3

الفصل الثالث

قبل أن يصعد إدجار إلى سطح الباخرة تسللت الموسيقى إلى مسامع أذنيه، كانت صاخبة، ضارية، تناسب حفنة المعتوهين الذين كانوا يقفون أمام فرقة العزف والغناء، يفتعلون المشاكل بتصرفاتهم الحمقاء والطائشة.

بالنظر للجو المحيط يبدو أن الأمور ستخرج عن السيطرة قريباً، ما رأيك لو أنك تعود أدراجك يا إدجار؟ سوف تكون مرتاحًا بابتعادك عن كل هذا الصخب الذي يخرج من الرؤوس البشرية.

لكن لا تنسَ أن هذا يعني أيضًا أنه سيتم إقصاؤك.

وفي حال أنك لن تعود خوفًا من أن تسبب الإقصاء لنفسك، فعليك أن تجد لنفسك مقعدًا وتلتصق به حتى ينتهي هذا الهُراء، لا تقف هكذا في الوسط كالأبله.




وبالفعل انتقى إدجار المكان الذي يعجبه حيث توجه إلى الساقي الذي يقف خلف المنضدة.


-ألا يوجد هنا وحدةٌ من أجل مكافحة الشغب؟ شرطة مثلًا، أوحُراس.

سأل إدجار الرجل الذي يقف خلف المنضدة والتي تمتد طولاً لما يقارب ثلاثة أمتار، وخلفه حيث يقف يوجد مبردًا يحتوي على جميع أنواع المشروبات.

ابتسم الرجل اليافع ذو الشعر الأبيض حديث الصبغة وقال:
-وهل نحتاج إليهم؟

نظر إدجار إلى مجموعة الرجال أمام فرقة الغناء، وكذلك فعل الرجل ذو الشعر الأبيض، وتبين لهم أن المغنية كانت تبدو خائفةً بالفعل من ذلك الرجل الذي يعبث حولها ويخيفها بمحاولة إمساك ساقها كل حين.

فهمّ الرجل ما يرمي إليه إدجار؛ فقال بنبرةٍ واثقةٍ:
-لا يجب عليك أن تقلق بشأنهم، فكل من على هيئتهم سوف يتم إقصاؤهم بسرعة.

أخذ الصمت صوت إدجار لثانيتين ثم تحدث:
-وهذا يجعلني أفكر بشيء مهم.

رفع الرجل بصره في وجه إدجار الذي أكمل:

-نحن في منتصف البحر، وأتساءل أين سيذهب من يتم إقصاؤه؟!

صمت الرجل لوهلة بينما يراقب ملامح إدجار ثم أجاب:
-سيعود بأمان بقارب صغير إلى اليابسة.

رغم انتظار الرجل ردة فعل إدجار إلا أنه لم يقل شيئًا، كان فقط ينظر إلى الآخر وينتظر أن يقول له بأنها مزحة لعينة، ولكن هذا لم يحدث.

عاد إدجار بجسده إلى الخلف مستقيماً بظهره على ظهر المقعد:
-هذا جزاءٌ..

أكمل الرجل عنه:
-غير عادل؟

-أجل، إذ يمكن الاكتفاء بعدم احتساب أي نقطة، ألا تظن ذلك؟ من هذا الذي سيوافق على العودة لوحده في قاربٍ صغيرٍ وفي منتصف المحيط؟

ضحك الرجل مطمئنًا للآخر:
- أه، لا تقلق بشأن هذا، لن يعود المقصي لوحده، بل سيذهب معه شخصٌ ما من الطاقم بلا شك.

ثم ابتسم الرجل وكأنه يتحدث عن شيء بمنتهى البساطة فسأل إدجار:

-فقط هكذا؟

-فقط هكذا.

بعد قليل توقفت الموسيقى، وكانت المغنية سعيدةً جداً كما لو أن طوق النجاة قد أُلقيَّ عليها لتهرب من المنصة على فورها، حينها بدأ العازفون بالانسحاب واحداً تلو الآخر مما جعل البعض يبدأ بالتذمر؛ لقد ذهب مصدر تسليتهم الذي استمر لبضع ساعات.

تقدمت على المنصة امرأة أنيقة المظهر، ترتدي معطفًا طويلًا من الجلد الأسود يصل إلى أسفل ركبتيها، وتنورةٍ تحاذيه طولًا، على شفتيها أحمرٌ لامع والظل فوق عينيها كلونهما الأخضر، شعرها الأشقر لا يتجاوز أُذنيها، ولديها تلك الملامح الباردة، كما لو كانت ترتدي قناعاً من اللامبالاة.

وزعت نظرها على الحضور ثم أردفت:
-سيداتي سادتي عمتم مساءًا جميعًا، أنا لورلاي، المقدمة والمشرفة عليكم، في المستقبل سوف تسمعون صوتي كثيراً.

أثناء تسجيل أنفسكم للتقديم قام الحاسوب من خلال الكاميرا بتسجيل وجوهكم مع أسمائكم كلها، لذلك لن يكون صعبًا عليَّ أن أنادي كل شخصٍ منكم باسمه بمجرد أن يظهر أمامي.


أشارت "لورلاي" بإصبعها نحو كاميرا معلقة في السقف فوقها، كانت تدور تزامناً مع كلامها، جاعلةً من إدجار يرفع أحد حاجبيه باستنكار، ويبدو أنه لم يكن يعرف هذه المعلومة.

العلم متقدمٌ كثيراً يا إدجار، لقد كنت تختبئ بين الجحور وتحني رقبتك مغلقًا عينيك عن كل شيء يحدث في العالم، لا تعطنا هذه النظرة البلهاء على وجهك، إنك تبدو كمن جاء من العصر الحجري.

لحظة! هل أنت تظن أن هذه الكاميرا موجودة في مقصورتك أيضًا؟

حسناً، لو كنت في مكان المشرفين لوضعت كل وسائل المراقبة، فأنتم مجموعة من الجامحين وقاطعي الطُرق والحمقى، من عساه يثق بكم؟

شدت لورلاي مسامع إدجار مجددًا وهي تقول:
-أهلاً بكم بالمسابقة الأضخم والأولى من نوعها، مسابقة الصيد.

ختمت جملتها برفع كلتا يديها؛ لتحاذي الكف مع الكتف، وكانت مبتسمة بفخر.

-ياله من اسم فريد من نوعه.

تحدث أحد المستهترين ثم قهقه بسخرية؛ ليضحك جميع من حوله معه.

ردت لورلاي بهدوء:
-أجل، الاسم تقليدي جدًا، لكنها في النهاية مجرد مسابقة للصيد، احترنا ماذا نسميها فقررنا البقاء على ما هو تقليدي.


لم يعرف ذلك الهمجي كيف يرد على أسلوب لبق كهذا، فقرر أن يسترسل بالتهريج والضحك الغير مبرر.

ما الذي تفعله يا رجل؟ أنت تُحرج نفسك، أغلق فمك.


تحدثت لورلاي بينما تنظر إليه:
-سيدي، أطلب منك الهدوء وأن تدعني أُنهي حديثي.

لم يُعطها أي اعتبار، فأعادت طلبها مرة أُخرى بنبرة أعلى، إلا أنه رفض قائلًا:

-لا، إما أن تعيدوا فرقة الموسيقى مع المغنية، أو يمكنك التمايل هنا والآن أمامنا يا عزيزتي، نحن لا نريد أن نستمع لهذا الهُراء، وإذا فكرتِ في الأمر فأنا أستطيع أن أكون مغنيًا من أجلك فقط.

مع نظراتٍ مثيرةٍ للغثيان توضح ما لديه من رغبات حقيرة، مد يده وأمسك بساقها العارية من الأسفل.

-يا لكِ من امرأة جميلة جداً، ما رأيك لو تخلعين هذا المعطف وتقدمي لنا عرضاً مثيراً

أنزلت نظراتها إلى وجهه المثير للغثيان وهو ينظر إليها ويبتسم كشيطانً لعين، ضغطت على السماعة في أُذنها ثم ابتسمت بلطف، كانت نظراتها خالية من أي مشاعر:
-سيد أوسكار، هذا هو اسمك صحيح؟

-في خدمتك.

-لقد تم إقصاؤك.

بمجرد أن انتهت من كلمتها الأخيرة حتى اختفت الابتسامة عن وجهه، وتزامنًا مع ذلك اقترب منه بعض الرجال المدججين بالسلاح وقاموا بتوجيه تلك الأسلحة نحوه.

رفع "أوسكار" يديه وعاد إلى الخلف بخطواتٍ بسيطةٍ:
-هونوا عليكم يا رفاق، ما الذي تفعلونه؟

لم يتلقَ إجابةً من الرجال أمامه، كانت لورلاي المتحدثة الوحيدة:
-إن ذهبت معهم دون افتعال أي مشكلة لن يتم أذيتك.

صرخ أوسكار معترضًا:
-ما هذا الهراء! كيف يمكن لكم أن تُبعدوني؟ فلم تبدأ المسابقة بعد، هذا غير عادل.

-لقد بدأت المسابقة بمجرد أن أقلعت الباخرة، كل من هنا قام بتسجيل نفسه بنفسه في ورق التقديم كلاعب، لذلك، أنت تعد لاعبًا الآن، وكونك لم تحترم الخصوصية معي، فأنت قد انتهكت قانونًا يفرض عليك الحرمان من حقوق المشاركة في المسابقة.

-لم نعلم ذلك من قبل، هذا الهُراء يُعد غِشًا.

-لم تترك لي فرصة من أجل سرد القوانين سيد أوسكار، أنت تريد عرضًا فقط.

شعر أوسكار بالارتباك، وملامح وجهه ظهر عليها الخوف من فقدان فرصته للأبد:

-ولكن أين سأذهب؟ نحن في منتصف البحر.

-سوف تعود إلى اليابسة على قارب نجاة.

-لا.

-مع أحد الرجال لدينا

-لا.

-حتى يضمن لك عودةّ سالمةً.

-لا.

-لقد تم اتخاذ القرار بشأنك، الوداع سيد أوسكار.

كان أوسكار يصرخ بـ"لا" كلما تحدثت لورلاي بجملة، وخاصة عندما بدأ رجالها بجره بعيدًا، أصبح يصرخ بالرفض كالمجنون، وهو يحاول تخليص نفسه بمناجاته أصدقاءه.

الجميع كان يُراقب، بعضهم خاف على نفسه، وبعضهم تساءل كيف سيتم إيصال ذلك البغيض أوسكار إلى دياره، وبعضهم لم يكن مهتمًا بما سيحدث له البتة.

لقد كان وحده من يتصرف كالمهرج لكي يلفت الانتباه، ولكي يضمن لنفسه الدخول في مجموعة تتصرف مثله تمامًا وتقبله، ولكنه وبطريقة أخرى قد حصل على الاهتمام أخيرًا، حتى وإن كانت النتيجة لا تعجبه ففي النهاية على المرء أن يحصد ما زرع.

بعد أن اختفى ذلك الرجل الأهوج شعر الجميع بهدوء المكان، إذ حل الصمت بين عدد غفير من المشاركين والذي يصل عددهم نحو ١٠٠٠ مشترك أو أكثر.

نظرت لورلاي لكل الموجودين وهي تبتسم برضا، بعد أن خيم الصمت على المكان عرفت أنها أمسكت بزمام الأمور وأن كل كلمة ستقولها الآن سيتم أخذها بعين الاعتبار، ثم أكملت عرضها:

-أهلا بكم في مرحلة الإقصاء الأولى "ما قبل النزول"، عزيزي المشترك هذه المرحلة طوعية، سوف تُقرر بنفسك إن كنت ستعود أدراجك أم تُكمل رحلتك معنا.

إن كان قرارك العودة، النتيجة هي أن تركب في قارب يأخذك إلى اليابسة، خال الوفاض، وإن كنت ستكمل سيتم منحك نصف مليون دولار.


عندما ذكرت تلك اللورلاي المال شدت انتباه الجميع بمن فيهم إدجار، وكيف لا والمال هو الفاكهة الوحيدة التي لا أحد يريدها أن تنتهي.

بعد أن نالت لورلاي اهتمام الجميع أكملت:
-لكن، لن يتم منح ذلك المال لك الآن وهنا؛ وذلك حفاظًا على المبلغ من السرقة، بل سيتم إرساله لذوي القربى من الدرجة الأولى لك، وذلك القريب سوف يتم تحديده من قِبل المتسابق نفسه.

بعد أن ذكرت أمر القريب، تذكر إدجار أنه لا يملك أي قريب من الدرجة الأولى أو حتى الأخيرة، وكل ما يعرفه أن ابتسامة السيدة باربرا بوجهها البشوش لاحت أمام عينيه.

إذًا، سوف ترسل المال لأمك المُدعية يا إدجار! هل بدأت تنزع قناع اللامبالاة وتظهر بعض الاهتمام؟ أم أنك لا تمتلك خياراً آخر؟ فالنقود يجب أن يتم إرسالها شئت أم أبيت.


الخيار الثاني يناسبك تمامًا، فأنت مجرد وغد حقير، هذا هو أنت.

أكملت لورلاي بينما توزع بصرها على الواقفين:
-من يريد أن يتابع هذا الطريق يستطيع أن يتوجه إلى مكان التسجيل أول مرة وليكتب إلى جانب اسمه عنوانًا ورقم الاتصال الخاص بمن يريد أن يستلم المبلغ عنه، مع ملاحظة من أجل المستلم.

ومن لا يُريد المتابعة يستطيع أن يقف إلى جهة منعزلة، وسوف يتم اتخاذ إجراءات الانسحاب معه بكل بساطة.

دفعت كلوديا رجلين كانا يقفان أمامها ثم تقدمت وهي تسأل:
-المعذرة سيدتي، لدي سؤال، كيف سنعلم أن المبلغ قد وصل؟ ومتى سيتم إرساله؟

-سوف تبدأ عملية إرساله منذ هذه الليلة حتى الانتهاء، يمكن للجميع أن يحظَ بمكالمة مع المستلم من أجل الاطمئنان.

-لكن لا يوجد لدينا تغطية للشبكة في هواتفنا.

-هذا بسبب أننا ابتعدنا عن الأماكن التي تغطي الاتصال، لدينا وسيلة اتصال لا تقلقي بهذا الشأن آنسة كلوديا.

انقطع صوت كلوديا وهي تشعر بالذعر مع رعشة طفيفة في جلدها بمجرد أن نطقت لورلاي اسمها ودون معرفة مسبقة، حتى وإن علمت أنها قد أخذت الاسم بواسطة المساعدة إلا أن هذا مايزال مخيفًا بالنسبة لها.

ابتسمت جنجر في وجه سوزان والتي بدت سعيدة كذلك، فكل ما سألت عنه كلوديا كانت أسئلة قد اجتمعن عليها.

يبدو أن الجميع سيشارك يا لورلاي، هنيئًا لكِ نجاحك الساحق هذا، لقد خسرتِ متسابقًا واحدًا أحمقًا فقط، بل لنقل أنه لا يُعد خسارة مطلقًا، أليس كذلك؟

عندما وقف إدجار أمام دفتر التسجيل الضخم، نظر إلى اسمه المسجل، ثم دَون اسم ومعلومات السيدة باربرا وترك ملاحظة بسيطة:
"هذا ثمن السترة، إدجار".


ألن تقول شُكرًا؟! أم هذه هي طريقتك الخاصة في شكر أحدهم؟ أن تعطي مالًا رغماً عنك وتدعي أنه عن طيب خاطر!

أنت تبدو كشخص يشك في نفسه وأنت تنظر إلى ما كتبته، هيا توقف عن التصرف كفتاةٍ ضعيفةٍ، لملم شتات نفسك وتوقف عن الاكتراث، هذا ليس أنت.


وضع إدجار القلم جانباً، ثم خرج عن الصف كي يحل من خلفه مكانه.

ها أنت ذا قد قررت أن تكون الوغد الرابح مجدداً
"أعطيتني سترة، وأعطيك نصف مليون دولار في المقابل."

‏ لا تشعر بالندم لاحقًا إن خسرت؛ لأنه لا يمكنك أن تتنازل عن كبريائك وتطلب من سيدةٍ عجوزٍ أن تُعيده.

لم تكن ملاحظتك لها "احتفظي به حتى أعود."

لأن هناك صوتٌ في داخلك وبتلك اللحظة أخبرك بأنك لن تعود إليهم.

أبداً.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي