26

السادس والعشرون


في ذلك الوقت كان ميكلاي يقف أمام صنبور المياه بعد أن غيّر لباسه الذي تلوث بدمائه الخاصة، ويحاول أن يستجمع شتات نفسه وهو يفكر:

"الله وحده يعلم ماذا وضعوا في جسدي، لقد وضعتني تلك الشيطانة في موقف خطير، إن فضحتها سوف ألقى حتفي وسأتحول لذلك الشيء؛ لذا سأكون مجبرا على الصمت والتغاضي."


أخرجته من أفكاره رسالة وصلت إلى هاتفه وفتحها على الفور:
"سيدي، نصت تعليماتك البارحة بإرسال تقرير ينص على إيقاف المشروع، والآن كلمني السكرتير الخاص بك ويطلب إلغاء هذا القرار، هل ما زلت تؤكد على ذلك؟، أرجو منك التأكيد الآن."

رد ميكلاي مرسلًا على الفور:
"أوقف كل شيء حتى أصل، لقد حدث الكثير وبدأت أرى شيئًا لم يكن في تخيلي أنه سيحدث، أنا أرى أملًا كبيرا في هذا المشروع."

"عُلم، سوف أترك الملف، وأنتظر عودتك بالسلامة حتى تخبرنا بما تحدثت عنه".


عصر ميكلاي هاتفه النقال بيده حتى ابيضت مفاصله، وكتم الغضب الذي كان عليه واضحًا من لمعة عينيه.

وضع الهاتف في جيب سترته ثم غسل وجهه وعنقه مجددًا عله يستطيع استعادة رباطة جأشه، كان يحاول جعل ملامح وجهه طبيعية؛ لا يريد أن يبدو منكوبًا ومثيرًا للشفقة وخاصة أمام لورلاي.


جفف وجهه وارتدى قناع الصلابة بعد أن زفر الهواء من رئتيه عميقًا، ثم خرج من الحمام الخاص بالغرفة.

قبل أن يخرج من غرفته كما أسمتها لورلاي نظر إلى نفسه في المرآة مجددًا وهو يشعر باختلاف في طاقته الجسدية، كان حيويًا أكثر من العادة، وكأنه تناول منشطات، وهذا أثار القلق في نفسه، ففي جميع أحواله السابقة كان يشعر بالإرهاق بمجرد أن يحزن أو يغضب، لكنه لا يشعر بذلك الآن بل على العكس تمامًا.

فخاطب نفسه:
"أنت الآن بخير أيها العجوز، أسرع بالخروج من هذا المكان لكي تعرف كيف تفكر بوضوح لتقرر كيفية التصرف لاحقًا."


بمجرد أنه خرج من الغرفة وجد أمامه رجلين من الحراس المسلّحين؛ يرتديان السواد مع نظارات سوداء وسماعات لاسلكية في أذنيهما، وبسبب ذلك ظهر عليه عدم الرضا فتساءل وقد رفع أحد حاجبيه:
-ماذا تفعلون هنا؟

تحدث أحدهم باحترام شديد:
-نحن هنا لكي نرافقك إلى القارب يا سيدي.

امتعضت ملامحه، وظهر لهما كما لو أنه يشتمهم في سره، إذ يبدو أنه قد تم طرده من هنا بطريقة غير مباشرة.

تجاهل ما قاله الرجل له وتقدم بالسير وهما يجاريانه.

-أنا كنت سأغادر بكل الأحوال، أين هي؟

-تعني السيدة لورلاي؟

-من عساه يدير المكان هذا غيرها؟

-هي تنتظرك أمام القارب سيد ميكلاي.

أكمل طريقه معهم ثم نزلوا بواسطة المصعد إلى الأسفل، مما جعل ميكلاي يتساءل عن كمية الطوابق التي بنتها لورلاي تحت الأرض.

وعندما خرج من ذلك المصعد تأمل الكهف الواسع حوله، ثم تنهد وهو يشم رائحة الصخور المشبعة بالماء، وكان هذا الشيء الوحيد الذي جعله يشعر بالسلام في هذا المكان البغيض والذي يغمره الشرور.

"كيف تورطت مع أشخاص مثل هؤلاء منذ البداية؟ يالي من رجل غبي".


بينما يلوم نفسه تقدم إلى الأمام حيث تقف لورلاي، أكثر شخصٍ يبغضه على الوجود، وبمجرد رؤيتها ازداد بغضه لها.

كانت تضع يدها فوق الأخرى وتنظر له وهي تبتسم كملاك بريء، في حين أنه حافظ على نظراته الكارهة لها وبشكل صريح، فقد انكشفت الأوراق وليس لديه ما يخفيه بعد الآن.

-ما الذي تفعلينه هنا؟

-أقوم بتوديعك بشكل لائق.

قالت هذا وابتسامة ساخرةٌ على شفتيها.

فعلق ميكلاي ساخرًا:
-أجل بالطبع، لِمَ عساك لا تفعلين ذلك؟ أنت لم تحقني جسدي بمادة خطيرة، ولم تفعلي ذلك عمدًا، يا لك من امرأة مسالمة!

ابتسمت له لورلاي:
-لا تنسى أن تسلم لي على ابنتك.

-لا تذكري ابنتي على لسانك، هي لن تكون فخورة بخالة مثلك.

-مع هذا، أنا ما أزال خالتها، هل نسيت كم كنت تتركها عندي؟

-لم أنسَ، وأظن أنك من نسيتِ ذلك، وبمجرد أن تعرف بما فعلته، هي لن تكون سعيدة على الإطلاق.

-أعطيتك فرصة كي ترتاح من أمراضك العقيمة، ما الذي قد لا يسعدها بذلك؟ ولكنك لا تعرف كيف تشكر الآخرين.

-منذ أول مرة رأيتك فيها، كنت أعلم أنك لست الشخص الجيد لي؛ لهذا تقدمت لخطبة أختك لا أنت، والحمد لله أنني فعلت ذلك، وهذا أفضل قرار اتخذته في حياتي كلها.

-أجل، وأنا أشكر الله لأنك فعلت.

-الله؟ أتساءل إن كان سيغفر لك، سوف تغرقين في شرور أعمالك، تذكري هذا، أنت شخص سيء وما تقومين بفعله الآن سوف يلتهمك ويأخذ بك إلى الجحيم، ثقي بكلامي يا لوراي.

نظرت له لورلاي ببرود، وفي داخلها كانت تحاول تجاهل الخوف الذي سببه لها بكلماته، ثم تنحت جانبًا مشيرة له بالانصراف:
-وداعًا ميكلاي.

لم ينطق لها بكلمة أخرى، اكتفى بالمغادرة مع هالته السلبية ولم ينظر خلفه قط.

وضعت لورلاي يدها على شفتيها التي اهتزت لوهلة ثم تنفست بعمق؛ لتطرد الشعور السيء الذي انتابها بسبب حديثها معه.

وعندما استدارت تفاجأت بـهانز يقف أمامها، والذي كانت ستصفعه بسبب إفزاعه لها إلا أنها تمالكت نفسها في آخر لحظة.

-توقف عن التسلل هكذا.


أومأ هانز ثم سأل:
-هل كان يجب أن نقتله؟ لا يبدو أنه سيجعل الأمور تسير بسلاسة.

فهمت لورلاي أنه سَمع حديثها مع ميكلاي وإلا لما سأل عن تصفيته.

-أتمنى ذلك، لكنه مهم في هذه المرحلة.

تخطت هانز الذي بمجرد أن تحركت هي بدأ يسير بمحاذاتها جنبا إلى جنب.

-وجود طفلة في هذا المكان لا يجب أن يعرف به المستثمرون، وأيضًا..

أكمل هانز الجملة عنها:
-حمل تلك المرأة، أعرف، لم يُذكر ذلك بالملفات، لا تقلقي فكل شيء يسير وفق ما نريد.

-جيد، وأيضًا، ما الذي حدث لمن تم عضهم؟

-بعضهم تحولوا، وبعضهم لم يبقى منه شيء ليتحول.

نظرت له لورلاي من زاوية عينها: و؟

-وتفرقوا.

ابتسم هانز في وجهها كمختل ثم أكمل:
-لم أكن قادرًا على مراقبتهم كلهم، لقد كانوا هائجين، ولديهم سرعة عالية في الجري، تمامًا من كلاب مسعورة.

-يبدو أن هذا يعجبك ولا تعتبره مشكلة.

-بالطبع؛ فما حدث يفوق تصور العقل وهذا أمر رائع.

قهقه هانز في نهاية كلامه أما لورلاي فقد صنعت له ابتسامة بسيطة، وهي تعلم أنه الشخص الأسوء، شخص قد يتجاوز كل العواطف الإنسانية، ويتجاهل كل الممنوعات والحدود فقط لكي يرضي شخصًا واحدًا، وذلك الشخص يكون "هي"، مما يجعله مناسبًا جدًا للمهمة التي هو فيها، لذا ستستمر في استغلاله لأقصى حد.

-لا يجب أن أنسى شُكرك، شكرًا لك هانز؛ فبسبب اقتراحك قد شكلنا قسم المُلاحقين واستطعنا جمع عدد كافٍ.

ما قالته زاد فخره بنفس ليضيف قائلًا:

-تعلمت ذلك من رَجُلي الكبير _أبي_ كان يقول لي عندما تصطاد، أنت تحتاج للطُعم، فإذا ذهبت للصيد بدون طُعم سوف تأتي خالي الوفاض حيث لا يمكنك أن تضمن أن تمتلئ سلتك بالصيد الوفير، المال هو الطُعم منذ البداية ، والمئة شخص كان الحصول عليهم سهل جدًا بعد تلك القرارات التي واجهتهم، لقد فهمت نظريته وطبقتها بطريقتي الخاصة.

-معه حق، ولكن هذا لا يجعلني أنسى جهودك، لديك عقلٌ نهمٌ، ومشاعرُ ميتة، أحب هذا فيك، ولو أن والدك هنا لكان سيفتخر بك دون شك يا هانز.

ابتسمت في وجهه للمرة الثانية وهي تعلم أنه مسحور بابتسامتها، ثم تقدمت في طريقها لتتركه حائرًا.

هي تعني أنك لا تمتلك أي مشاعر! وإذا كان الأمر هكذا، كيف يمكن لها أن تفهم إعجابك بها؟ ربما عليك أن تخبرها بذلك بنفسك، أو لا تفعل، فربما ستعطيك الإجابة المُرة في وجهك.


نطق بصوتٍ منخفضٍ يصل لمسامع أُذنيه فقط:
-هل يجب أن أُظهر التعاطف؟ ربما سأفعل ذلك في المرة القادمة.


تُظهر التعاطف مع من؟ مع ١٠٠٠ شخص وضعت حياتهم على شفير الهلاك بنفسك؟ سوف تبدو مجنونًا أكثر، تابع شرورك فهذا أفضل؛ لأنك إذا أضفت الفتاة الصغيرة يصبح العدد ١٠٠١.

وعندما تفكر بالجنين يصبح العدد ١٠٠٢، وإذا حسبت ميكلاي يصبح لدينا ١٠٠٣.

ناهيك عن الرجل المسعور الذي جعلت حياته جحيمًا، وهذا غير التجارب التي كانت قبله.


يجب أن تتوقف عن العد يا هانز، وضعك ميؤوس منه، إما أن تقبلك بكل أفعالك أو فلتذهب هي الأخرى إلى الجحيم.


بعد أن أخذه التفكير، أخرج هانز يديه من جيوب سترته الطبية ثم تحرك يهرول ليلحق بها.

هذا الهانز يلهث لها دون توقف، ودون إدراك.

ومِن العجيب أن يكون هناك شخص لديه هذه الوحشية في أعماقه والشرور في أفعاله بينما يكون قادرًا على معرفة شيء مثل الحب، أو العكس صحيح، وهذا وارد عندما يقنع المرء نفسه بأن ما يقوم بفعله لصالح الخير العام!

بعد التفكير بالأمر أنتما مناسبان لبعضكما كثيرًا يا هانز، هيا، الهث خلفها، كما لو أنك ستبدو لها رائعًا إذا أظهرت الضعف.





يُتبع... في جزء القادم.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي