-أفكاري؟ صدقني، أفكاري لا تتخطى ما هو متوقعٌ منك، وما أفكر به الآن أنك تحتاج إلى مضادات حيوية كما أحتاجها وكما تحتاجها آنا وسوف نحصل عليها ثم نذهب إلى المقر.

-ليست في المقر؟

-إنها في المقر، لكنني أخذت بعض الأدوية لنفسي، وضعتها في حقيبة مع مستلزمات أخرى في كوخ.

-أين هو ذلك الكوخ؟

-بعد أن نصل إلى هناك.

فردت ذراعها مشيرةً إلى الاتجاه، وبعد أن وصلوا إلى الكوخ دقق إدجار نظره في الألغام المزروعة حوله:

-ألغام!

تقدمت جنجر قبله:
-ليست كلها فعالة.

-هذا واضح، من يريدها فعالة لن يضعها في الأعلى، إنها كالفزاعة، ألعاب تمارسونها فقط.

-أنت ذكي.

-كم عددها؟

-الفعالة؟ واحدة فقط، هذه خدعة كما قلت أنت، ابتكرها أحد زملائي.

بعد أن قالت ذلك تذكرت زميلها المسعور جاكس، الذي وضعت الوتد في صدره وألقت به من أعلى المنحدر.

هزت رأسها تطرد أفكارها مع شعورها بالذنب، لكن الذكريات أبت أن تغادر عقلها.

تذكرت جاكس عندما كان حيًا، كان يتصرف بلطف ويعبر لها عن مشاعره بغمزة سريعة في طرف عينه كلما رآها.

وهذه الذكريات لا تفعل شيئًا سوى زيادة الثقل على كاهلها، بل تجعل رغبتها بالبكاء شديدة رغم مقاومتها.


كان يروق لك يا جنجر، كما كان هو مُعجبًا بك أيضًا، كم هذا مأساوي وفظيع أيتها المسكينة.



ضغطت بإصبعيها أعلى أنفها وأعطت نفسها دقيقة لأجل التماسك.

هذه طريقتك في كبح دموعك؟! إذا كانت هذه هي فإن إدجار استطاع أن يلاحظها، هو لا يعرف السبب لكنه أدرك حزنك الشديد.

ربما يكون وغدًا أنانيًا ولكنه ليس غبيًا، ولن يزعج نفسه بسؤالك، فهو لا يريد أن يُشغل نفسه بشخص آخر سواه.

تمامًا كما تجاهلها وتقدم نحو الكوخ، فبالنسبة له لا يوجد وقت للمشاعر الممزقة الآن.

-أين هو الطريق الآمن؟

تنفست جنجر بعد أن استعادت وعيها لترد عليه:
-من هنا.

توقفت عن السير ونظرت إلى إدجار خلفها:
-ربما عليك البقاء هنا، سوف ألتقطها وأخرج.

-حسنًا، ولا تلعبي.

-حقًا؟ بعد كل ما جرى؟! يا لك من رجل.

دخلت جنجر إلى الكوخ ونظرت إلى الزهور المتناثرة، ثم سمحت لنفسها بالبكاء.

لقد تسللت الذكرى إلى ذهنها مجددًا، عندما وجدت جاكس وهو يقوم بوضع تلك الزهور لها.

في البداية كانت تجدها كلما دخلت لتنوب بعده، وكل مرة كانت تجدها بمكانها، ولكنها في المرة الأخيرة استطاعت أن تراه وهو يضعها بعناية.

حينها هي لم تدخل إلى الكوخ، لقد تركته يفعلها مثل كل مرة ودخلت بعد أن خرج وابتعد.



-ماذا يحدث معك؟

أعادها صوت إدجار الخشن إلى الواقع، فأخذت الحقيبة وخرجت إليه.

-لقد وجدتها.

تحت مراقبته لجفني عينيها الحمراوين، فتحت هي الحقيبة وأخرجت قطعتان من الخبز المحشو بالمربى.

-تفضل، لا بد وأنك جائع.

أخذ إدجار حصته وشم رائحتها قبل أن يحشر أول قضمة في فمه.

-أنتم مُدللون هناك، مربى! وخبز!

شعرت جنجر بالسوء من طريقته بالحديث لكنها كانت شجاعة بدورها:

-ما يزال هناك الكثير، إذا كنت تريدها أستطيع مساعدتك، ففي النهاية لا أنت ولا نحن من دفع ثمنها وبالتأكيد لستُ أنا من أعطاها لهم، لا تلمني لأنك كنت في الخارج، في نهاية الأمر توضح لك أن من في الخارج وضعهم أفضل، وليتني لم أذهب إلى هناك.

هزت جنجر رأسها بحزن وهي تحتفظ بالصمت فقد شعرت أن كلما تحدثت به لم يعد ذا أهمية.


-لم يكن لديك خيار آخر، لا تقسي على نفسك.

تعجبت جنجر من مواساته لها؛ هو لا ينكف عن جعلها في حيرة في كل مرة، كما سينصدم هو الآخر في النهاية بعد أن تقوم جنجر بتحليل تصرفاته ورميها في وجهه كالمرة السابقة.

نظرت في عينيه مباشرةً:
-لا، لقد كان لدي، لكنني لم أفكر جيدًا؛ كُنت خائفة، كان يجب أن أذهب إلى الغابة بمفردي، تمامًا كما فعلت أنت، لقد رأيتك هناك، لكن في النهاية لا يوجد هناك فرصة ثانية، ولا فائدة من الندم.


توقف إدجار عن الأكل، لم يستطع أن يسألها لماذا لم تلحقي بي؛ فماضيه معها لا يشجعه على ذلك.

لقد كنتَ فظًا ووقحًا تُعامل من يقفٌ أمامك كحشرة، وخاصة هي، لا تظهر الندم الآن، فكما قالت جنجر الندم لن يكون ذو فائدة، لقد حدث ما حدث وانتهى.



قبل أن ينطق إدجار ضربت جنجر صدره بعلبة ماء صغيرة، وكانت ما تزال تمسك بها:
-خذها.

أخذها وراقبها وهي تُخرج أقراص الدواء من علبة صغيرة بيضاء.

-افتح يدك.

امتثل لطلبها وبعد أن رأى الدواء في راحة يده ابتلع حبتين وشرب الماء خلفهما.

-هذه الأقراص مفعولها خفيف، لدينا حُقن مضادة للإلتهاب مُعبئة وجاهزة في المقر، كل الأدوية والمؤن في المخزن ولا بد وأن خناجرك هناك أيضًا.

-هذا جيد، كم هو عدد الأشخاص هناك؟

-مات ٤ أشخاص من المئة، وأنا الخامسة، بقي ٩٥ شخصًا الآن.

-٩٤.

-ماذا؟

-الفتاة التي كانت تقود.

-آه ماتيلدا! لا بد وأنها لم تنجو، هذا مؤسف.

ثم تحدث كلاهما بنفس الوقت بعد أن تذكرا أوسكار:
-٩٥.

نظرا إلى بعضهما في غرابة، ثم أكملت جنجر:
-إنه رقم ١٠١.

-ذلك الوغد السافل، لا بد وأنه يعرف شيئًا.

-ذلك المهرج؟ إنه مخدوع مثلنا تمامًا.


أكملا سيرهما ثم عادت جنجر إلى الكلام وكان الحزن يفرض طغيانه في نبرتها:

-لا أريد أن أموت، أنا كل ما تبقى لطفلتي في هذه الحياة، لا أريد أن تُحرم من أمها أيضًا، وليس في هذا السن الصغير جدًا.


-أين الأب؟

-لا أعلم، لقد طردني قبل أن أنجبها، وأرسل لي أوراق الطلاق دون أن يسأل أو يعرف إن كانت أنثى أم ذكر، وهي الآن مريضة ولم يكلف نفسه بالسؤال قط.

-ما خطبها؟

-هي لا يمكنها أن تسير وتحتاج إلى عملية، لا بد وأنها قد أجرتها الآن، فالمبلغ الذي أرسلته كان كافيًا.

-نصف مليون؟

-مليون، لقد أرسلت كلوديا مبلغها معي، لكي تساعدني في علاجها، لكنها لم تخبر سوزان، ولم تسمح لي أن أخبرها أيضًا، في ذلك الوقت لم أكن أعرف لماذا، ولكن بعد أن تم التخلي عني من قِبل سوزان، أظن أنني فهمت، أنا شاكرة لكلوديا.

-سليطة اللسان تلك؟

ضحكت جنجر:
-وكأنك أفضل؟ أتعلم شيئًا؟

-ماذا؟

-كلكم مجانين، كل واحد منكم دون استثناء.


وفي حين انشغالهما بالحديث ظهر أمامهما خوليو كما لو أن الأرض انشقت وأخرجته من حيث لا يعلمان، وكانت تعابير وجهه توحي الصدمة وتوضح ما كانت تتحدث عنه جنجر التي ضحكت:

-ها هو شخص جديد يثبت أنه مجنون آخر على هذه الجزيرة.


لم يأبه خوليو بالإهانة المباشرة، ثم همس مع ملامح خوفٍ تتراقص في وجهه:
- اللعنة، ما الذي تفعلانه هنا؟!

قال ذلك بالتزامن مع ظهور كلوديا وسوزان من خلفه، حيث كان فيليب خلفهم أيضًا إلا أنه لم يخرج من خلف الشجيرات بعد.

وبينما إدجار يتفحص وجوه الثلاثة مع شعور مريب، سألت جنجر:
- نفس السؤال لكم؛ المكان خطير، ما الذي تفعلونه هنا؟

تجاهل خوليو حديثها محدقًا في وجه إدجار:
- عليك أن تهرب، ابتعد، اذهب من هنا..

قاطعت كلوديا مهمة خوليو النبيلة وهي تصرخ:
-ها هو هنا.

سأل فيليب والذي كان في شجارٍ مع أغصان الشجيرات التي أعاقت تقدمه:
-من؟ من تقصدين؟

-إنه إدجار، تعال إلى هنا بسرعة.

نظر إدجار إلى وجه كلوديا بتعجبٍ واحتقارٍ شديد.

بدا لها أنه لم يكن على علمٍ بما يجري، ولا يعلم أيضًا بوجود أشخاصٍ يبحثون عنه؛ لأنه وببساطة قد ظن أنه تمكن من قتل كل المهاجمين في المرة السابقة.


دحضت كلوديا مشاعر الندم في قلبها ثم أعطته نظرة باردة تقول الآتي:

"كما لو أنك أفضل أيها الوغد؟"
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي