12

الفصل الثاني عشر

شقراء طويلة يكسو جسدها فستانها الأصفر وسط زهور عباد الشمس، تمد يدها وتحرك أناملها باتجاه أنامل صغيرة، والهواء يداعب شعرها الناعم مغطيًا وجهها.

-أمي، انتظريني!

-هيا إدي، هات يدك.

كان طفلًا في السابعة من عُمره يلعب ويلهو برفقة أُمه بينما يتنزهان ويمسكان بأيدي بعضهما.

-ما الذي يجعلك خائفًا يا طفلي الصغير؟

-النحل.

-لا يوجد نحلٌ هنا، لا تخف واذهب للعب مع الأطفال.

-لا أريد.

-لماذا؟

-أكره الابتعاد عنك.

-وأنا كذلك عزيزي، لكن لا يمكن أن أكون معك في كل مكان.

-لا أريد.

-حسنًا لا تغضب؛ لن أبتعد عنك مُطلقًا، فقط عندما تذهب إلى المدرسة.

تنهد الطفل إدجار باستياء، جاعلًا أمه تضحك بسعادة غامرة.

ثم فجأة اختفى ذلك المشهد، وكبر إدجار ليصبح في السابعة عشر من عُمره وهو مُرغم على الخضوع، وأمه تصرخ في جهة أخرى:

-دعا ابني وشأنه، أيها المريضان، اطلب منه أن يترك طفلي.

صفعها الرجل الذي كانت تخاطبه فارتد جسدها ضد الحائط وهو يقول:
-قام زوجك بتحدي رئيسنا وسوف نذله بابنه.

نظرت الأم إلى ابنها المُمَدد على الأرض والذي كان وجهه يلتصق بالأرضية الخشبية، بينما يقوم بتثبيت ذراعيه رجُل آخر لا يضمر له خيرًا.

يصرخ بـ "دعني وشأني، أفلتني أيها الخنزير"، لكن لا جدوى.

لم تحتمل أمه رؤيته على هذا الحال، اندفعت نحو الذي ضربها ووضعت يدها على السلاح في خصره.

فشلت باختطافه لكنها أحكمت قبضتها عليه لتبدأ من أجله بصراع مع الرجل، والذي كان يشتمها ويضغط على أسنانه ببعضها.

شعر أنها ستحصل عليه فضربها بكوعه على ظهرها ورغم صرخة الألم هي لم تفلت يدها.

فشد شعرها بيده الضخمة وجعل صراخها يزداد لكنها قاومت كل ما تشعر به من ألم لتتمكن من سحب السلاح ويد الرجل ما تزال ممسكة به حيث ارتفعت أيديهم بالهواء وكل منهما لا يريد ترك ذلك السلاح للآخر.

لم تفلت الأم ذلك السلاح من يدها بل ساعدت نفسها بيدها الأُخرى، كانت قويةً رغم رقة عظامها، ولكنه كان أقوى منها، ومن الصعب أن تقهره امرأة مثلها.

حين بدأت تتزعزع وتضعف قواها شعرت أنها ستُهزم فسددت له ركلة قوية بين قدميه ثم هرعت نحو ابنها ناسيةً أمر أخذ السلاح منه.

لم تكن تفكر جيدًا، فلو كانت تفكر بعقلها لما فعلت ذلك، فحُبها لصغيرها وعاطفتها الجياشة جعلتها تحلق لكي تصل إليه.

كان الرجل سيقضي على حياة ذلك الفتى اليافع بما كان مقدمًا عليه، كان ينوي فيه شَرًا.

وقبل أن يتمكن من إذلاله، وقبل أن تصل له حتى، خرجت الرصاصة من صدرها لتهبط الأم بجسدها على الأرض وهي تمد يدها نحو إدجار الذي كان يصرخ بجنون.

-إيدي...
قالت ذلك ولم تكن تسمع شيئًا، كانت تنظر إليه وروحها تحارب لأجل البقاء، ترفض أن تُغلق عينيها الزرقاوين، فلا ترى إدجار مجددًا.


قال من يثبت إدجار بلوم وغضب شديد:
-ما الذي فعلته أيها الأحمق؟

-ألم ترَ ما حدث؟

-ما الذي سنفعله الآن؟

-افعلها.

-انسى ذلك، ستموت زوجته.

كان إدجار يبكي ويصرخ ب كلمة "أمي"، يطلب منهما المساعدة في إنقاذها رغم أنهما من تسبب بهذه الفاجعة له.

ماذا عساه يفعل في حين لا يوجد غيرهما في الجوار؟!


تجاهل الرجلان مناجاة الفتى اليافع ولم يؤثر بهما حزنه على والدته، والأمر لم ينتهي هنا حيث أخرج الرجل سكينه وغرسها في ظهر إدجار عدة مرات.

حدث هذا في اللحظة ذاتها حين اخترقت الرصاصة التالية رأس أمه أمام عينيه.

لا يعرف إن كان يصرخ من ألم السكين، أم ألم قلبه لفقدان أمه بهذه الطريقة المروعة.

في لحظات كهذه لا يعرف المرء التفرقة؛ فالقلب جُزءُ من الجسد رغمَ أن الألم فيه غير ملموس أو مرئي إلا أنه قد يصل بدرجاته حتى الجحيم.

وكانت هذه بداية دخول إدجار فوهة الجحيم.

حيث لم يتوقف عن المعاناة، يعيش ألم تلك اللحظات كل يوم، لم يكمل تعليمه، توحَش، أغلق على نفسه، وكَرِهَ والده بِشدة لدرجة أنه خرج من المنزل في عيد ميلاده الثامن عشر ولم يعد بعدها.

كان والده مقامِرًا سكيرًا عديم المسؤولية، لم يكن هكذا في السابق، لكنه أضاع نفسه في منتصف الطريق.

لقد حرم نفسه أسرته الجميلة، ولم تدخل السكينة قلبه بعدها، ولن تدخل، مهما فعل، مهما ركع، مهما دعا، مهما توسل، لن تنقذه ديانة على الأرض، وهكذا عاش أعوامه التالية ببؤس شديد ثم قتل نفسه وانقضى أمره منهزمًا.

كان إدجار في الخامسة والعشرين من عُمره عندما وصل له خبر وفاة والده على التلفاز.

حيث كان يجلس مع رجلٍ طاعنٍ في السن والذي كان ينظر إلى عدة الصيد ويرتبها أمامه فوق الطاولة.

غادرت عيون إدجار شاشة التلفاز ونظر أمامه، لكنه لم يكن يرى أو يسمع شيئًا مما يجري من حوله، لقد سمع خبر وفاة والده للتو ولم يبدِ أي ردة فعل.

لقد قرر أن يكبت الحزن في قلبه كما كان يفعل دائمًا.

حينها تحدث الرجل العجوز مخرجًا إدجار من الألوان الرمادية أمامه قائلًا:

-يا له من رجلٍ تعيس، عاش حياته دون بصيرة، ثم قرر القضاء على ما تبقى منها.

التفت إدجار إلى الرجل بجانبه يستمع لحديثه وعيناه تخلو منها الحياة:

-لا أعلم من هو الأكثر إثارة للشفقة، أنا أم هو! انظر إلي! من يراني سيقول أن أقدامي أصبحت في القبر، لا شيء أعيش لأجله، ولا امتلك ما أفعله سوى أن أنام وأفكر بأنني لن أستيقظ في اليوم التالي، أنا أكبر منه بثلاثين عام، كان يستطيع أن يفعل بها الكثير.

تنهد الرجل العجوز ثم أضاف:
-لو أن تلك الأعوام تعود إلي، لكنت قد فعلت الكثير.

-ماذا كنت ستفعل؟

سأل إدجار بصوتٍ مبحوح، ينظر إليه باهتمام وكأنها أمنيته، فأجابه الرجل مبتسمًا:

-يسرني أنك سألت، حسنًا، ما كنت لأغضب زوجتي، ما كنت سأجعلها غاضبة أبدًا، وأبدًا وحتمًا ما كنت سأوقع ورقة الطلاق اللعينة تلك، وكنت سأبقى معها في فترة مرضها.

تنهد مجددًا:
-لو أن تلك الأوقات تعود حقًا لكنت قد جلست بقربها ولا أفارقها حتى آخر نفسٍ لها في هذه الدنيا.

حل الصمت بينهما ليجترع الرجل المسن حزنه، وهو يمسح دموعه متنهدًا بحسرة:

-كنت أحبها، وكانت تُحبني كثيرًا، لقد كنا عشاقًا منذ المدرسة الإعدادية.

كان إدجار يتفاعل مع الرجل ويشعر بحزنه الشديد، يقطب حاجبيه ويدخن من سيجاره.

أكمل الرجل كلامه بعد أن نظر إلى إدجار:
-عليك أن تقلع عن شرب هذا السُم، أنت تخون جسدك، وقلبك، وكل من يحبونك.

لمعت كلمة "يحبونك" في ذهن إدجار بل مزقت قلبه حيث تذكر أمه، فهو لا يتذكر أحدًا أحبه بالطريقة التي فعلتها.

كما قال العجوز، أمك لم تكن لتحب أن تراك تُدخن عزيزي إدي، بل كانت تريدك أن ترتاد الجامعة وتتخرج، تحصل على وظيفة وتتزوج، بالطبع لن تتمنى أن تحصل على حبيبة لأنها ستخشى على قلبك، ففي فترة الدراسة يرتبط الشاب وينفصل كثيرًا، خاصة إن كان وسيمًا مثلك، لكنها لو عاشت كنت ستتخذ حبيبة في كل الأحوال.

كانت والدة إدجار تعلمه كيف يجب أن يتصرف مع النساء، علمته الرقص البطيء، وعلمته الإحسان، وعدم الخيانة، والدعم النفسي لمن حوله.

علمته أشياءً كثيرةً وأهمها حُب نفسه حتى يتسنى له أن يعيش حياة سعيدة ويعطي نفسه حقها.

لكن إدجار كره نفسه وبشدة، ولولا التضحية التي قدمتها والدته من أجله لكان قد قتل نفسه منذ زمن وانتهى من كل تلك الذكريات التي لا تدعه يعيش في سلام.



أنت لم تصبح ذلك الوسيم الناجح ذو الإنجازات الأكاديمية الرائعة ولم تصبح مهندسًا معماريًا ثريًا، لكنك على قيد الحياة.

منزعجٌ طوال الوقت، تشتم وتلعن تُجار السمك والصيد البري، تتشاجر معهم، وتحوم حولك النساء السيئات، يشتمنك وتردها دون اكتراث، تدخن، وتجلس إلى جانب رجل كهل قد يموت إذا قمت بدفعه دون أدنى جُهد.

قطع الرجل سلسة أفكار إدجار:

-ربما العودة بالسن لعمر العشرينات ستكون أفضل، فبعد أن فكرت بالأمر أدركت أنني قمت بأُمور فظيعة قبل ثلاثين عامًا، أنا أحتاج العودة إلى البداية.




مُضحك يا إدجار، أنت والعجوز تمتلكان الأمنية ذاتها، ربما لو عاد بك الزمن إلى الخلف لما فتحت الباب للرجل الذي كان ينوي إذلالك، فمن أجل إنقاذك أمك قد ماتت.

لو عاد بك الزمن إلى الوراء ربما كنت ستهرب معها قبل وصولهما، أو ربما لكنت انتظرتهما خلف الباب بخنجرك الذي لا يفارق خصرك الآن، و في وعيك هذا لا بد وأنك كنت ستنحرهما دون تردد.

-إدجار، هات حقيبة الخناجر التي على الرف.

نهض إدجار وجلب تلك الحقيبة السوداء ثم قدمها للرجل العجوز، والذي ابتسم فقط ولم يتناولها:

-هذه لك.

شعر إدجار بالامتنان لكنه لم يستطع التعبير عن ذلك، فغَصَبَ الابتسامة على وجهه قائلًا:
-شكرًا لك جوزيف.


قهقه المدعو "جوزيف" بصوته المتعب:

-أنا من يجب عليه أن يشكرك، وهذه هي هديتي لك، لم أعد قادرًا على استخدامها فأنا أجلس على هذا الكرسي المتحرك منذ أعوام طويلة جدًا لا يمكن لي عدها، لقد قدمتها لي زوجتي عندما كنا شبابًا، وبقاؤها معي يُعد خسارة لروعة هذه الخناجر.

لم تخرج الكلمات المواسية لحزن ذلك الرجل من فم إدجار كما يجب أن يحدث، لقد فضل الصمت على نطق أي كلمة يخدع بها غيره، لأنه لا يجد كلمة في كل هذا الكون قد تعوضه خسارته الشخصية، وقول شيئًا في هذه اللحظة سيكون مجرد هراء وكذب بالنسبة إليه.



في عُمق الغابة كانت جثة ريك -الذي تم التهام أكبر جزءٍ منه حيًا أمام جنجر- على الأرض وحوله ثلاثة رجال من أصدقائِه فقط، يقومون بحفر قبرٍ له.

والبقية منتشرون من أجل البحث عن جنجر أو أي شخصٍ من فريق الملاحقين من أجل الانتقام.




فتح إدجار عينيه ووجد نفسه في صندوق السيارة المكشوف في الخلف، فلاحظ أمامه جنجر تلف ذراعيها حول نفسه وكارتر يقف عليهما كحارس.

نظر إلى ذراعه المربوطة بقماشة من أجل منع النزيف، وعندما دقق النظر جيدًا أدرك أنه قميص جنجر، الذي خلعته ومزقته لتجعل منه ربطة سميكة.

اغمض إدجار عينيه بوهن نتيجة النزيف الذي أصابه.


لقد أدرك أنهم وصلوا إلى عمق الغابة، وبدأ يفكر بطريقة تساعده على تخليص نفسه، وحينها فقط تم اطلاق النار عليهم من جهة معينة.

انخفض الجميع خوفًا على أنفسهم، بمن فيهم ماتيلدا التي استلمت القيادة ولسوء الحظ وصلت الرصاصة إلى يدها واخترقتها فتركت المِقوَد مع صرختها العالية.

ونتيجة لذلك انقلبت بهم تلك المركبة على جانب ذلك الطريق المتعرج والمنزلق.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي